تكتسب رؤية «عُمان 2040» الوطنيَّة أهمِّية كبرى في المستقبل العُمانيِّ، نظرًا لكونها بوَّابة سلطنة عُمان نَحْوَ المستقبل، فتلك الرؤية الطموحة ليست مجرَّد خطط وبرامج وأولويَّات ومبادرات، لكنَّها جهود أعدَّت بمشاركة شَعبيَّة؛ من أجْل استشراف المستقبل، والوصول لمرحلة التنويع الاقتصاديِّ المنشود، الذي سيؤدِّي دَوْره المنوط به في تحقيق التنمية الشاملة المستدامة، حيث تُعدُّ تلك الرؤية الوطنيَّة الطموحة مرجعًا وطنيًّا للتخطـيط الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ لسلطـنة عُمان، ومِنْها تنبثـق الاستراتيجيَّات الوطنيَّة القِطاعيَّة والخطط الخمسـيَّة للتنمية.

 


وقَدْ عبَّر السُّلطان هيثم بن طارق عن أهمِّية تلك الرؤية الوطنيَّة واصفًا إيَّاها بأنَّها بوَّابة لعبور التحدِّيات، ومواكبة المتغيِّرات الإقليميَّة والعالَميَّة، واستثمار الفرص المتاحة وتوليد الجديد مِنْها؛ من أجْلِ تعزيز التنافسيَّة الاقتصاديَّة، والرَّفاه الاجتماعيِّ، وتحفيز النُّموِّ والثِّقة في العلاقات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والتنمويَّة في جميع محافظات السَّلطنة.


ويُشكِّل قِطاع النَّقل والاتِّصالات وتقنيَّة المعلومات إحدى الجهات المُهمَّة في وضع البنية الأساسيَّة التي تفتح الطريق أمام تنفيذ المنطلقات الطموحة لرؤية «عُمان 2040»، حيث تُنفِّذ وزارة النَّقل والاتِّصالات وتقنيَّة المعلومات أكثر من (240) مشروعًا مدرجًا تحت (19) برنامجًا مرتبطًا بشكلٍ مباشر بـ(5) خمس أولويَّات من أولويَّات رؤية «عُمان 2040»، وهي مسؤوليَّة كبيرة تُشكِّل الأساس الذي ينطلق مِنْه تنفيذ باقي المبادرات، حيث يتمُّ تنفيذ نَحْوِ (35) خمسة وثلاثين مشروعًا ومبادرة استثماريَّة مرتبطة بأولويَّتَي التنويع الاقتصاديِّ والاستدامة الماليَّة والقِطاع الخاصِّ والاستثمار والتعاون الدوليِّ؛ بهدف جذب الاستثمارات وتعظيم العوائد من البنى الأساسيَّة لقِطاعات النَّقل واللوجستيَّات والاتِّصالات وتقنيَّة المعلومات، وهي خطوات مُهمَّة وضروريَّة لإقامة قِطاع لوجستيٍّ يليق بالطموحات الوطنيَّة وبما تملكه البلاد من إمكانات واعدة وموقع جغرافيٍّ متفرِّد.


إنَّ أبرز الجهود التي تبذل هي إشراك القِطاع الخاصِّ في جهود إنشاء البنى الأساسيَّة، كإنشاء طُرق بديلة أو موانئ متخصِّصة، وتشغيل موانئ قائمة كميناء خصب وشناص والسويق وضلكوت ومراجعة اتفاقيَّات امتياز لموانئ رئيسة، وتقديم خدمات بحْريَّة وبَرِّيَّة كنشاط تبديل الأطقم البحْريَّة وخدمات السُّفن وإصلاح السُّفن في مناطق الرُّسو ومناطق رُسوِّ السُّفن الفاخرة وقوارب القَطْر و»التكسي» المائيِّ، وغيرها من المشروعات الواعدة التي تزيد من الدَّوْر الذي يؤدِّيه القِطاع الخاصُّ في الاقتصاد الوطنيِّ، حيث تُمثِّل تلك المشاركة عاملًا مُهمًّا في جذب استثمارات محلِّيَّة وأجنبيَّة وعوائد ماليَّة، وهي مبادرات مرتبطة بمؤشِّرات أداء تُقاس بشكلٍ دَوْري من أجْلِ تحقيق أولويَّة التنويع الاقتصاديِّ والاستدامة الماليَّة وجذب الاستثمار، وإيجاد فرص عمل جديدة وتحفيز ريادة الأعمال.

