مع الأديب العم نجيب.. حكايات من مقالات وحوارات
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
قال:
* تتلمذت على أيدي طه حسين والعقاد والمزني ودكتور هيكل وأستاذ توفيق الحكيم، واستفدت من كل واحد فائدة لا تقدر بثمن، وأكثرهم العقاد
* الثورة نفسها ــ وأي ثورة ــ لم تكن ضرورة، ولو أن حكومة الوفد الأخيرة، التي أقيلت في أعقاب حريق القاهرة في يناير ،1952 استمرت في الحكم لمدة خمس سنوات فقط، لحققت كل ما حققت الثورة.
وتجنبت كل سلبياتها
قالوا:
أصلان لنجيب محفوظ: الست أم عبده بتسلم عليك
محمد مستجاب: المُعلم الأول في درس الرواية العربية
جلال أمين: يدس السياسة في الأدب.. وصلاح عيسى يتحدث عن خيبة الأمل الأخيرة لأديب نوبل..
محفوظ وسيد قطب وأنور المعداوي مدواة واحدة وسطور مختلفة
أمينة النقاش تختم الحكاية: محفوظ سيرة عصية على النسيان
عم نجيب.. كل سنة وأنت طيب
سنوات يا عم نجيب لم نشد فيها على يدك.
سنوات لم ننعم فيها بجلستنا، وضحكتك الجميلة المبهجة.
إلا أنك، كما تعلم، في القلب دائما.
الناس هنا في حارة محمد عباس حيث أعيش فرحون، خاصة الست أم عبده التي أطمئنها عليكم دائما.. وهي تسألني بين عقد وآخر:
"هو أنت يا خويا بتشوف سي نجيب؟"
وأنا أخبرها:
"يوماتي على الله".
"والنبي تبقى تسلم لنا عليه".
"من عينيه".
"تسلم عينيك".
والست أم عبده، كما لا بد وأنك لاحظت، حالة خاصة بين أهالي المنطقة. فلقد حدث أنها وضعت عبد الرحمن، آخر أولادها، يوم حصولكم على جائزة نوبل بالضبط، وهي تحسب عمر الولد على هذا الأساس. وكثيرا ما تضع يدها على قرعته وتقول:
"الولد اتولد يوم سي نجيب محفوظ ما أخد الجايزة بتاعة نوبل".
كل سنة وأنت طيب.
الناس كلهم،
وخصوصا أم عبده،
بتسلم عليك.
كان هذا جزءا مما كتبه الروائي الكبير إبراهيم أصلان لمحفوظ عام 2001 في كتاب "خلوة الغلبان" ينقل فيه مشاعر أهل الحارة أبطال روايات محفوظ.
وكان قبلها قد وصف محفوظ الشاب إبراهيم أصلان، حين قدمه إلى توفيق الحكيم لأولِ مرة قائلًا: «يا توفيق بك، إنت عارف إن فيه جيلا جديدا من الكتاب، وهذا الجيل فيه كتاب منهم في المقدمة، وآخرون في مقدمة هذه المقدمة، والأخ إبراهيم من هؤلاء».
وإبراهيم ابتسم خجلًا، وشكر للأستاذ، الذي كان حينها في ذروة عُنفوانه الأدبي، على الاهتمام به وبجيله. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فاهتمام نجيب وصل إلى كتابة تزكية إلى وزارة الثقافة، يدعم فيها اسم «أصلان» لمنحة تفرغ من أجلِ كتابة الرواية، بدلًا من عمله في ورديات ليلية مسائية- منحته لاحقًا متتالية قصصية عالية القيمة- في وزارة المواصلات.
و«أصلان» الذي لم يفكر يومًا في كتابة الرواية، اضطر، لأن المنحة كانت لكتابة رواية وليس قصصا قصيرة، أن يَكتب روايته الأولى، التي سماها «مالك الحزين».
ظل «أصلان» يسمّيه، حتى آخر حياته، بالعم نَجيب، ويَقول أنه يعنيها، فهو «العم»، الذي كان سندًا لسنوات طويلة.
