"واهم من يستطيع أن يفهم الواقع، دون فهم عميق للتاريخ" .. تعد تلك المقولة، قارب الناجة لفهم الأحداث المتسارعة في الدول الغربية، وخصوصا في دول غرب ووسط أفريقيا، والتغيرات المتسارعة بالأحداث السياسية، والتحركات العسكرية لتغيير أنظمة الحكم بتلك البلاد، وأحدث تلك التحركات ما حدث صباح اليوم بدول الجابون، بعد إعلان المجلس العسكري بالبلاد إلغاء نتائج الانتخابات التي جرت السبت الماضي، وحل كافة مؤسسات الدولة من حكومة وبرلمان، وهيئات أخرى.

وهنا نسأل شيخنا الجليل، وهو التاريخ، عن أسباب تلك التحركات وأسبابها، ونجد صوتا رخيما يأتي لنا من عبق الماضي، يجب علينا أن كلمة السر هي استعمرار العصور الوسطى بالألفية الماضية، ولتعلم واقع تلك البلاد، فانظر إلى حال الجابون عبر 60 عاما من إعلان استقلالاه عن فرنسا، لتكتشف أن تلك البقة، ظلت طوال تلك الفترة قابعة للسيطرة والسطوة الفرنسية، عبر قاعدة عسكرية بداخلها، ونظام حكم عائلي بتحكم فرنسين ذلك بالإضافة إلى 12 ألف فرنسي يعيشون داخلها، ويمتلكون اليد العليا داخل هذا المجتمع، أضف إلى ذلك وجود 80 شركة فرنسية بكافة المجالات تعمل بها، وتحصل باريس على 25% من ثروات تلك البلاد عن التصدير الموجه، وهنا نرصد تفاصيل ما أخبرنا عنه التاريخ.

 

دولة غنية في أدغال أفريقيا حكمها عائلي منذ 56 عاما

 

وتعد الجابون، الواقعة في غرب وسط أفريقيا، إحدى أكثر دول المنطقة ازدهاراً، والأعلى في مؤشر التنمية البشرية في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، وساعد في ذلك الكثافة السكانية الصغيرة - التي تقدر بنحو مليوني نسمة - إلى جانب الموارد الطبيعية الوفيرة، خاصة النفط، حتى إنها باتت تعرف بـ«عملاق النفط» الأفريقي، فالدولة التي تبلغ مساحتها 270 ألف كم2 تقريباً، ويحدها خليج غينيا من الغرب وغينيا الاستوائية إلى الشمال الغربي والكاميرون إلى الشمال والكونغو من الشرق والجنوب، استقلت عن فرنسا شكليا عام 1960، ومنذ ذلك التاريخ حكمها ثلاثة رؤساء فقط، جميعهم كان ولائه لقصر الإليزية بباريس، وتتمتع الجابون بثروة نفطية هائلة، منذ اكتشاف العديد من رواسب النفط في المناطق المجاورة للعاصمة ليبرفيل عام 1931، مما جعلها ضمن أكبر 5 منتجين للنفط الخام في جنوب الصحراء الأفريقية، تبعاً لبيانات إدارة معلومات الطاقة الأميركية.

وكانت البداية مع ليون مبا عام 1961، والمتهم صراحة بتطبيق نظام حكم «ديكتاتوري سعى لضمان المصالح الفرنسية»، وبعد وفاته حكمت عائلة واحدة لتلك البلاد، لمدة 56 عاما، وذلك منذ عام 1967، وحتى صباح اليوم عند الإطاحة بالرئيس الحالي على بونجو بعد انتخابات شابتها عمليات تزوير واسعة بحسب إعلان المجلس العسكري صباح اليوم، ففي البداية تولى الوالد عمر بونجو الحكم عام 1967، واستمر حتى وفاته عام 2009، ثم جاء نجله الرئيس الحالي علي، حيث استمر الأب والإبن لمدة 56 عاما بحكم هذا البلد الذي يتحدث80 في المائة من شعبه الفرنسية.