 ومع الجهود التي تبذلها الجهات المسؤولة عن قِطاع النَّقل والاتِّصالات وتقنيَّة المعلومات حَوْلَ مشروعات الطُّرق، حيث ستُركِّز في استكمال والبدء في عددٍ من مشاريع الطُّرق الاستراتيجيَّة بتكلفة تفوق (890) مليون ريال عُماني لضمان توفير بنية أساسيَّة عالميَّة المستوى، وربط مُكوِّنات القِطاع اللوجستيِّ والقِطاعات الأخرى لتعظيمِ الفائدة المرجوَّة مِنْها، والمحافظة على جودة الطُّرق وتصنيفها العالَمي المتقدِّم، هناك جهود أخرى مرتبطة بحوكمة التشريعات المرتبطة بالقِطاع، بالإضافة إلى استكمال تنفيذ برنامج التحوُّل الرَّقميِّ الحكوميِّ الذي يستهدف خلال النِّصف الثاني من العام 2023 وإتمام تبسيط إجراءات (574) خدمة حكوميَّة، وهو ما سينطلق بالقِطاع نَحْوَ مستوى مميَّز من التحوُّل الرَّقميِّ الذَّكيِّ، الذي يواكب المستقبل ويعمل على تبسيط خطواته.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: ة المعلومات الق طاع

إقرأ أيضاً:

الرأسمالية والعدم في مواجهة التحديات الأخلاقية «رؤية ماركسية»

يذهب الكثير من الباحثين والمفكرين أن اللامساواة تنخر عمق المجتمعات العالمية، مشرقها ومغربها، شمالها وجنوبها، دولها وشعوبها على حد ٍ سواء بنسب متفاوتة. وبحسب الكثير منهم تعود هذه الأسباب إلى عوامل مختلفة، منها ما يتعلق بتوزيع الثروات والفرص بين الأفراد، ومنها ما يتعلق بالأنظمة السياسية التي تتحكم في القوانين والتشريعات، غير أن هناك آراء آخرى تتزايد حدة أصواتها في كل أزمة تميل إلى القول، بأن النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يتحكم في العالم بطرق ٍ مباشرة، وغير مباشرة، يتحمل الجزء الأكبر من هذه المشكلة.

من هنا تتصاعد الأصوات في البحث عن التحديات الاجتماعية المختلفة التي يمر بها النظام الاقتصادي العالمي، ومنها التحدي الأخلاقي على وجه التحديد بين فترة وأخرى. ولأجل الوقوف على تاريخية هذه الانتقادات وجدليتها، من الضروري العودة للنبؤات التي طرحت انهيار وسقوط الرأسمالية في المقام الأول، كما تسعى ثانياً للحديث إحدى التشخصيات وما أكثرها! عن الرأسمالية ونتائجها ومساراتها التي تقود للعدم بحسب تعبير بيتر فليمنج، وأخيرًا، نتطرق لبعض الدعوات المتزايدة مؤخرًا نحو الاشتراكية التي جاءت من أصوات اقتصادية وفلسفية عالمية مختلفة وذلك في ظل التشخيصات المتعددة للرأسمالية.