وحين مات نجيب، كتب عنه «أصلان» أحد أجمل الرثاءات التي كُتِبَت يومًا، تصوّر فيه، سبحان الله، أن «الناس، هنا، على أرصفة المدن، في المقاهي والمدارس، في أقسام الشرطة وأحواش البيوت وباحات المصانع والمزارع والملاعب والسجون، في حواري القرى والنجوع والدساكر والكفور، تصورتهم، وقد راح كل منهم يشد على يد الآخر معزيًا في رحيل الرجل الذي كان، لفرط المقام، على الأقل، صار على صلة قربى بكل واحد منهم، والذي، في الآخر، عرّف العالم بأنقى ما فيهم، وأفضل ما فيهم، وجعلهم جزءًا من ضمير الدنيا الثقافي».
عشق أهل الحارة لنجيب محفوظ وعشقه لهم، قال عنه مستجاب في مقاله "المُعلم الأول في درس الرواية العربية» بجريدة القاهرة عدد 4 سبتمبر2012: «من خلال كتابات نجيب محفوظ تشم رائحة الحارة الرطبة الدافئة والتي هي أصل مصر أم الدنيا، تلك الرائحة التي تنفذ للخياشيم وللروح وللملامح وللحشايا فغرقنا فيها وأصبحت بطاقة تعريف لنا وتاج فوق رءوسنا.
وتابع مستجاب في وصف محفوظ: «هو الكاتب المدهش الفذ المُولع بتفاصيل ودقائق الحياة، وطقوسها، الصغيرة والكبيرة، التي نستطيع أن نمسكها والتي لا نستطيع أن نحس بها، إنه يجسدها ويكتبها علي أوراقه، فتأخذك لغته الشعرية، وحواراته الذكية، وأسئلته العميقة، وشخصياته المحورية والثانوية والهامشية، الكل بطل، والكل تحت سيطرة قلمه وفكره، لا أحد يشت أو يهرب، لذا جاءت رواياته مكتملة البناء، مكتملة بالفكر الذي يريد طرحه وتوصيله، للقارئ في رواياته وللمشاهد في أفلامه.
لكن محفوظ كان له رأي آخر في ذلك اللقب الذي منحه له الأستاذ مستجاب بأنه «المُعلم الأول في درس الرواية العربية» إذ قال محفوظ في لقاء تليفزيوني: هؤلاء تتلمذت على أيديهم، دكتور طه حسين وأستاذ العقاد والمزني ودكتور هيكل وأستاذ توفيق الحكيم، واستفدت من كل واحد فائدة لا تقدر بثمن، وأكثر من فادني المرحوم الأستاذ العقاد، لأننا وأبناء جيلي تعلمنا على يديه معنى الحرية، سواء الحرية السياسية أو الحرية بمعناها الفلسفي، وهو في سبيل تلك الحرية سجن في سنة 30 عاما كاملا.
ويضيف محفوظ في حواره: «الأمر الثاني الذي تعلمته من العقاد وهو كرامة الأديب كما يجب أن يكون، لأننا كنا ندرس الأدب في المدارس الثانوية على اعتقاد إتقان النثر أو الشعر للتكسب أو التقرب للكبار، كبار الساسة أو كبار المال، فالعقاد فهمنا إن الأدب رسالة روحية مقدسة وإن للأديب كرامته اللي بتساوي كرامة السياسي والمالي أو تفوقهم، فضلًا عن توجيهه لباقي النظريات الحديثة النقدية التي درست على ضوئها الأدب العربي القديم، وقدم لنا الأدب الأوروبي.