فرنسا لا تزال حاضرة في كل التفاصيل

ورغم مرور ستين عاما على استقلال الجابون، إلا أن فرنسا لا تزال حاضرة في كل التفاصيل، فعند الوصول إلى مطار ليبرفيل، يتوقع المسافرون مواجهة رطوبة استوائية تطغى على الجو، لكن بعد لحظات، تفوح رائحة غير متوقعة: الكرواسان الخارج لتوه من فرن مخبز في نهاية ممر الوصول، والذي يؤشر إلى الحضور الفرنسي الطاغي في تلك البلد بعد ستة عقود من استقلالها، حيث يشعر الفرنسيون عند حضورهم لتلك البلد بأنهم في بلدهم، لما لهم من محال تجارية ومطاعم، وتواجد في كافة أنحاء الحياة التجارية والاقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية بتلك البلد، حيث تتحكم بالاقتصاد عبر 80 شركة تعمل داخل البلاد، مع وجود 12 ألف فرنسي يهيمنون على كافة مناحي الحياة هناك.

وبدوره، وبحسب تقرير سابق نشرته وكالة الصحافة الفرنسية، يرى الباحث الجابوني في علم الاجتماع والأنتروبولوجيا جوزف توندا أن فرنسا هي المتحكم الأول داخل الجابون، وتدير حكمها عبر قصر الحكم الذي يمكن أن تراه عند مغادرة المطار والاتجاه يمينا، حيث تطالعك جادة الاستقلال التي تمتد على طول الشاطئ وصولا إلى مقر القرار السياسي، والى يسارها مقر إقامة السفير الفرنسي في أعالي حديقة مشجرة واسعة، وعلى بعد خمسة كيلومترات، القصر الرئاسي المذهّب الذي شيّده عمر بونغو أونديمبا بعد أن أوصلته فرنسا إلى الحكم عام 1967 ليقود البلاد طوال 42 عاما.

 

لا رئيس إلا بموافقة فرنسا.. بونجو رمز لفرانس أفريك 

ومن الأقوال التي يُعرف بها بونجو الأب، أن للجابونيين وطنا هو الجابون، وصديقا هو فرنسا، وحتى وفاته عام 2009، كان بونجو أحد رموز "فرانس-أفريك"، أي شبكة العلاقات السياسية والتجارية التي شابتها فضائح أحيانا بين فرنسا ومستعمراتها السابقة، ولطالما كانت الجابون، الثرية بالنفط واليورانيوم والتي لا يتجاوز عدد سكانها مليوني نسمة، بلدا مهما لفرنسا في القارة.

ولا تزال الفكرة القائلة باستحالة أن تصير رئيسا بدون موافقة فرنسا رائجة جدا في الجابون، ويضيف توندا أنه "حين يضطر المعارضون للمغادرة إلى المنفى، يجدون ملجأ في فرنسا، وبالعودة إلى محيط المطار، يمتد يسارا جدار رمادي محمي بأسلاك شائكة لأميال، إنه معسكر ديجول، إحدى أكبر القواعد الفرنسية في إفريقيا والتي تضم نحو 400 عسكري، والتي تمثل ضمان الأمان للحكام الموالي لفرنسا حتى تم كسره اليوم.

 

80% من المنتجات تأتي من فرنسا

ورغم ظهور نفوذا جديدا على المستوى الاقتصادي غير فرنسين لحساب مستثمرين، آسيويين خصوصا، سيطروا على قطاعات استراتيجية على غرار الخشب وإدارة المرفأ، إلا أن سطوة الوجود الفرنسي لا يمكن مقارنته بأي شيء آخر، ففي المتاجر الكبرى التي يتسوق فيها الميسورون، المنتجات الفرنسية في كل مكان: زبدة، جبن، حليب، إلخ، ويرى آلان رمبانو ميبيات، مستشار المدير العام لأكبر شركة توزيع في البلاد، تأتي نحو 80 بالمئة من منتجاتها من فرنسا، أن "الاستهلاك في الغابون مرتبط بتاريخها مع فرنسا، لأن الانتاج المحلي ضعيف ويعتمد على الاستيراد من باريس:.