نهاية الرأسمالية مغامرات لا أكثر

- منذ فترة طويلة، وتحديدًا منذ الكتابات الأولى لكارل ماركس التي تنتقد الرأسمالية، كانت التنبؤات بزوالها وسقوطها حاضرة وبقوة، وفي كل مرة تأخذ هذه التنبؤات صيغًا مختلفة، ويطرحها مفكرون وباحثون من مدارس شتى، وذلك بحسب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها المجتمعات. فمع بدايات الثورة الصناعية ومواجهتها الكبيرة للأنظمة الدينية والاقتصادية والاجتماعية المستقرة والراسخة آنذاك، ارتفعت الكثير من الأصوات الدينية والاقتصادية المحتجة على هذا النمط الصناعي الجديد، ولم يكن ممكنًا – كما جرت العادة – أفضل من توظيف الجانب الديني في مواجهتها، والبحث عن نقائضها، وبدائلها في نفس الوقت، وذلك من خلال إعادة إحياء زخم العقائد الإنجيلية في بريطانيا مهد الثورة الصناعية.

- لكن مع ظهور مفكرين وفلاسفة مختلفين، ينتمون إلى اتجاهات متباينة، كان من الطبيعي أن تتعدد وجهات النظر الناقدة للرأسمالية، وربما الأشهر هنا الرؤية العميقة والحيوية لكارل ماركس ورفيقه إنجلز اللذين كتبا الكثير من الأعمال الناقدة للرأسمالية -من زوايا كثيرة وأبرزها- بأن الرأسمالية ستنتهي على يد الطبقة العاملة (البروليتاريا) التي تُنتج السلع وتساهم في تكدس رؤوس الأموال والثروات في أيدي فئة قليلة من البشر، وذلك بسبب التزايد الكبير لهذه الطبقة وتوحدهم بسبب الظروف المعيشية البائسة التي يرزحون تحتها. الأمر الذي يعني بأننا أمام دورة طبيعية تنتجها الرأسمالية تقوم على «تمركز رأس المال» مقابل « بؤس الطبقة العاملة» المتمثل في زيادة الكد والعمل، والجهل، ووحشية نظام العمل.

بالإضافة لذلك، كانت أطروحات الفيلسوف والاقتصادي الإنجليزي جون ستيورات ميل (1806-1873م)، الذي رأى بأن الرأسمالية تزيد اللامساواة بين البشر، وبأن الاقتصاد الحُر مسؤول عن هذه اللامساواة وارتفاع دخل بعض الأفراد على حساب بقية أفراد المجتمع، تتفق مع هذا الخط، ولكن بصورة ناعمة أكثر مقارنة مع الرؤية الماركسية، حيث منحت أطروحاته ما يشبه اليقين بزوالها وفشلها الذريع، وهو ما خيّم على المزاج العام في تلك الفترة وما بعدها.

غير أنه مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية الأممية الثانية، تزايدت الشكوك حول هذه الدعوات القائلة بنهاية الرأسمالية، الأمر الذي جعل الأحزاب الاشتراكية في تلك الفترة تنقسم على نفسها، بين مشكك في هذه الدعوات وبين مراجع للكثير من الأطروحات الأساسية البديلة للرأسمالية كالاشتراكية وغيرها. كما تزايدت حدة الشكوك في هذه الدعوات وحضور نقيضها في الفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وتحديدا في فترة الكساد الكبير عام 1929م، وظهور الأنظمة الرجعية والديكتاتورية في الغرب، وتحديدا مع هتلر وستالين، لكن تأسيس روسيا الحديثة على يد لينين عام 1917م، أعاد الأمل من جديد في تأسيس علاقات اقتصادية واجتماعية جديدة لا تقوم على الأسس الرأسمالية التي تعرضت للنقد الحاد وطرح البدائل المختلفة. غير أن هذا الأمل ما لبث أن تلاشى.

من جانب آخر، لم تقتصر الأزمات التي مرت بها الرأسمالية والتي ساهمت في استمرار تنبؤات زوالها على الجانب الاقتصادي، بل دخل العامل الثقافي والتكنولوجي للواجهة بشكل كبير، الأمر الذي جعل الكثير من الأطروحات تذهب إلى أن هذه الأزمات «جزءا من الديناميكية الصحية للتدمير الخلاق الذي تُحركه الابتكارات التكنولوجية» كما قال جوزيف شومبيتر في كتابه «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» 1942م.

