لجريدة عمان:
2025-02-22@23:35:57 GMT

فــي المفارقــة الأوروبيـة

تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT

لا يجادل اثنان في أن أحوال بلدان أوروبا - مجتمعات ودولا - في كنف «الاتحاد الأوروبي» أفضل، بما لا يقاس، من أحوالها متفرقـة قبل قيامه في أواخر القرن العشرين الماضي. لقد وفـر لها إمكانا تاريخيا غير مسبوق للانتقال من دول متنافسة بينها، مقيمة داخل حدودها، إلى دول متعاونة بل ذاهبة بتعاونها البيني إلى حدود الاندماج والشراكة، رافعة عوازل الحدود السياديـة الاقتصادية بينها، ومؤسسة فضاء إقليميا جيو- اقتصاديا مشتركا وموسعا سرعان ما تعاظم نطاقه لينتقل من فضاء شامل بلدان أوروبا الغربية إلى فضاء شامل مجموع بلدان القارة - غربا وشرقا - بعد انتهاء الحرب الباردة وزوال الاستقطاب الدولي.

وهو يمثـل، اليوم، أضخم اتحاد إقليمي أو قاري في العالم من حيث عدد الدول الشريكة فيه لا من حيث التعداد السكـاني الذي يعاني تناقص نسبة النمـو الديمغرافي، خاصة في المركز الغربي للقارة.

إلى ذلك أمكن أوروبا، من خلال إطارها الاتحادي الإقليمي هذا، أن تتحول إلى قطب اقتصادي عالمي كبير هو الثالث، قـوة وترتيبا، حتى الآن، بعد القطبين الأمريكي والصيني. وهذه الصيرورة القطبوية التي صار إليها هي ما وفر لأوروبا وسائل حماية مصالحها من الذيول والتبعات السلبية التي ألقـتها العولمة على بلدان العالم كافة: في مراكزه وهوامشه معا، ورفع من معدل قدرتها على خوض المنافسة الصعبة مع مراكز العولمة الكبرى: الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، اليابان. وما كان يسع «الاتحاد الأوروبي» أن يحرز، بسهولة، هذا النصيب الهائل من النجاح في التأقلم مع لحظة انقلابية عسيرة مر بها العالم (هي لحظة العولمة)، لولا أن القسم الغربي من بلدانه أجرى تمرينا ناجحا - طويل الأمـد - على علاقات التعاون والاندماج الاقتصادي في إطار «الجماعة الأوروبية» لما يقارب الثلاثة عقود (قبل قيام الاتحاد)، الأمر الذي تسهـل فيه على دول أوروبا ما كان يمكن أن يكون لدى غيرها معسورا... لئلا نقول مستحيلا. وليس أدل على ذلك النجاح المغنوم من صمود «الاتحاد الأوروبي» أمام امتحانات داخلية كثيرة، ومن إنجازه هدف الوحدة النقدية والاستقلال بعملة واحدة جامعة.

هذه من الحقائق الجديدة التي لم تعد موضع شك أو جدل أو مناكفة. بل سرعان ما بات النموذج الاتحادي الإقليمي الأوروبي نموذجا ملهما لدول عـدة في الأرض، خصوصا تلك التي تجمع بينها أواصر القرابة التاريخية والجوار الجغرافي، ناهيك بأنه ظل مهيب الجناح يحسب له الحساب بين القوى الكبرى. مع ذلك، وكائنا ما كان مبـلغ المدى الذي سيبلغه تألـق «الاتحاد الأوروبي» ورسوخه في نظام الاقتصاد العالمي وعلاقات قواه، فإن الذي لا مرية فيه أنه لن يكون قادرا، يوما، على بلوغ ما بلغـته مراكز أخرى من تماسك: مثل الولايات المتحدة، والصين، والهند، والبرازيل، وروسيا. إن نقطة ضعفه تـقع خارج نظامه الاقتصادي: في كيانيـته السياسية، وجغرافيـته القومية والثـقافية واللسانية؛ وهذه من مواد بناء أي اندماج وتوحيد.