وتبقى فرنسا أول مزوّد للغابون، خصوصا بالمشروبات التي تحتل رفوفا بكاملها، وفي الأحياء الشعبية التي تعرف باسم "ماتيتي"، يفضّل الناس "لا ريغاب"، وهي بيرة محلية لكن تنتجها مجموعة "كاستيل"الفرنسية وموجودة منذ 1960، وبين الأكواخ المتصدعة، تعلو الأسطح اللاقطات الهوائية لشبكة "كانال+" الفرنسية، وتكسر أكشاك شركة "بي ام يو جاي" الورديّة رتابة اللون الرمادي الطاغي على هذه الأحياء، وتجذب الجابونيين المولعين بالرهان على سباقات الخيول، وتعِد الشركة التي يملكها رجل الأعمال الفرنسي ميشال تومي بـ"تغيير حياتك" مقابل بضعة فرنكات، عبر الرهان على سباقات تجري في المنطقة الباريسية.

 

ولكن .. ظل الشعور الوطني أن الحضور الفرنسي استعمار

ولكن رغم تلك السطوة الفرنسية إلا أنه ظل هناك شعور وطني شعبي للكثير من الجابونيين، يرى أن الحضور الفرنسي يمثل استعمار واعتداء، وهو ما عبر عنه مغني الراب الشهير إيكومي ندونغ في إحدى أغانيه التي يتساءل فيها: "متى نرى قاعدة عسكرية كونغولية في وسط باريس؟".

ولكن بالنظر إلى الأمور بواقعية، فعلى الجميع الانتظار لنرى ماهية تحركات المجلس العسكري الحاكم بالجابون منذ صباح اليوم، فهل يكون هذا التحرك هو بهدف القضاء على زعيم موالي لفرنسا، واستبداله بسلطة – أيا كان شكلها – موالية أيضا لفرنسا، أم تكون تلك التحركات هي صحوة ضد الفرنكفونية كما هو الحال بدول غرب أفريقيا الأخرى التي حدثت بها نفس اللأحداث بتحركات عسكرية على مدار السنوات الثلاثة المالية، وكان آخرها ما يحدث في النجير، وهي الأسئلة التي ستجيب عنها الأحادث بالأيام القادمة.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: صباح الیوم تلک البلاد

إقرأ أيضاً:

نائب رئيس الأركان والملحق العسكري الفرنسي لدى البلاد يبحثان الموضوعات ذات الاهتمام المشترك

بحث نائب رئيس الأركان العامة للجيش الكويتي اللواء الركن طيار صباح جابر الأحمد الصباح مع الملحق العسكري لجمهورية فرنسا الصديقة لدى البلاد العقيد فرنسوا ديكيس المواضيع ذات الاهتمام المشترك لا سيما المتعلقة بالجوانب العسكرية وسبل تعزيزها وتطويرها بين البلدين الصديقين.

وذكرت رئاسة الأركان العامة في بيان صحفي أنه تم خلال اللقاء تبادل الأحاديث الودية ومناقشة أهم الأمور ضمن محور الزيارة.

المصدر رئاسة الأركان الوسومالأركان العامة فرنسا

مقالات مشابهة

  • الدفاع الفرنسية: اكتمال تدريبات 2300 جندي أوكراني
  • الدفاع الفرنسية تعلن اكتمال تدريبات 2300 مقاتل أوكراني على أراضيها
  • كرة القدم وحروب الإبادة: النسخة الفرنسية من صناعة الهولوكوست
  • خيري بشارة: أنا من عائلة برجوازية وجريء في أفلامي عكس الواقع
  • بين عمر 20 إلى 60 عاما.. التغيرات التي تطرأ على الأسنان بمرور الزمن
  • الشرطة الفرنسية تستخدم الغاز المسيل للدموع لتفريق مظاهرة مؤيدة لفلسطين
  • نائب رئيس الأركان والملحق العسكري الفرنسي لدى البلاد يبحثان الموضوعات ذات الاهتمام المشترك
  • إنستجرام يحيي التاريخ المصري القديم عبر تجربة الواقع المعزز
  • مكافحة الأمراض: الجرعة التي تعطى حاليا تعزيزية بسبب تدفق المهاجرين
  • سفير فرنسا من العيون : الصحراء المغربية تشكل أفق جديد للإستثمارات والإستراتيجيات الفرنسية