محفوظ وتنظيم الوقت
لن نُحصي من كتبوا عن أديب نوبل فكُثر من كانوا في فلك الأدب مع نجيب محفوظ، وكثر من كتبوا عنه ليس فقط لتفرده ولا لأنه أديب نوبل لكن لأنه من طوع الوقت، فكانت القاعدة الثابتة أن الموهوب في أغلب الأحوال فوضويًا، حتى حطم محفوظ ذلك وأكد أنه لابد من وضع الوقت أمامك لا خلفك، حتى أنه حينما كان يستيقظ ليلا وتأتيه نشوة الكتابة، يتذكر موعد العمل فيؤجل الكتابة لما بين الساعة الرابعة إلى السابعة حسبما وضعها في جدوله اليومي، فتأقلمت النشوة على موعد ثابت، وعن ذلك قال: «البعض فسر ذلك خطأ بأنني أكتب كموظف وأنا ليست لدي نشوة للكتابة، لكن الحقيقة الرغبة دخلت التنظيم فأصبحت تأتي في وقتها، ربما هذا ما صنع الفارق بينه وبين العديد من الأدباء فعلى سبيل الذكر كان سيد قطب وأنور المعداوي ونجيب محفوظ أقلام في مدواة واحدة لكنهم تعاملوا مع الواقع بطرق مختلفة، أما الأول فاستبدل القلم بالسلاح، وأما الثاني فنكل به في وظيفته فأصابه المرض، وأما الثالث فحصل على نوبل، فلم يكن محفوظ صادما في مواقفه مع السلطة وهذا ما أكده الأستاذ جلال أمين في مقال له بجريدة الشروق في 9 سبتمبر 2014 إذ كتب:
«كان لنجيب محفوظ موقف متميز من السلطة الحاكمة يختلف اختلافا بينا عن موقف معظم الكتاب والأدباء والمشهورين من المصريين. وهو موقف ينطوى على توفيق ناجح فى رأيي، بين نظرة المصرى التقليدية والمتوارثة إلى حكامه، وبين شعور الكاتب بالكبرياء واحترام النفس. أعتقد أن نجيب محفوظ كان فى هذا الموقف أيضا، يبدى درجة عالية من الحكمة، كالتى كان يبديها فى كثير من تصرفاته الأخرى.
ويضيف جلال أمين "كان نجيب محفوظ، مثل معظم المصريين، يشعر برهبة الحاكم وبقدرته الواسعة على الإضرار به أو الإنعام عليه كما يحلو له، وهو شعور ربما كان له ما يبرره فى مصر أكثر مما له فى معظم بلاد العالم. إنها ظاهرة فرعونية بلا شك، ولابد أن لها أسبابا تاريخية وجغرافية سحيقة فى القدم، وقد توارثها الفلاحون المصريون، أبا عن جد، وجيلا بعد جيل، ولم تحظ مصر للأسف، فى تاريخها الطويل، بما يكفى لإضعاف هذا الشعور من جانب المصرى نحو حكامه، ولا شعور الحكام نحو الشعب المصرى. كثيرا ما أتذكر صورة معينة نشرتها الصحف لنجيب محفوظ وهو واقف فى مكان مكشوف، فى يوم شديد البرودة، ليستقبل رئيس الجمهورية عند وصوله لافتتاح معرض الكتاب الدولى واللقاء مع المثقفين، ظهر نجيب محفوظ فى الصورة محتميا بمعطفه السميك، وقد انحنى برقبته انحناءة خفيفة جدا، وهو يمد يده لمصافحة الرئيس، ولكن كانت على وجهه ابتسامة مشرقة كعادته وكأنه مبتهج حقا بلقاء الرئيس. قلت لنفسى إن كاتبا مثل عباس العقاد لم يكن ليقف مثل هذه الوقفة، ولكننى لم أشعر بأى ميل للوم نجيب محفوظ وذلك بسبب ما أعرفه عن شخصيته وآرائه ومواقفه. لقد رأى نجيب محفوظ نفسه واقفا لمصافحة فرعون مصر، وفرعون مصر يجب تقديم الاحترام الواجب له (هكذا يشعر نجيب محفوظ) مهما كانت صفاته الشخصية أو عيوبه أو عمره أو درجة ثقافته. والرئيس على أى حال جاء للقاء المثقفين المصريين وتكريمهم، فلا بد أن يقابل هذا العمل بما يستحقه.
ولكن فلتفحص أى تصريح صدر من نجيب محفوظ، أو أى مقال كتبه فى مناسبة سياسية أو غير سياسية، فلن يمكنك أن تجد أى شيء يشبه النفاق أو أى تملق لحاكم أيا كان. ومحفوظ، على أى حال، رغم أنه يدرك الأهمية الشديدة للسياسة والسياسيين فى تحقيق تقدم مصر أو تخلفها، ويتتبع الأخبار السياسية باهتمام شديد، لا يحب الخوض فى أى حديث مباشر فى السياسة، ولو مع أقرب المقربين. لم يكن هذا قطعا من قبيل احتقار السياسة، بل كان مدفوعا بأمرين: الأول حماية النفس من التهلكة، والثانى الحرص الشديد على أن يهيئ لنفسه الظروف اللازمة لاستمرار إنتاجه الأدبى.