مشكلة «الاتحاد الأوروبي» أنه اتحاد دول- أمـم مختلفة، بينها من التباينات الكثير الكثير، ناهيك بأنها ما برحت تتمتع بسياداتها القومية حتى الآن؛ وهذا مما يختلف فيه مع مراكز اقتصادية دولية نظير ذات كيانية واحدة مبنية على الاندماج القومي. حتى الولايات المتحدة الأمريكية - الأقـل مركزية من الصين والهند وروسيا والبرازيل...- لا تشبه حالة الاتحاد لأن نظامها الاتحادي الفيدرالي قائم داخل أمة واحدة مترامية الأطراف. صحيح أن تلك الدول- الأمـم الأوروبية ارتضت أن تتنازل عن مساحة كبيرة من سياداتها الاقتصادية من أجل أن تقيم نظاما اقتصاديا موحدا ومندمجا، وأن ذلك النظام نجح في التكـون والرسوخ وانتظام الأداء على النحو الذي أعاد أوروبا إلى مسرح المنافسة الدولية، غير أن نشوء اتحاد اقتصادي ضخم لم يغير في شيء من حقيقة استمرار دول أوروبا مستقلة عن بعضها وذات سيادة تخول كل واحدة منها أن تتمتع بقرارها السياسي المستقـل. وهذه حقيقة ما غير منها، كثيرا، أنها توافقت على إنشاء مؤسسات سياسية مشتركة تنهض بدور إدارة السياسات الخارجية للاتحاد التي اجتمعت عليها دوله (= «المفوضية الأوروبية» في بروكسيل).

لم نشدد على مسألة السيادات القومية الأوروبية - بوصفها عائقا يحول دون صيرورة «الاتحاد الأوروبي» قطبا مندمجا متماسكا من الداخل مثل الأقطاب الآخرين - إلا أن دول الاتحاد أخفقت، إخفاقا ذريعا، في الانتقال باتحادها من المستوى الاقتصادي إلى المستوى السياسي. حصل ذلك، رسميـا، منذ أعوام غداة التصويت ضد الدستور الأوروبي في الاستفتاءات عليه في بعض دول الاتحاد. أتى رفض الدستور يفصح عن ميـل إلى تمسك الأوروبيين بكياناتهم السياسية المستقلة ومغالبة أي اندماج يفصلهم عن روابطهم القومية. بدا كأنهم يرتضون إطارا اقتصاديا أعلى من الإطار القومي السيادي، كي يواجهوا آثـار العولمة عليهم، ولكنهم لم يساوموا على سياداتهم القومية التي ظلوا متشبثين بها. وإذا كانت هذه حال شعوبهم، فإن حال أنظمتهم السياسية لم تختلف كثيرا في بعض الأحيان؛ ومن ذلك مثلا حين اجتاح وباء كورونا العالم، ووقفت دول الاتحاد منه موقف دول مستقلة لا رابط بينها؛ بحيث أقـفلت حدودها - التي كانت مفتوحة - أمام بعضها وانكفأ كـل منها إلى داخله القومي. هكذا ترك الاتحاد بعض دوله (إيطاليا وإسپانيا مثلا) عرضة لموت جماعي بڤيروس كان ينهش، يوميـا، آلاف الأجساد والأرواح!

يرد الحرص الشديد على الاستقلالية السياسية والسيادية إلى مركزية الدولة- الأمة ومركزية الفكرة القومية في أوروبا وفي الوجدان الجمعي لأممها؛ إذ ليست الشخصية السياسية المستقلة شيئا آخر غير الشخصية القومية وجملة ما تتسم به - وتمتاز به عن غيرها - من مقـومات تاريخية وثقافية ولغوية وأنثروپولوجية خاصة. هكذا انتهت تجربة الاتحاد بدول أوروبا إلى حالة ربما كانت فريدة في بابها: وحدة اقتصادية في مقابل - وفي كنف - انقسام سياسي وثقافي وقومي ولغوي...إلخ! وما من شك في أنها مفارقة ستضعف حظوظ دول أوروبا في منافسة القـوى العظمى في العالم: قديمها والجديد.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی دول أوروبا ما کان