مهما يكن الأمر، فإن سردية زوال أو سقوط الرأسمالية، بغض النظر عن الأسباب المؤدية لذلك والبدائل الفعالة المقترحة في ذات الوقت، بقيت حاضرة في الكثير من الدعوات منذ فترة طويلة، الأمر الذي جعل العودة للكتابات الماركسية بين فترة وأخرى، حاضرا في الأفق المقابل، وذلك من خلال العودة للماركسية الأولى وعلاقتها الجدلية والمعقدة بالأخلاق، كما سنرى في الفقرة اللاحقة.

الرأسمالية والعدم

لا تتوقف الانتقادات اللاذعة الموجهة نحو الرأسمالية كما سبق القول، بل تزداد ضراوة يوما بعد يوم. فهي تأتي من زوايا وأبعاد مختلفة، لها أول وليس لها آخر. وربما يجدر بنا في هذا السياق، تسليط الضوء على العمل الصادر مؤخرا للباحث والمفكر الاقتصادي الأسترالي بيتر فليمنج Peter Fleming الرأسمالية والعدم 2025م، والذي يُحدق في عيون وملامح وتشكلات الرأسمالية، فلا يرى إلا العدم، والانفصال، والتوحش، وعوالم بلا عمل، وبلا عُمال، وبالتأكيد بلا بشر. وهذا ينطبق على كل شيء تقريبا، وعلى جميع المستويات، الإنسان عن الأرض، الإنسان عن الحيوان، الإنسان عن الإنسان، الجسد عن العقل، العقل عن الروح. غير أن الانفصال الأكبر والأشمل حدث عن وسائل الإنتاج أو الانفصال عن الأرض التي نزرعها أو نجمعها، أو الأدوات والورشة التي نديرها.

وأدى هذا الانفصال على مر التاريخ البشري بشكل عام، والغربي بشكل خاص، لظهور وصعود الفرد البرجوازي، عن طريق فصل نفسه عن وسائل الإنتاج، من خلال خصخصة الأعمال والعقول والأجساد، الأمر الذي قلل أو أزال اعتماد الأفراد على الآخرين، أو على الأرض بشكل عام، ما جعل التواصل في أدنى مراحله، والعزلة في أقصى ازدهارها ونشوتها، وبشكل خاص مع دخول الآلة والمنصات الرقمية، وأنظمة المراقبة، في كل تفاصيل الحياة البشرية، صغيرها وكبيرها، خاصها وعامها على حد سواء، هذا من جانب. كما أدى أيضا من الجانب الآخر، إلى ظهور «ديانة التكنولوجيا» «Religion Of Technology»، وبشكل خاص مع تصاعد الذكاء الاصطناعي، والشبكات العصبية، والخوارزميات المختلفة، والتي تحولت -كما يقول المؤلف- إلى وحوش مخيفة تتجول وتسيطر في الظل.

وهذا يعني من زاوية أخرى، تراجع أشباح الأفكار التي كانت تجمع الأفراد بين بعضهم البعض، والتي تُشكل حلولا لتحدياتهم المختلفة، وتُلهب أحلامهم ومخيلتهم في صنع مستقبل أفضل، عن طريق التواصل والمشاركة والتحاور فيما بينهم.

في كل الأحوال، مهما بلغت قتامة الرأسمالية وتوحشها، وشروطها التي تفرضها على الأفراد في كل التعاملات البشرية اليومية، فإنها لم تقض على الأمل والدعوات المتزايدة للعودة نحو الاشتراكية، ولكن هذه المرة بطرق مختلفة، وهياكل جديدة، وأفكار تتوافق مع العدم الذي تنشره الرأسمالية في أخيلة الأفراد وقلوبهم وعزائمهم.

