حَظِيَتِ القمَّة الخامسة عشرة لمجموعة بريكس في جنوب إفريقيا بتغطية أوسع من سابقاتها في الصحافة العربيَّة، وهذا أمْرٌ مفهوم مع قرار المجموعة قَبول عضويَّة ثلاث دوَل عربيَّة مطلع العام القادم. وقرار توسيع عضويَّة المجموعة مُهمٌّ في حدِّ ذاته؛ لأنَّه يأتي بعد أكثر من عقْدٍ على المرَّة الوحيدة التي ضمَّت إليها عضوًا جديدًا.
تردَّد قَبل القمَّة أنَّها ستبحث إصدار عملة لدوَل المجموعة على غرار اليورو للاتِّحاد الأوروبي، لكنَّها مدعومة بالذَّهب وذلك للتخلِّي عن استخدام الدولار الأميركي. وبلغ الشَّطط مبلغه لدى البعض بأنَّ تلك ستكُونُ «نهاية الدولار» الذي يتربَّع على عرش النظام المالي العالَمي منذ أكثر من نصف قرن. ورغم أنَّ الدولة المُضيفة نفَتْ أن يكُونَ إصدار عملة موَحَّدة للمجموعة محلَّ مناقشة، إلَّا أنَّ التحليلات لَمْ تتوقف. وبُنيت استنتاجات على مناقشة القمَّة التبادل فيما بَيْنَ أعضائها بالعملات المحلِّيَّة باعتبارها «ضربة قويَّة للدولار» مع أنَّ دوَل المجموعة لدَيْها منذ سنوات نظام مدفوعات للتعامل فيما بَيْنَها بالعملات المحلِّيَّة دُونَ حاجة لحسْمِ سعر الصَّرف على أساس الدولار. حتَّى «بنك التنمية الجديد» الذي أسَّسته بريكس عام 2014 لِيكُونَ بديلًا للمؤسَّسات الدوليَّة التي تهيمن عليها أميركا كالصندوق والبنك الدوليَّيْنِ ما زال التعامل بالدولار يُشكِّل القَدْر الأكبر من محفظته الائتمانيَّة، ولا تتجاوز القروض بالعملات المحلِّيَّة خمس ما يقَدِّمه للدوَل الأعضاء. صحيح أنَّ دوَلًا كثيرة حَوْلَ العالَم، وليس ضِمْن مجموعة «بريكس» فحسب، تحاول التخلِّي عن الدولار في تعاملاتها التجاريَّة، بل وتقلِّل نصيب العملة الأميركيَّة من احتياطيَّاتها الأجنبيَّة، خصوصًا بعدما فعلته أميركا ضِمْن العقوبات على روسيا بسبب الصراع في أوكرانيا. فتجميد الأصول الخارجيَّة الروسيَّة بالدولار جعل أغلب الدوَل تتخوَّف من احتمال تعرُّضها لذلك في أيِّ لحظة إذا لَمْ ترْضَ واشنطن عَنْها. لكن نهاية عصر الدولار لا يزال بعيد المنال حاليًّا.
لا تقتصر أهمِّية الحديث عن عملة موَحَّدة لـ»بريكس» أو تبادل دوَلها بالعملات المحلِّيَّة للابتعاد عن استخدام الدولار على موقف من الولايات المُتَّحدة. إنَّما هي كُلُّها في سياق تصوُّر تكتُّل «بريكس» كمنافس موازٍ لتجمُّعات تغْلب عليها دوَل الغرب مِثل دوَل مجموعة السَّبع الغنيَّة أو حتَّى تجمُّع دوَل العشرين. مع أنَّ التكتُّل الأخير قصدت به الدوَل الغنيَّة ضمَّ دوَل صاعدة لتوسيع قاعدة تحالف اقتصادي عالَمي لا يقتصر على دوَل الغرب الغنيَّة فقط. لكنَّ الانطباع السَّائد، ليس في عالَم الجنوب النَّامي، وإنَّما حتَّى في الشَّمال الغنيِّ هو أنَّ كُلَّ تلك التجمُّعات ما هي إلَّا أدوات لضمان استمراريَّة الهيمنة الأميركيَّة كقوَّة عظمى متفرِّدة وقطب وحيد في العالَم، بَيْنَما هناك توجُّه متنامٍ لأنْ يصبحَ العالَم «متعدِّد الأقطاب». تَقُودُ هذا التوجُّه بالطبع الصين، ومعها روسيا والبرازيل. أمَّا الهند فموقفها مختلف، ليس من تعدُّديَّة الأقطاب ولكن من أن تسلِّمَ زمام القيادة في هذا المنحى لمُنافِستها الصين. وربَّما ترى الهند أنَّ تجمُّع دوَل العشرين، الذي تترأَّس دَوْرته الحاليَّة وتستضيف قمَّته في سبتمبر وتشترك معها فيه الصين، هو نموذج أمثل للتعدُّديَّة القطبيَّة في إدارة شؤون العالَم. وبالتَّالي من الصَّعب تصوُّر أن يُشكِّلَ تجمُّع «بريكس»، وتحديدًا مع توسيع عضويَّته، قطبًا متماسكًا في عمليَّة مستمرَّة لتشكيل عالَم متعدِّد الأقطاب. حتَّى فكرة المنافسة الاقتصاديَّة لا تبدو أساسًا لمناوأة أميركا والغرب. فأغلب تلك الاقتصادات الصَّاعدة تعتمد بشكلٍ كبير على التبادل التجاري مع أميركا والغرب، ولا يتحمل اقتصادها خسارة أسواقها. ولعلَّ العقوبات على روسيا والضغط والقيود على الصين خير شاهد على حاجة «بريكس» وأعضائها المؤسِّسين للتعامل أكثر مع أميركا والغرب.
