تمرد 1955″ بعيون جنوبية أخرى: هل هو انقلاب دبره حزب الأحرار الجنوبي؟
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
كتاب الدكتور جون قاي نوت يوه "ثورة في جبال الاستوائية: تمرد توريت وتأثيره في السياسة السودانية: 1955-1972" الصادر عن دار عزة بالخرطوم في 2009 كتاب سمح الخاطرة. سعى الكتاب إلى تجديد النظر إلى "تمرد" الفرقة الجنوبية من قوة دفاع السودان في 1955 بما يتجاوز تقرير القاضي قطران والسلطان لادو لوليك والسيد خليفة محجوب.
من رأي المؤلف بعد النظر في الأرشيف المصري أنه كان لمصر ضلعاً كبيراً في التمرد بفضل الصاغ صلاح سالم وزير الثورة المصرية لشئون السودان. وكان هذا رأي حكومة الأزهري الذي صرحت به خلال توالي أحداث التمرد. وربما دل على تورط مصر فيه اضطرار الصاغ للاستقالة بعد ما تبين فساد خطته في الضغط على الأزهري ليهجر نزعته الاستقلالية المستجدة والعودة لعقيدته الأولى في الوحدة مع مصر. وكانت هذه الوحدة إحدى احتمالات اتفاقية فبراير 1953 لتقرير المصير للسودان: إما استقلال أو وحدة مع مصر بعد استفتاء..
وبدا من عرض المؤلف أن حيلة الصاغ تكونت من جانبين. الأول أن يحرك الجنوب في وجهة معاداة حكومة الأزهري تحريكاً خطراً. وما أن ينجح في ذلك حتى يتقدم لبريطانيا بمشروع لتدخل عسكري مصري إنجليزي يحرج الأزهري ويضعفه ويشفيه من علل الاستقلال. في الجانب الأول من الحيلة نجد الصاغ قد عقد تحالفات مع حزب الأحرار الجنوبي وصار قادته من أمثال السادة ستانسلاوس بياساما وسرسيو إيرو وبنجامن لوكي وبولين ألير تهش لهم مصر بالضيافة بينما يدعون هم إلى وحدة مصرية جنوبية. ولا يملك المرء من عرض المؤلف إلا الاستنتاج بغير صعوبة وجود يد للصاغ وراء التمرد. فالمؤلف على قناعة من أن حزب الأحرار، إن لم يدبر التمرد، فهو لم يكن برئ منه بالكلية. فالعريف ساترلينو أوبويا من قادة التمرد كان عضواً بالحزب وكان من بين زعامة الحزب من علم على أقل تقدير بخططه للتمرد. وكان الملازم رينالدو لويولا مسئولاً عن الاتصال بحزب الأحرار الجنوبي في جوبا. وفي سيرة الرجلين مواقف درامية شديدة. فقد بلغ اليأس بساترلينو من نجاح التمرد حداً دفعه لمحاولة اغتيال مسؤول شمالي. وهي المحاولة التي أدت إلى كشف التمرد للسلطات. وكان أكثر ما أحزن ساترلينو تقاعس حزب الأحرار. أما رينالدو فقد سلم نفسه للقوة التي جاءت لكسر التمرد وحيداً بين 27 شخصاً هم كل من بقي في توريت (مركز دائرة التمرد) من حرسه وبقايا الشماليين. ووقف كالسيف وحده لم يلذ بالغابة من فرط تبعة القيادة ولخذلان حزب الأحرار له أيضاً. وتطرق الكاتب في أكثر موضع للمفاسد التي جلبها "التمرد-الانقلاب" على حزب الأحرار حتى تفرق أيدي سبأ. وهذا جانب في السياسة الجنوبية لم يكن معلوماً لنا: حزب سوداني آخر تضعضع جداً حين أعمل في السياسة بيض الصحائف (السيوف) لا بيضها (الكتاب)..
أما الشق الآخر من حيلة الصاغ فقد كان خلق حالة من "الانهيار الدستوري" تضغط على الأزهري لجهة الوحدة. فسرعان ما تمردت الفرقة الجنوبية حتى تقدمت مصر لبريطانيا باقتراح عقد مؤتمر للقوى السودانية المعنية بالنزاع مصحوب بتدخل عسكري بريطاني مصري. وهو ما رفضته بريطانيا. واتهمت بريطانيا مصر بتدبير هذا التدخل لتبقى القوات المصرية متى تم جلاء البريطانيين فتكون سيدة الموقف. بل قال الكاتب إن بريطانيا رفضت أن تبعث بطائرات لنقل جنود قوة دفاع السودان للجنوب حتى لا تكون سابقة يبني عليها الصاغ مطلبه بالتدخل المشترك. واتهم الصاغ من الجهة الأخرى بريطانيا بالرغبة في فصل الجنوب ودعا إلى مؤتمر أحزاب سودانية بالقاهرة. وهذا الرجوع بمصير السودان إلى المربع الأول كيد كبير للأزهري.