قد يبدو من المدهش مع هذا، الأهمية التى تحتلها السياسة فى كتاباته، فهى لا تكاد تختفى أبدا حتى من أكثر أعماله حميمية، ولكنها دائما كتابة أدبية. من السهل أن تكتشف من قراءة ما يكتبه نجيب محفوظ ما يعجبه وما لا يعجبه من السياسات، ولكن من الصعب أن تتخذ منها دليلا قاطعا على معارضته لنظام معين فى الحكم أو لشخص معين من الحكام. هكذا نجد مثلا روايته «ثرثرة فى النيل» ورواية «ميرامار» اللتين نشرتا فى حياة عبد الناصر، وقد تناولت الأولى حالة الاغتراب التى يعانى منها المثقفون، (مما أثار عليه غضب المشير عبدالحكيم عامر وتهديده له)، ووجهت الثانية نقدا شديدا للديكتاتورية، ولكنهما فى نهاية الأمر «قصتان»، لا يمكن أن تتخذا كأساس لإدانة الكاتب ومعاقبته.
وتعقيبا على ما ذكره الأستاذ جلال أمين نسوق جزءا من حوار تليفزيوني لمحفوظ إذ قال أنه كان يأخذ من الروايات التاريخية ستارا لنقد عيوب المجتمع: « بدأت بالروايات التاريخية لأكثر من سبب، فأولًا كانت الكتب التاريخية أكثر ما يُقرأ في تلك الأيام خصوصًا المترجم منها، ثانيا: حينها من يكتب مؤلفات تاريخية إنما كان في الواقع يقصد واقع الحياة التي يعيشها فكان من الأفضل والأحكم أنه لا يهجم على المجتمع هجوما مباشرا، بل يهجم هجوما بـ«واسطة»، يعني على درجة ثانية بواسطة التاريخ حتى يستطيع أن يكتب عن مجتمعه كتابة مباشرة».
وعلى عكس هذا التوازن السياسي الذي تحدث عنه جلال أمين جاء مقال الأستاذ صلاح عيسى بعنوان «نجيب محفوظ: خيبة الأمل الأخيرة»!.. والذي تناول فيه ما جاء في كتاب (رجاء النقاش)، (نجيب محفوظ: صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على حياته وأدبه)، وقد أثار الكتاب ضجة واسعة، لم تقتصر على الانزعاج من الآراء السياسية التي أبداها (نجيب محفوظ)، في بعض ما عاصره من الوقائع السياسية، وبالذات ما يتعلق منها، بثورة 23 يوليو، 1952 وجمال عبد الناصر والسد العالي وتأميم القناة وهزيمة يونيو، 1967 وحرب الاستنزاف، بل شملت ــ كذلك؛ ــ انزعاج الحريصين عليه من تأثير نشر بعض الأسرار الخاصة، التي رواها عن نفسه، على مكانته، ولم تسفر فقط عن الهجوم عليه، والسخرية من آرائه، بل وصلت الى حد التشكيك في دقة ما نقل عنه، وتحريضه على تكذيبه أو على الأقل تأويله، وهو ما رفض نجيب محفوظ أن يفعله، مؤكدا أن ما ورد في الكتاب، هو نص ما قاله.