إقرأ أيضاً:

65 عامًا وأكبر: هل يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة ديموغرافية؟

سجلت إيطاليا والبرتغال وبلغاريا أعلى نسبة من السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا في الاتحاد الأوروبي في عام 2024. لكن كيف ستتطور التركيبة السكانية لأوروبا حتى عام 2100؟

اعلان

في بداية عام 2024، قُدِّر عدد سكان الاتحاد الأوروبي بـ 449.3 مليون نسمة، أكثر من خُمسهم يبلغون 65 عامًا أو أكثر.

ويمثل هذا العدد زيادة بنسبة 0.3% مقارنة بعام 2023 وارتفاعًا بنسبة 2.9% مقارنة بعشر سنوات سابقة، وفقًا لأحدث أرقام يوروستات.

في عام 2024، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا في 26 دولة في الاتحاد الأوروبي مقارنة بعام 2023، ولكنها انخفضت فقط في مالطا. وكانت البلدان التي سجلت أعلى نسبة من الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن 65 عامًا في إيطاليا (24.3٪) والبرتغال (24.1٪) وبلغاريا (23.8٪) وفنلندا (23.4٪) واليونان (23.3٪) وكرواتيا (23.0٪).

وفي الوقت نفسه، سجلت لوكسمبورغ (15.0%) وأيرلندا (15.5%) أدنى نسبة.

ومن المتوقع حدوث اتجاه تصاعدي في شيخوخة السكانفي العقود المقبلة بسبب زيادة طول العمر وانخفاض مستويات الخصوبة باستمرار. وهذا يمكن أن يؤدي إلى "زيادة العبء على من هم في سن العمل لتوفير النفقات الاجتماعية التي تتطلبها تقدم السكان في السن لمجموعة من الخدمات ذات الصلة"، وفقًا لوكالة الإحصاءات الرسمية للاتحاد الأوروبي.

Relatedاليونان: ملامح ديموغرافية ومستقبل الجيل الصاعدأزمة ديموغرافية في أوكرانيا: عدد السكان يتراجع بنحو 10 ملايين نسمة منذ الحربمدافعون عن البيئة: أمام الانفجار الديموغرافي التخلي عن الانجاب ضروري لانقاذ المناخ

وشكّل الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 0 و14 سنة حوالي 15% من سكانالاتحاد الأوروبي، في حين شكّل الأشخاص الذين يعتبرون في سن العمل أكثر من 60%. ولوحظت أعلى نسب للأطفال في عام 2024 في أيرلندا بنسبة 18.9%، والسويد بنسبة 17.1% وفرنسا بنسبة 17%.

من ناحية أخرى، سُجلت أدنى النسب في إيطاليا (12.2%) ومالطا (12.3%) والبرتغال (12.8%).

كيف ستبدو التركيبة السكانية للاتحاد الأوروبي في عام 2100؟

تراوح متوسط الأعمار في دولالاتحاد الأوروبي في عام 2014 بين 39.4 سنة في أيرلندا و48.7 سنة في إيطاليا.

وخلال الفترة من 2014 إلى 2024، ارتفع متوسط العمر بمقدار 2.2 سنة.

أما على مستوى الدول الأعضاء، فقد شهدت إيطاليا وسلوفاكيا واليونان والبرتغال زيادة قدرها 4 سنوات في متوسط الأعمار.

وبالمقابل، سجلت ألمانيا انخفاضًا طفيفًا من 45.6 سنة في عام 2014 إلى 45.5 سنة في عام 2024، كما انخفض متوسط العمر في مالطا من 40.5 سنة إلى 39.8 سنة خلال نفس الفترة.

ومن المتوقع أن يبلغ عدد سكان الاتحاد ذروته عند حوالي 453.3 مليون نسمة في عام 2026، قبل أن يبدأ في الانخفاض التدريجي ليبلغ نحو 419.5 مليون نسمة بحلول عام 2100.

