فيسبوك.. حياة تشبهنا ولا تشبهنا!
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
تراتبية الأوضاع والعلاقات في الحياة الإنسانية الواقعية دائما ما تجعل بين الناس وبين بعضهم البعض مساحةً مقدرة، وهذه المساحة ليست بالضرورة مساحة للتعالي أو ما شابه، بل هي مساحات مقدرة؛ من شأنها أن تضع حدودا تمسك هوية الأمور، فمبدأ الهوية الذي نفرز من خلاله تمايزا بين الأنواع يصلح في هذه المقاربة التي نظن أن الحديث من خلالها مناسبا.
تطرح الحياة على سطح فيسبوك تفاعلات مختلفة ومعقدة أحيانا حيال التعامل مع طبيعتها ومحتوياتها فيما نعرفه وننكره منها.
وإذا كانت اليوم ترجمة معنى كلمة فيسبوك إلى العربية حرفيا غير كافية لفهم المعنى الدقيق بالضبط لهوية هذه المنصة، وما إذا كانت إعلاما جديدا، أم منبر تواصل اجتماعي فقط، فإن مما سنعرفه وننكره من أحوال تلك المنصة وتفاعلاتها سيجعلنا أكثر استغرابا أمام هويتها.
حين يدخل داخل جديد عالم فيسبوك لأول مرة - حتى وإن كان هذا الداخل شخصا محدود الثقافة - سيلاحظ ذلك التناقض بين ما يبهره من أدوات سلطة الكتابة والتعبير والاعتراض والتعليق التي تمنحها له أيقونات فيسبوك، وبين ما يمكن أن يقع عليه من محتوى لا يرقى إلى أن يقال حتى وراء الغرف المغلقة ناهيك عن الأحواش، وفي الوقت ذاته ذلك الشخص المتخفي وراء ذلك المحتوى التافه هو شخص يمتلك حسابا على قدم المساواة معك!
وحيال تجربة كهذه قد يقع عليها أي متصفح جديد وخالي ذهن على فيسبوك، فإن أول ما سيلاحظه هو غياب أي تراتبية تقتضيها أحوال الحياة العامة لكنها تنتفي في ذلك الفضاء الأزرق؛ الأمر الذي سيجعله في حيرة من أمره.
هل يمكننا أن نعيش حيواتنا العامة ونخالط ميادينها المختلفة بمعزل عن تراتبية معينة تضع أمامنا مساحات بينية مقدرة ومقنعة لنا كي نقيم الفرز والفرق وبالتالي نفهم كل سياق ضمن هويته الخاصة؟
إذا كان الجواب "نعم" كبيرة، فإن أول اهتزاز يصدم قناعة الداخل الجديد إلى فيسبوك هو ما يمكن أن يلاحظه من تلاش لتلك التراتبية!
لكنه في الوقت ذاته يجد ذلك الشخص ما يشبه طبيعة حياته في فيسبوك، فما دام فيسبوك محاكاة رقمية عشوائية للحياة في المجال العام فإن خط التلاشي لتلك التراتبية هو الذي سيكون مثار استغراب الداخل الجديد في فهم الحياة الخام بكل ما تحمله من تناقضات على سطح فيسبوك!
وإذا ما أزحنا سؤال الحربة في هذه المنصة، نظرا للتداخل العجيب في فلسفتها حيث تمنح الكل بالتساوي حريةً متساهلة، فإن ما يمكن استغرابه هو إصرار المنصة على قبول من جعل صفحته صفحة للعامة، لكل المناولات المؤذية وكيفما اتفق!
إن تجاور ما يمكن أن يشبهنا وما لا يشبهنا، في الوقت ذاته، في الحياة على سطح فيسبوك ربما كان تمرينا على تحمل الأذى إلى درجة القبول بالتصالح معه مع مرور الوقت والتعود على تقبل ذلك!
هناك أمور كثيرة تشبهنا فيما نتقبله مما يجري في حياتنا العادية، وهناك أمور لا تشبهنا لكن لها وجود في الحياة مستقل عنا وعن مزاجنا بتلك التراتبية والمساحة التي تكون بيننا، بيد أن هذه المسافة غير الموجودة في فيسبوك ستظل هي التي تضع دائما أمامنا ما يشبهنا وما لا يشبهنا في عالم افتراضي واحد !