من بين أكثر ما أعجبني في جون يوه حماسته للديمقراطية السودانية. وهي خصلة سياسية نادرة في فكرنا السياسي. فهو ذو عقيدة في الديمقراطية. فتلاشيها عن الساحة لم تجعله يوسوس بأننا ربما لم نستحقها كما يبادر إلى ذلك أكثرنا. ولم يمنعه قصر إقامتها بيننا من عرفانه لمزاياها في الاقتراب من مسألة الجنوب. فلم يُحَمّل الممارسة الديمقراطية الموصوفة بالشقاق في أدبنا السياسي "وزر" انقلاب عبود في 1958. فقد رأى لتلك التجربة الديمقراطية سمات غراء. فالنظام البرلماني عنده يساعد في كبح جماح التطرف الشمالي كما أنه يوفر منابر حرة للحوار السلمي بين القيادات الشمالية والجنوبية تصل به إلى تسويات مخلصة وواقعية. ففي رأيه أن تجربتنا البرلمانية في الخمسينات على قصرها شجعت سياسة المساومات حيث تسود تقاليد الحوار والتعاون بدل المواجهة والاقتتال. وبلغ ولاء جون يوه للديمقراطية حداً زكاها حتى وإن لم تسفر عن خطوة إيجابية لتحقيق مطالب الجنوب. فالسياسيون في نظره كانوا قادرين، أقله، على إجراء لقاءات وحوارات حرة حول سبل تحقيق تلك المطالب. وهذا ما فسد متى استبد الحكم بالعسكرية. فهذا الحكم يمثل أبلغ صور التطرف القومي الشمالي. وبه يضطر القوميون الجنوبيون إلى سياسة المنافي لا سياسة الخرطوم.
يستحق الصديق السياسي المخضرم محمد علي جادين عرفاننا جميعاً لتعريب الكتاب وسط مشاغله الحزبية المعروفة. ولكن سياسة جادين تنوير. وله سجل شاهد على ذلك. رحمه الله.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: حزب الأحرار
إقرأ أيضاً:
الحكم للجيش
طوال تأريخ السودان ظلت قوي اليسار تسئ دوما للقوات المسلحة وتصفها بأقبح الألفاظ من الديكتاتورية والتسلط وكان شعارها المستمر أن (الجيش للثكنات).
عندما تولي اليسار الحكم كان هو المتسلط ومرتكب المجازر مثل ما وقع في بيت الضيافة في يوليو .
كان اليسار هو ناشر الفساد من التأميم في مايو إلي التفكيك والتمكين في ديسمبر .
أسوأ أداء سياسي واقتصادي في البلاد كان في فترات حكمهم وقد انتهى بنا مؤخراً إلي هذه الحرب البشعة.
كانت حكومات الأحزاب هي الأكثر بؤساً و كانت وراء كل إنقلاب عسكري .
في المقابل حققت حكومات العساكر منجزات واضحة، في عهد عبود قامت صناعات كبري وعلي راسها مصانع التعليب ونهض التعليم وإنتظم من المدن حتي مدارس الرحل و تطورت الرياضة .
في الحريات كان حكم عبود هو الأفضل منهم حيث احتوى اليسار وعلي رأسه الحزب الشيوعي في برلمانه المعروف بالمجلس المركزي.
الإنقاذ التي ينشطون في سبها هي التي هيأت لهم المشاركة الكبرى في تأسيس أفضل دستور تشهده البلاد وهو الصادر في 2005 م .
كانت لها منجزاتها المصفاة التي دمرها التمرد ومعها مشروعات البترول والسدود والجامعات.
اليوم شهد السودان تطورات مهمة وقائد الجيش هو رأس مجلس السيادة الذي شاركوا فيه و اختاروا رئيسه وشكلوا كل مجلس الوزراء واحتلوه بقياداتهم الحزبية.
عطلوا قيام البرلمان والمحكمة الدستورية ورهنوا البلاد للخارج .
شاءت إرادة الله أن تكون القوات المسلحة هي القائمة علي الحكم حالياً.
أقبلت القوات المسلحة علي اكبر عملية عسكرية لهزيمة التمرد حفظت بها قواتها والبلاد كلها .
مع التخطيط الباهر للحرب أدارت الحكم بمقدار واسع من إتاحة المجال في كل ميدان .
أفسحت للجميع العمل لحرب التمرد فضمت مع قواتها المستنفرين والمجاهدين والبراء والقوات المشتركة ودرع الوطن.
سياسياً إنفتح الحكم علي كل القوي والتقاها جميعاً، من الأحزاب التقليدية إلى الطرق الصوفية وانصار السنة وتنسيقيات القبائل والعشائر .
أدارت القوات المسلحة العلاقات الخارجية بانفتاح على كل الدنيا وشهدنا الرئيس البرهان والقادة الكباشي وإبراهيم جابر في جولات خارجية متعددة.
لم تكن الأحزاب السياسية حاضرة في كل هذه التفاعلات المهمة.
اليوم وبعد الانتصارات الكبرى فإن القوات المسلحة هي اكثر الفئات السودانية قدرة علي تكملة المهام والإنطلاق إلي مرحلة جديدة تحت حكمها.
تحتاج البلاد لفترة إنتقالية يحكم فيها الجيش وتتأهل عقبها القوي السياسية ليعود بعدها الحكم للشعب .
حكم يتأسس علي ديمقراطية تقوم علي إنتخابات حرة وبرلمان وطني ومحكمة دستورية ونيابة مستقلة وحكومة شرعية.
فترة إنتقال يعود بها الجيش معززاً مكرماً ليقوم بمهامه في حراسة وتأمين البلاد .
راشد عبد الرحيم
إنضم لقناة النيلين على واتساب