ويقول عيسى عن ردود الفعل حول آراء محفوظ في ثورة يوليو: «ما فات على الذين صدمتهم آراء (نجيب محفوظ) في بعض إجراءات ثورة يوليو، أن هذه الآراء السلبية لا تعكس موقفه من تلك الإجراءات حين وقعت بالفعل، فمع أنه ظل طوال الوقت يأخذ على الثورة موقفها من الديمقراطية، إلا انه يقول بوضوح إن تأميم قناة السويس قد هز وجدانه، وانفعل به انفعالا شديدا، وأشعل في نفسه مشاعر وطنية متدفقة، وأن موقف (عبد الناصر) الرافض للاستسلام أثناء العدوان الثلاثي عام 1956 قد زاد من حبه وتقديره له، حتى أنه نسي أيامها كل تحفظاته على غياب الديمقراطية، وكما أن فرحته بقيام الوحدة المصرية ــ السورية، كانت لا توصف فقد كان من أشد المتحمسين للقرارات الاشتراكية، وللتدخل العسكري المصري بدعم الثورة اليمنية عام 1962.. وكان يعتقد أن زرع إسرائيل في قلب الأمة العربية، ظلم فادح، وينظر إليها باعتبارها شوكة في ظهورهم، اذا لم ينزعوها فسوف تظل المنطقة في قلق اضطراب، وكان واثقا من أن الجيش المصري سوف يهزم إسرائيل، في تلك الأيام من يونيو 1967، ومع أن هذا الحماس اللاهب كان ينتهي في كل مرة إلى خيبة أمل جديدة، فقد كان (نجيب محفوظ) يسترد تفاؤله بعد قليل، وتنتعش آماله مع كل خطوة ثورية جديدة بأن خطوات الثورة سوف تستقيم لتمضي في طريقها لكي تحقق له ولجيله أحلامهم.. ومع أنه كان يدرك أن الفساد قد يتسلل إلى كثير من المؤسسات، فقد كان لديه اعتقاد أكيد وثقة بالغة بأن الجيش هو المؤسسة الوحيدة التي لم ــ ولن ــ يتسلل إليها الفساد.. وبقدر هذه الثقة وبحجم هذا اليقين كانت صدمته المشروعة، حين سمع (عبد الناصر) يعلن في بيان التنحي الشهير، الذي ألقاه مساء يوم 9 يونيو 1967 نبأ الهزيمة. يقول نجيب محفوظ لرجاء النقاش: لم يحدث في حياتي كلها قبل ذلك أو بعده أن شعرت بانكسار في الروح، مثلما شعرت به في تلك اللحظة. كانت هزيمة يونيو 1967 هي خيبة الأمل الأخيرة، التي قطعت كل ما بين نجيب محفوظ وبين ثورة يوليو من وشائج عاطفية وسياسية فقد أدرك ــ كما قال ــ أنه كان يعيش في وهم كبير، وأن أحلام الثورة، التي عاش في ظلالها الوردية، قد تكشفت عن وهم كبير وعن واقع مؤلم.
بدأ نجيب محفوظ يعيد تقييم كل ما تحمس له وأيده ودافع عنه من قبل.. فكانت حصيلة ذلك مجموعة من الآراء صدمت كثيرين، فتأميم القناة كان خسارة فادحة لمصر، لأنه أدخلها في صدام مباشر مع القوى الكبرى وصفقة الأسلحة التشيكية، التي يقول نجيب محفوظ أنه أيدها عن جهل، قد أضرت بمصر لأنها أحدثت استقطابا دوليا عقد الصراع العربي الإسرائيلي، ومساندة حركات التحرر في أفريقيا، كانت تجاوزا لقانون (على قد لحافك مد رجليك...)، الثورة نفسها ــ وأي ثورة ــ لم تكن ضرورة، ولو أن حكومة الوفد الأخيرة، التي أقيلت في أعقاب حريق القاهرة في يناير 1952 استمرت في الحكم لمدة خمس سنوات فقط، لحققت كل ما حققت الثورة. وتجنبت كل سلبياتها.
وعن معاناة جيله قال محفوظ: «في الواقع أن جيلي هو الجيل التالي لثورة 19 سبقها جيل، في الواقع أحرز انتصارات كبيرة جدًا في الحياة السياسية والاجتماعية لكن حتى وصلنا نحن لدرجة الوعي كانت الحياة في الواقع تنهار خطوة بخطوة، ومُثلها العليا مُرغت في التراب، ورأينا النظام السياسي ينهار على رءوسنا والأمل في الاستقلال أو في الاصلاح الاجتماعي يختفي بشكل مريع جدا، فكنا في الواقع جيل مأساوي.
سيد قطب ونقده لرواية القاهرة الجديدة
«هي قصة المجتمع المصري الحديث، وما يضطرب في كيانه من عوامل، وما يصطدم في أعماقه من اتجاهات. قصة الصراع بين الروح والمادة، بين العقائد الدينية والخلقية والاجتماعية والعلمية، بين الفضيلة والرذيلة، بين الغنى والفقر، بين الحب والمال... في مضمار الحياة.