هل يمكن القول إن ذلك المعنى الذي يجعل من القائمين على منصة فيسبوك يضعون متصفحي منصتهم على ذلك النحو من إلغاء للتراتبية هو فلسفة تتوخى النسبية المطلقة التي يتعذر معها إدراك الحسن والقبيح، بالاستناد إلى إمكانية أن ما يمكن أن يكون قبيحا في مجتمع قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر؟
ربما علمنا فيسبوك الصبر على الأذى بطريقة في التحمل لا يمكن أن تجعلنا قادرين على تحملها إلا بمخالطة أهل هذا الكوكب الأزرق، وإذا كان فيسبوك لهذه الناحية يزرع في المشتركين قدرة على تنمية الصبر على الأذى فتلك إحدى حسناته بالطبع ضمن حسنات كثيرة له بكل تأكيد.
قد يكون فيسبوك في هذه المرحلة الانتقالية من حياة البشر مستخدمي السوشيال ميديا في العالم بمثابة منصة تهيئة لمستقبل جديد تتحضر له البشرية، وكما أن كل المراحل الانتقالية فيها تجريب مؤذٍ، أحيانا، لكن إلى أي مدى يمكن تدريب الناس على قبول ما لا يألفونه وباستمرار!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما یمکن أن
إقرأ أيضاً:
ما حجم النفط الذي يمكن أن يضخَّه ترامب؟
ترامب رجلٌ لا يُعرَف عنه أنه يركِّز بَالَه كثيرا أو يتعمَّق في الأمور. فهو يحب الصيغ البسيطة. وسكوت بيسَنْت مرشحه لتولي وزارة الخزانة لديه واحدة. إنها صيغة "ثلاثة - ثلاثة -ثلاثة". بيسَنت يريد خفض العجز في الموازنة الفيدرالية للولايات المتحدة بنسبة 3% وزيادة نموها الاقتصادي السنوي بنسبة تساوي 3% من الناتج المحلي الإجمالي وتعزيز انتاجها من النفط والغاز بما يكافئ 3 مليون برميل في اليوم بحلول عام 2028 من 30 مليون برميل مكافئ نفط في عام 2024. الجزء الأخير من هذه الخطة هو الأكثر تقدما. فإدارة ترامب ستفتح المزيد من مناطق الامتياز البرية والبحرية لحفر الآبار وتصادق على تراخيص لمشروعات الغاز الطبيعي المسال. وترامب يريد إيجاد مجلس وطني للطاقة لتقليل الإجراءات البيروقراطية لكل شيء من إصدار الرخص والى التوزيع. (التوزيع هنا بمعنى إنشاء البنية التحتية لنقل وتسليم النفط والغاز المسال الى المستخدمين النهائيين أو أسواق التصدير- المترجم.) إنه يتطلع الى القضاء على الدعومات المالية والضوابط الإجرائية التي سَنَّها الرئيس جو بايدن لتعزيز التحول الى الطاقة الخضراء. والهدف من ذلك هو "الهيمنة العالمية على الطاقة،" وفقا لترامب. ازدهار انتاج النفط في بلاده سيخدم العديد من أهدافه الأخرى. فتصدير المزيد منه سيقلص العجز التجاري للولايات المتحدة. وتحصيل المزيد من العائد الضريبي سيعزز موازنتها. إلى ذلك تحقيق قفزة في إنتاج النفط سيمكن واشنطن من تشديد العقوبات على إيران وفي ذات الوقت يحافظ على رخص الأسعار في محطات الوقود.
إنتاج المزيد من الغاز سيساعد أيضا على الوفاء بالطلب المتصاعد للطاقة من الذكاء الاصطناعي وفي ذات الوقت يعزز اعتماد أوروبا الاقتصادي على شريكتها في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. المشكلة هي أن رغبة ترامب في "حفر المزيد والمزيد من الآبار" ستصطدم بالحقائق الملموسة لسوق الطاقة. الرئيس المنتخب في الواقع يهيئ نفسه للفشل.