الطريق إلى الاشتراكية: عودٌ على بدء

في عمله الصادر عام 2021م، يعود المفكر الفرنسي الاقتصادي الشهير توماس بيكيتي إلى الاشتراكية في عمله المعنون «زمن إلى الاشتراكية»، وقبل ذلك بسنوات وتحديدا في عام 2016م، يعود أيضا الفيلسوف الألماني أكسل هونيث للاشتراكية في كتابه «فكرة الاشتراكية»، وبالرغم من الفارق الزمني الطفيف بينهما، والمقاربات الفكرية المختلفة بينهما، إلا أنهما يتفقان حول ضرورة تعديل المسار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العالمي. ففي حين أن الأول يعود للأسباب السياسية والأيديولوجية، يعود الثاني إلى المنابع الفكرية والفلسفية وتقديم مراجعات حول تلك الفترات الزمنية التي علت فيها الدعوات للاشتراكية، موضحا أن الطريق من الممكن السير فيه، والتعلم منه.

فبالعودة للسياقات السياسية الحالية، والأحداث التي يمر بها العالم، يرى بيكيتي بأن «المسيرة الطويلة نحو المساواة والاشتراكية التشاركية قد قطعت شوطًا طويلًا بالفعل. ولا شيء يمنعنا من مواصلة هذا المسار المفتوح، طالما أننا جميعًا نمضي قدمًا فيه»، إذ إن هذا المسار يعود في طبيعته لأسباب أيديولوجية وسياسية، ولا يعود بالضرورة لأسباب اقتصادية وتقنية جوهرية. وبالرغم من أن اللامساواة كما يرى بيكيتي قد تراجعت، وتحولت من الجانب النظري الذي طرحته الثورة الفرنسية، إلى الجانب العملي والواقعي، ومنها الحربان العالميتان، وبسبب السياسات المالية والقانونية المتبعة بما فيها القوانين الضريبية في الكثير من الدول، ومنها الحوكمة، إلا أن ذلك لا يمنع الاستفادة من الدروس التاريخية التي يمكن العودة إليها.

وعلى سبيل المثال، كان تركز الملكية في السنوات السابقة محصورًا في عدد محدود من البشر، كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأوروبا وغيرها من الدول، إلا أنه في السنوات الأخيرة أمست هذه النسبة في انخفاض وتراجع، الأمر الذي انعكس على المستويات المعيشية للطبقة المتوسطة التي زادت بنسب متفاوتة بين كل دولة وأخرى.

ولكن ما السبب الرئيس لتقلُّص اللامساواة؟

يرى بيكيتي أن السبب الأساسي لهذا المسار الذي يبدو متناقضًا، يعود لوجود وصعود «دولة الرفاه» ابتداءً من عام 1910 إلى عام 1990م وما رافق ذلك من دورات صعود وهبوط من جانب، وتزايد الاستثمار في التعليم والصحة ومعاشات التقاعد ومعاشات العجز والتأمينات الاجتماعية (البحث عن عمل، والأسرة، والإسكان، إلخ)، وتحديدًا في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، حيث بلغ إجمالي الإنفاق العام في أوروبا الغربية – على سبيل المثال - بالكاد 10% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ الإنفاق على نفس المجالات العامة في نهاية ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي إلى حدود 50%، من الجانب الآخر.

أدّت هذه التغيرات في الإنفاق إلى حصول فئة كبيرة من البشر على الخدمات الأساسية التي كانت لفترة طويلة، محرومة منها، وهذا يتضح في القطاعات المختلفة بالرغم من الركود الذي تعرضت له دولة الرفاه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وما بعدها.