تبقى أهمِّية تجمُّع «بريكس»، وخصوصًا مع بدء توسيع عضويَّته، في التعاون ما بَيْنَ الدوَل الصَّاعدة فيما بَيْنَها وربَّما علاقتها بشركائها التجاريين حَوْلَ العالَم. بالطَّبع سيظلُّ التوجُّس من أنَّ الصين، باعتبارها الأقوى في بريكس، ربَّما تريد استغلال التجمُّع لمصلحتها الاستراتيجيَّة، سواء داخل دوَل الجنوب أو في صراعها الاستراتيجي مع الشمال وتحديدًا أميركا والغرب. وربَّما يتطلب الأمْرُ من القيادة الصينيَّة التعامل في اتِّجاهين. الأوَّل هو حلُّ خلافاتها مع الهند وإزالة أسباب أيِّ قلق محتمل من نفوذها لدى الأعضاء الآخرين. والثاني الاستمرار في دَوْرها الإيجابي في الجنوب، ليس اقتصاديًّا فقط بزيادة مساهماتها التنمويَّة في البُلدان التي تحتاجها في القارَّات الثلاث، وإنَّما أيضًا بجهد دبلوماسي مِثل ذلك الذي أسْهمَ في المصالحة بَيْنَ إيران والسعوديَّة. كُلُّ ذلك مرهون بالطَّبع بوضع الصين الداخلي من ناحية وقُدْرتها على إصلاح المشاكل التي يعاني مِنْها ثاني أكبر اقتصاد في العالَم، وكذلك بعلاقة الصين بأميركا والغرب.
د.أحمد مصطفى أحمد
كاتب صحفي مصري
mustafahmed@hotmail.com
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: العال م ما ب ی ن الدو ل
إقرأ أيضاً:
برلماني: قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو تاريخي
قال النائب الصافي عبد العال عضو مجلس النواب، إن قرار المحكمة الجنائية الدولية بإصدار مذكرات اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع يوآف جالانت، تاريخي، ويؤكد على ضرورة أن يلتزم المجتمع الدولي بواجباته في تنفيذ مذكرات الاعتقال الصادرة، ودعوة الدول والمنظمات الدولية إلى توفير كل السبل لدعم المحكمة الجنائية الدولية في هذه المرحلة المفصلية.
ولفت عبد العال، في تصريح صحفي له اليوم، أن المحكمة الجنائية الدولية، باتخاذها هذا القرار، أكدت أنها مؤسسة مستقلة لا تخضع للضغوط السياسية، وعلي الجميع دعمها في مواجهة أي محاولات لتقويض عملها.
وأكد عضو مجلس النواب، أن دعم تنفيذ هذه المذكرات ليس فقط انتصارًا للفلسطينيين الذين تحملوا ويلات الاحتلال لسنوات، بل هو انتصار لكل من يؤمن بالعدالة وسيادة القانون، لافتا أن السلام الحقيقي في المنطقة لن يتحقق ما لم يتم إنصاف الضحايا ومحاسبة الجناة.
واختتم النائب الصافي عبد العال، قائلا: العدالة لا تتحقق بالكلمات فقط، بل بالأفعال الحازمة التي تضمن تطبيق القانون وحماية الحقوق الإنسانية.