وهي تبدأ في نقطة الارتكاز في الجامعة، حيث تصطرع الأفكار الناشئة هناك بين طلابها - بفرض أن الجامعة ستكون هي (حقل التجارب والإكثار) للأفكار النظرية التي تسير الجيل.. ثم تدفع بشتى الأفكار والنظريات النابتة في هذا الحقل، إلى مضمار الحياة الواقعية، وغمار الحياة اليومية، وتصور صراع النظريات مع الواقع خطوة فخطوة، تصوره انفعالات نفسية في نفوس إنسانية، وحوادث ووقائع وتيارات في خضم الحياة.
وصفحة فصفحة نجدها في صميم الحياة المصرية اليومية. هذه الأفكار المجردة نعرفها، وهذه الوجوه شهدناها من قبل؛ وهذه الحوادث ليست غريبة علينا. نعم فيها شيء من القسوة السوداء في بعض المواقف، ولكنها في عمومها أليفة. تؤلمنا ولا ننكرها، وتؤذينا أحيانًا، ولكننا نتقبلها!
هذا هو الصدق الفني. فنحن نعيش مع الرواية لحظة لحظة. نعيش مصريين، ونعيش آدميين، وفي المواقف القاسية، في مواقف الفضيحة، حيث تبدو الرذيلة كالحة شوهاء مريرة، نود لو ندير أعيننا عنها كي لا نراها، ولكننا نقبل عليها مضطرين ففي القبح جاذبية! إنها الدمامل والبثور في جسم مصر وفي جسم الإنسانية كذلك، وإذا انفعلنا لها مرة لأننا مصريون، انفعلنا لها أخرى، لأننا ناس وإنسانيون.
لقد اختار المؤلف من بين طلاب الجامعة أربعة ليمثلوا الأفكار والاتجاهات التي تتصارع في المجتمع الحديث...!
الأول: الإيمان بالدين والخلق والفضيلة عن طريقه، والالتجاء إليه طلبًا للخلاص.
الثاني: الإيمان بالمجتمع والعدالة الاجتماعية، والصراع العملي لتحقيق الفضيلة الاجتماعية والشخصية من هذا الطريق.
الثالث: الإيمان بالذات، وعبادة المنفعة، وتسخير المبادئ والمثل والأفكار جميعًا لخدمة هذا الإله الجديد!
الرابع: المتفرج الذي يرقب هذا وذاك وذلك لمجرد التسجيل والنظر والمشاهدة..!
إن هذه الرواية على ما فيها من براعة في العرض، ومن قوة في التصوير - تصوير النماذج وتصوير المجتمع وتصوير المشاعر والانفعالات - هي أصغر من قيمتها الإنسانية - وتبعًا لهذا في قيمتها الفنية - من سابقتها (خان الخليلي).
المعداوي عن بداية ونهاية: دليل مادي لا ينكر، على أن الجهد والمثابرة جديران يخلق عمل فني كاملقال الروائي والناقد أنور المعداوي عن رواية «بداية ونهاية»: «لقد أتى علي وقت ظننت فيه أن نجيب محفوظ قد بلغ غايته في (زقاق المدق)، وأنه لن يخطو بعد ذلك خطوة أخرى إلى الأمام. أقول غايته هو لا غاية الفن، لأن (زقاق المدق) كانت تمثل في رأي الظنون أقصى الخطوات الفنية بالنسبة إلى إمكانيته القصصية. ولهذا، خيل إلى أن مواهب نجيب قد (تبلورت) هنا وأخذت طابعها النهائي وتوقفت عند شوطها الأخير. ومما أيد هذا الظن أن (السراب) وقد جاءت بعد (زقاق المدق) كانت خطوة (واقفة) في حدود مجاله المألوف، ولم تكن الخطوة الزاحفة إلى الأمام!
كان ذلك بالأمس.. أما اليوم، فلا أجد بدا من القول بأن (بداية ونهاية) قد غيرت رأيي في (إمكانيات) نجيب، وجعلتني أعتقد أنه قد بلغ الغاية التي كنت أرجوها له، غايته هو وغاية الفن حين كانت الغايتان مطلبا عسير المنال!