وفي سياق متصل، يُتوقع أن يرتفع متوسط العمر بمقدار 5.5 سنوات، منتقلاً من 44.7 سنة في عام 2024 إلى 50.2 سنة بحلول عام 2100.

كما يُتوقع أن تتضاعف نسبة الأفراد الذين تبلغ أعمارهم 80 عامًا فأكثر بين سكان الاتحاد الأوروبي بمقدار 2.5 مرة، لترتفع من 6.1% في عام 2024 إلى 15.3% بحلول نهاية القرن.

منتج شريط الفيديو • Mert Can Yilmaz

Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية الأمن السيبراني: من هي الدول الأكثر عرضة للخطر في أوروبا؟ أوروبا وخطر المعلومات المضللة: 42% من الشباب يستقون الأخبار من وسائل التواصل العمل عن بُعد في أوروبا: هل انحسرت شعبيته بعد جائحة كورونا أم لا يزال صامدًا؟ الاتحاد الأوروبييوروستاتدراسة سكانية - ديموغرافيااعلاناخترنا لكيعرض الآنNext ترامب: لن أفرض خطة غزة بالقوة ومشاركة زيلينسكي في المحادثات حول أوكرانيا لا تهمّ يعرض الآنNext برلين: عملية طعن عند النصب التذكاري للهولوكست وإحباط هجوم ضد السفارة الإسرائيلية يعرض الآنNext بعد حوادث التخريب في مياه البلطيق.. بروكسل تكشف خطتها لتأمين الكابلات البحرية يعرض الآنNext أوروبا تخشى صفقة غير متوازنة في مفاوضات أوكرانيا.. هل يدفع ترامب القارة إلى حافة الهاوية؟ يعرض الآنNext ثلاثة مزاعم أطلقها ترامب حول زيلينسكي والحرب الروسية الأوكرانية.. ما الذي تكشفه الأرقام؟ اعلانالاكثر قراءة نتنياهو يتوعد حماس بدفع الثمن والحركة تعلّق على الالتباس حول جثة شيري بيباس تفجير 3 حافلات بواسطة عبوات ناسفة قرب تل أبيب وإسرائيل تقول إن مصدر العبوات جاء من الضفة الغربية في تطور مفاجئ: إسرائيل تتحدث عن "جثة مجهولة" ضمن صفقة تبادل مع حماس! "يوروبول" يحذر: تصاعد المجتمعات الإلكترونية العنيفة التي تستهدف الأطفال اكتشاف مذهل: العثور على مقبرة الفرعون تحتمس الثاني بعد قرن من الغموض والبحث! اعلان

LoaderSearchابحث مفاتيح اليومالانتخابات التشريعية الألمانية 2025روسيادونالد ترامبأوكرانياقطاع غزةإسرائيلفولوديمير زيلينسكيالصحةالاتحاد الأوروبيسرقةأسرىشرطةالموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2025

مقالات مشابهة

  • «الاتحاد»: الحوار الوطني ساعد في تعزيز مشاركة الأحزاب السياسية على أرض الواقع
  • القوى السياسية والمدنية السودانية خلال اجتماع أديس أبابا: ندين الجرائم التي ارتكبتها ميلشيا الدعم السريع
  • الاتحاد الأوروبي يتجه لرفع العقوبات جزئيا عن سوريا
  • 65 عامًا وأكبر: هل يواجه الاتحاد الأوروبي أزمة ديموغرافية؟
  • الاثنين المقبل موعد تعليق العقوبات الأوروبية على سوريا
  • مسيرة العمل الشعبي الفلسطيني في القارة الأوروبية.. قراءة في كتاب
  • شهر على عودة الرئيس ترامب.. الأيام الثلاثون التي هزت العلاقات بين ضفّتي الأطلسي
  • وزير الاقتصاد يلتقي بوفد من مفوضية الاتحاد الأوروبي
  • بعد تأهله لدور الـ 16 من دوري الأبطال.. ريال مدريد يتصدر تصنيف الأندية الأوروبية
  • “غزة ليست للبيع”.. أوروبا تنتفض ضد خطة التهجير التي يتبناها ترامب