فالنفط الأمريكي، خلافا لمعظم الدول البترولية التي تهيمن فيها الشركات المملوكة للحكومة على حفر الآبار، يُضخ بواسطة شركات خاصة تتخذ قراراتها بنفسها. زادت هذه الشركات إنتاجها منذ عام 2022 عندما شرعت أوروبا في التخلي عن البراميل الروسية وذلك بكميات جعلت الولايات المتحدة أكبر بلد منتج للنفط في العالم. وفي أكتوبر سجلت إنتاجا قياسيا بلغ 13.5 مليون برميل في اليوم ارتفاعا من 11.5 مليون برميل عندما بدأت حرب أوكرانيا.
لكي تنتج شركات النفط الأمريكية المزيد منه ستحتاج الى سبب مقنع. لكنها قد لا تجد سببا واحدا يبرر لها ذلك. فالنفط الصخري الذي يشكل معظم إنتاج الولايات المتحدة كان يستخرج بواسطة آلاف الشركات الصغيرة التي لا تتحسب للأمور. وتعني موجة الاندماجات والإخفاقات وسط هذه الشركات منذ أواخر العشرية الثانية عندما تسبب فرط الإنتاج في انهيار الأسعار أن صناعة النفط تتحكم فيها شركات كبيرة وقليلة وتكره المخاطرة.
فَحَمَلة أسهمها يطالبون بتوزيع ثابت للأرباح وعائدات من رقمين (أكثر من 9%.) كما تزيد ندرة رأس المال من ارتفاع التكاليف المرتفعة أصلا. فمع ازدياد الإنتاج نضبت الآبار الأفضل إنتاجا. لذلك شركات النفط الصخري ليس لديها حافز يذكر لحفر المزيد منها ما لم تصل أسعار النفط الى 89 دولارا للبرميل، وفقا لدراسة أعدها البنك الاحتياطي الفيدرالي في مدينة كنساس سيتي. فسعر نفط غرب تكساس الوسيط وهو السعر المعياري لنفط الولايات المتحدة عند أقل من 70 دولارا للبرميل اليوم. وهو بعيد جدا عن تلك العتبة (أي 89 دولارا للبرميل.)
من المستبعد حسبما يبدو أن تتحرك سوق الطاقة في اتجاه يساعد ترامب على بلوغ هدفه. فإمدادات النفط العالمية ليست وفيرة فقط بل لدى أعضاء منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) احتياطيات وفيرة أيضا. في ذات الوقت الطلب ضعيف بسبب النمو الاقتصادي العالمي الفاتر وإحلال سيارات محرك الاحتراق الداخلي بالسيارات الكهربائية. لذلك لا غرابة في أن إدارة معلومات الطاقة وهي وكالة أمريكية فيدرالية تتوقع ارتفاعا طفيفا في إنتاج النفط الأمريكي بحوالي 0.6 مليون برميل في اليوم فقط بحلول عام 2028. وفي يوم 5 ديسمبر قلصت شيفرون ثاني أكبر شركة نفط في الولايات المتحدة توقعاتها للإنفاق الرأسمالي في عام 2025.
وعلى الرغم من احتمال إلغاء ترامب الضرائب التي فرضها بايدن على شركات الطاقة كالرسوم على تسربات غاز الميثان إلا أن قيامه بذلك سيفيد في الغالب شركات استخراج النفط الصغيرة والمسؤولة عن كمية من الانبعاثات لا تتناسب مع حجم إنتاجها. وبحسب مايكل هيغ المسؤول ببنك سوسيتيه جنرال قد يزيد خفض الضرائب لشركات الطاقة الإنتاج بحوالي 200 ألف برميل في اليوم على أفضل تقدير. كما أن تقديم دعم مباشر للإنتاج سيكون ضارا بالحكومة ومناقضا لهدف آخر من أهداف بيسنت وهو خفض عجز الموازنة (بنسبة 3%.)