إنني أصف هذا الأثر القصصي الجديد لهذا القصاص الشاب، بأنه عمل فني كامل. هذا الوصف، أو هذا الحكم، مرده إلى أن أعماله الفنية السابقة كانت تفتقر إلى أشياء؛ تفتقر إليها على الرغم من المزايا المختلفة التي تحتشد فيها وتحدد مكان صاحبها في الطليعة من كتاب الرواية!
ماذا كان ينقص نجيب قبل (بداية ونهاية)؟ ماذا كان ينقصه في (خان الخليلي) و(القاهرة الجديدة) و(زقاق المدق) و(السراب)، لقد كان نجيب في هذه الروايات الأربع يمتلك من الخطوط الفنية ما يتيح له من أن يخرج (التصميم العام) للقصة وهو سليم في جملته. ومع ذلك فقد كان ينقصه عنصر الالتزام الدقيق لحدود (الواقعية الأولى) في عرض حوادث القصة وتوجيه حركات الشخوص. وأقول (الواقعية الأولى) لأن (الواقعية الثانية) هي الساحة الكبرى التي دأب نجيب على أن يعرض فيها أكثر نماذجه البشرية!
نجيب محفوظ في أعماله الفنية السابقة يكاد يستخدم أسلوبا واحدا في تصوير شتى المواقف والسمات، وأعني به أسلوب الرد الفني المألوف.. مثل هذا الأسلوب إذا ارتضيناه في تلك المواقف المهيأة لتجسيد الملامح المادية للمشاهد والشخوص، وتجاوزنا عنه في تلك المواقف الأخرى المخصصة لتسجيل الحركة الجائشة في الذهن أو المختلجة في الشعور، فإننا لا يمكن أن نسيغه بالنسبة إلى المواقف الإنسانية؛ لأنه يفقدها طابع الجو الشعري الذي يجب أن تعيش فيه.
نجيب محفوظ عن النقد والنقاد
عقب نجيب محفوظ في أحد حواراته عن مؤهلات الناقد قائلا: «لابد أن يكون دارس النقد وعلومه المساعدة، مثل علم النفس والاجتماع والثقافة العامة ومطلع على الآداب العالمية، الواقع أن الناقد يجمع ما بين صفات الفيلسوف والقاضي، حتى يقوم بعمله بنزاهة تامة تفيد الأديب وتفيد الحركة الفكرية، فواجب الناقد واجب ضخم جدًا، والواقع أننا في الحقيقة نجد فرقا كبيرا جدًا وأن النقد لا يقوم بواجبه كما يجب، فالآفات التي تهدد النقد كثيرة في المجاملات الشخصية والعداوات الشخصية وفي أحيانًا الاستهتار أو الرغبة في الاندفاع، هذه كلها أمور لا نستطيع أن نصفها إنما هي مدمرة سواء للفن أو للحياة الفكرية ومن حسن الحظ أن عددا من النقاد يقوم بواجبه بنزاهة كاملة، وهم على قلة عددهم الأمل في الحركة الأدبية والحركة الفكرية على السواء.
أمنية محفوظ الأخيرة
وعن أمنيته الأخيرة قال أسمع إن مصر خرجت من أزمتها واتوزنت، مصر كانت دائما عظيمة وهي اليوم مجاهدة وغدا ظافرة بإذن الله.
ونختتم هذه التشكيلة من بعض الحكايات من المقالات التي كتبها الأساتذة عن محفوظ واشتباك صنعناه مع ما كتب عنه من خلال حوارات تليفزيونية أجراها بعنوان نضعه أفيشا لنهاية لن تأتي "نجيب محفوظ.. سيرة عصية على النسيان"، هذا العنوان الذي اخترته أمينة النقاش مدخلا لمقالها عن محفوظ والذي جاء فيه «سبتمبر 2012، الأهالي»:
«ظل محفوظ يسكن شقته البسيطة في حي العجوزة حتى وفاته، يخرج منها كل يوم في الصباح الباكر، ليصل سيرًا على الأقدام إلى مكتبه في جريدة الأهرام، بعد أن يكون قد عرج إلى قهوة «علي بابا» وسط ميدان التحرير، ليحتسي قهوته الصباحية، ويتبادل الأحاديث مع من يطلب منه ذلك من عموم المواطنين، أو يلتقي بمن يمنحهم موعدا عاجلا للقاء. وليس لدى تفسير لعدم تحويل تلك الشقة إلى متحف آخر بجانب متحفه المقام فى تكية أبو الدهب بحى الجمالية، بجوار المنزل الذى ولد به. فمحفوظ عاش فى تلك الشقة زمنا طويلا، وكتب فيها معظم رواياته، ولعل قصور الفهم عن إدراك العلاقة الوطيدة التى تربط بين المشاعر والعواطف وبين الأمكنة والبشر قد حال دون ذلك!.