غير أن توفير الخدمات ودولة الرفاه لا تكفيان لتحقيق المساواة، بل تتعدى ذلك لتصل إلى الجوانب السياسية التي تتحكم في الأمور الاقتصادية وغيرها من جوانب المجتمع، أو بلغة (بيكيتي) ينبغي إعادة النظر في علاقات الهيمنة والقوة، التي تسيطر على المجتمع من خلال تقاسم السلطة في المؤسسات وتحديدًا السياسية والاقتصادية بما فيها الشركات الكبرى العالمية وداخل كل دولة على حدة، وذلك بالاستفادة من تجارب بعض الدول والمجتمعات التي أثبتت بأن اتخاذ سياسات تشاركية أكثر نجاعة وتعود بالنفع المجتمعي العام. وفي هذا السياق، يرى بيكيتي أنه من غير الضروري أن تنتظر الدول الإجماع العالمي والموافقة على الإجراءات والاتفاق حولها، بل من الممكن أن تتخذ كل دولة خطواتها الإصلاحية التي تحقق هذه الأهداف لأفراد المجتمع، وهذا يضعنا أمام مدخل مفاهيمي مختلف يأخذ بالحسبان الكثير من المتغيرات التي طرأت على السياسات العالمية والمحلية على حدٍ سواء.

الفيدرالية التشاركية بديلًا عن العولمة

بناءً على ماسبق، من الواضح أن الرأسمالية كما قال فيشر في مقولته في المقدمة: من الممكن أن نتخيل نهاية العالم ولا نتخيل نهايتها، غير أن هذه الأمنية الصعبة ليست مستحيلة، وذلك بالعودة للكثير من الحركات الاجتماعية، والمبادئ النظرية والأخلاقية المختلفة، والقيام بمبادرات وسياسات واقعية تأخذ في الحسبان أخطاء النظام العالمي الحالي، وتجاوزاته، وسلبياته، والخروج من النظام الذي يحتكر الثروات والصلاحيات وعلاقات السلطة والهيمنة لفترات زمنية طويلة، إلى الالتفات للكثير من الإمكانيات الكامنة في صلب الفعل البشري، فالمصلحة الفردية والرغبات الجامحة في تكدُّس الثروات والسلطات لدى الفرد ليست جديدة، فهي جزءٌ أصيل من المشاعر البشرية كما أشار منذ زمن طويل آدم سميث، ومن الممكن أن يقوم المرء بالكثير من الأفعال والسلوكيات في سبيلها، كما أن العولمة بكل معانيها السلبية التي تنتجها، غذت وأججت هذه الرغبات الأنانية، أكثر من أي وقت مضى، لتأتي نقيضًا لذلك العودة للتشاركية بين أفراد المجتمع الواحد، والمجتمعات البشرية المختلفة؛ لتلهب خيال وخطط وطموحات الباحثين والمفكرين، بأن الأنظمة الاقتصادية والسياسية أيضًا مهما ترسخت في الواقع من الممكن العثور على بدائل لها، وتطبيق هذه البدائل بالتوافق وليس بالعزلة التي أصبحت تقودها التقنية الرأسمالية الحديثة.

علي بن سليمان الرواحي باحث ومترجم في القضايا الفلسفية المعاصرة

مقالات مشابهة

  • غرس ثقافة ريادة الأعمال في التعليم نحو جيل مبتكر يواكب تطلعات «رؤية عُمان 2040»
  • الوزير الحاج عرض وسفير سلطنة عُمان التعاون في مجال الاتّصالات
  • الرأسمالية والعدم في مواجهة التحديات الأخلاقية «رؤية ماركسية»
  • الوزير الأول يشرف على تنصيب رئيس المجلس الوطني الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي
  • موعد رؤية هلال شهر ذو الحجة 2025
  • المشاط: نستهدف مواصلة تنفيذ المرحلة الثانية من برنامج الإصلاح الاقتصادي الهيكلي
  • تعزيز مواقع أبطال حوران بالأنبار بكاميرات حرارية ووسائل رؤية متطورة
  • تفسير حلم رؤية علم الأردن في المنام
  • الحسان يبلغ السوداني دعم الأمم المتحدة رؤية العراق تجاه تحديات المنطقة
  • الهيئة العامة للمناطق الاقتصادية الخاصة والمناطق الحرة تستعرض إنجازاتها وتؤكد دورها المحوري في تحقيق مستهدفات «رؤية عُمان 2040»