في الأثناء، تخطط الإدارة الأمريكية لتسريع التراخيص لخطوط الأنابيب الجديدة. ذلك قد يزيد من الجدوى الاقتصادية لاستخراج النفط من الآبار التي يصعب ربط إنتاجها بالسوق. لكن العدد الموجود من مثل هذه الآبار ليس واضحا. ومع ترجيح تولي مسؤولين جدد ليست لديهم خبرة إدارة الوحدات الحكومية التي تصدر التراخيص قد تتعثر المشروعات كما حدث في الفترة الرئاسية الأولى لدونالد ترامب عندما تخطى المسؤولون الإجراءات ما جعل التراخيص عرضة لمواجهة دعاوى قضائية.
لتحسين الجدوى الاقتصادية لمزيد من الآبار قد يحاول ترامب تعزيز أسعار النفط بفرض عقوبات على أي جهة تشتري النفط من إيران أو فنزويلا وأولئك الذين يساعدونهما. لكن من غير المؤكد كيف ستنجح هذه الخطوة. إذ من المحتمل أن يزيد أعضاء أوبك الآخرون الإنتاج لكسب حصة سوقية.
زيادة إنتاج الغاز بكمية كبيرة تبدو يسيرة على الأقل في الورق (نظريا). فمنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا كثرت مشروعات الغاز الطبيعي المسال التي كانت كثيرة أصلا. وتتوقع شركة ريستاد انيرجي الاستشارية أن تصل الطاقة الإنتاجية للولايات المتحدة إلى 22.4 بليون قدما مكعبا في اليوم عام 2030 إذا نفذ ترامب تعهداته في الحملة الانتخابية وذلك ارتفاعا من 11.3 بليون عام 2023. هذه الزيادة تساوي 1.9 مليون برميل مكافئ نفط في اليوم (بحسب مصطلحات الطاقة هذه الكمية من الغاز المُقاسة بالأقدام المكعبة مكافئة لكمية النفط المذكورة من حيث قيمتها الحرارية- المترجم).
ما يعنيه ذلك بالنسبة للإنتاج الفعلي غير مؤكد إلى حد بعيد. تتوقع شركة ريستاد أن يرتفع بحوالي 2.1 مليون برميل مكافئ نفط في عام 2028 مع استهلاك جزء منه محليا. أما الآخرون فأقل تفاؤلا. وتتوقع إدارة معلومات الطاقة حتى في السيناريو الأكثر تفاؤلا أن يرتفع الإنتاج في المتوسط بحوالي نصف مليون برميل مكافئ نفط في اليوم في ذلك العام عن مستواه في عام 2024.
لكي يزداد الإنتاج حقا يجب أن ترتفع أسعار الغاز الى أعلى من 4.24 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، حسب منتجين استطلع آراءهم البنك الاحتياطي الفدرالي بمدينة كنساس سيتي. مع ذلك يتوقع أولئك المنتجون أن ترتفع الأسعار الى 3.33 دولار لكل وحدة حرارية بريطانية فقط خلال سنتين (من حوالي 3 دولارات اليوم.)
وعلى الرغم من أن الطلب على الغاز وهو الوقود الأحفوري الأقل تلويثا سيرتفع إلا أن كميات كبيرة من الإنتاج من أستراليا وقطر وبلدان أخرى ستصل الى السوق خلال فترة ترامب الرئاسية ، وهذا سيحدّ من ارتفاع الأسعار.
كل هذا سيسبب متاعب لطموحات ترامب وبيسنت. يقول بوب مكنالي وهو مستشار سابق للرئيس جورج دبليو بوش "الكميات التي ستنتجها الولايات المتحدة خلال السنوات القليلة القادمة ستعتمد أكثر على القرارات التي تُتَّخذ في فِييَنَّا (حيث تجتمع أوبك) من تلك التي تتخذها واشنطن."
بل يمكن أن تُلحِق سياسات ترامب ضررا بالإنتاج. فرسومه الجمركية قد تجعل مواد مثل الألمونيوم والصلب أغلى لشركات النفط. وقد تردُّ البلدان الأخرى بفرض رسوم جمركية على صادرات الطاقة الأمريكية. وستُضعِف الحروب التجارية النموَّ في كل مكان وتقلل الطلب على النفط والغاز. وقد يتضح أن طموح ترامب في أن يصبح "بارون نفط بلا منافس" ليس أكثر من أضغاث أحلام.