ظلت تلك عادة نجيب محفوظ اليومية، حتى توقف عنها في أكتوبر عام 1994، بعد الطعنة الغادرة بسكين التي تلقاها من جاهل لم يقرأ له حرفا واحدا، لكنه صدق خرافات جماعات الإرهاب الجهادي التي تجاسرت على اتهام محفوظ بالكفر، سعيًا منها لبث الذعر في مؤسسات الدولة وفرض وصايتها على المجتمع، وهى تستنطق النص الديني بما يتوافق مع مصالحها فى الحاضر، ويثبت أقدامها في المستقبل. تسببت هذه الطعنة الجبانة في عجز محفوظ عن استخدام يده في الكتابة وبات يملي ما يريد كتابته على آخرين حتى وفاته.
تبرع نجيب محفوظ بنصيبه من جائزة نوبل إلى بريد الأهرام لينفق مسئولوه من دخلها على حل مشاكل المواطنين، بعد أن منح ابنتيه وزوجته أنصبة مماثلة، لتتأكد بذلك مسئوليته الاجتماعية، التى لم تكن تغيب عنه أبدا..
كانت روايات محفوظ، قبل نيله لنوبل تترجم إلى اللغات الأوروبية، وكان منزله محطًا لزيارات سياسيين وكتاب ومثقفين عرب وأجانب، لا يعتبرون أن زيارتهم للقاهرة تكتمل دون إتمامها.
ضحك نجيب محفوظ من قلبه، ومذيعة التليفزيون المصري تسأله عن شعوره بعد الفوز بنوبل، وكانت قد استفزت كثيرين، حين قدمته إليهم بأديب نوبل العالمي، قال لها بخفة ظله المعهودة وابتسامته التى تكاد تحتضن العالم من فرط جمالها: أنا زي ما أنا. وحين ساقت إليه سيل الاتهامات التي وجهها إليه «يوسف إدريس» الذي كان يظن أنه أحق منه بالجائزة، وبأن محفوظ نال الجائزة لتأييده للسلام مع إسرائيل، وسألته رأيه في ذلك، رد بهدوء وترفع وأدب جم: هذا رأيه وحقه في إبداء الرأي، وأضاف بجسارته العهودة: وربما يكون ذلك صحيحا.ً
حاز نجيب محفوظ محبة واحترام وإعجاب كل من اقترب من شخصه لبساطته وتعففه الدائم وكبريائه وتواضعه الملهم، ولطفه في التعامل مع الآخرين وخفة ظله التي لازمته طول عمره الذي امتد حتى 96 عاما.ً.
يروي ثروت أباظة أنه ذهب ليعوده في المستشفى بعد تعرضه لمحاولة الاغتيال، وما إن رآه راقدًا على السرير، حتى انهمر في سيل من البكاء، فقال له محفوظ ساخرًا: بتعيط ليه؟ هو أنت اللي اطعنت ولا أنا!
كما نقل عنه أنه أجاب عن سؤال من صحبته في جماعة الحرافيش عن رأيه في التمثال المنحوت له والمنصوب بقرب منزله، والذى يظهر فيه عابسا ضئيلا ومزريا، فرد محفوظ بعفوية شديدة وخفة ظل قائلًا: إن الفنان الذي صممه ربما لم يقرأ له سوى رواية «الشحاذ”.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: نجيب محفوظ بدایة ونهایة نجیب محفوظ عبد الناصر فی الواقع الذی کان محفوظ فی فقد کان فی تلک کتب عن لم تکن
إقرأ أيضاً: