سياسات التقارب أو التطبيع أو الانفتاح التي بدأتها تركيا مؤخرا، مع دول كانت لديها مشاكل معها لسنوات، هي انعكاس لنهجها حسن النية، وحرصها على السلام والاستقرار والأمن والتنمية في المنطقة. فسيف الإسكندر الأكبر لا يستطيع أن يقدم الحلول عندما تتحول مشكلة استعصت على الحل لفترة طويلة في المنطقة إلى عقدة. وإذا اتخذت العقدة شكلا يعجز السيف عن التعامل معه، يجب عندئذ تجربة طرق أخرى.
تحقيق العدالة هو الخيار المثالي، ولكن إذا لم يكن ممكنا تنفيذ العقوبة الضرورية لتحقيق العدالة، وإذا لم تتوفر القوة التي يتطلبها إنفاذ هذه العقوبة، فيجب البحث عن طرق أخرى لفك العقدة. والبديل سيكون هو الخيار السياسي، وهو حل يتطلب شجاعة خاصة في هذه المرحلة، لوضع القضية على مسار دبلوماسي ناجع.
وقد أظهر الرئيس رجب طيب أردوغان في الآونة الأخيرة شجاعة لفتح مسارات دبلوماسية بديلة مع دول عديدة. وهو عمل ليس سهلا إذا أخذنا في الاعتبار ما شهدته العلاقات مع تلك الدول في السنوات الأخيرة من توتر بفعل مواقف عدائية متتالية وسجالات لفظية حادة. لكن، إذا لم تؤخذ في الاعتبار تعقيدات المشهد والعقبات التي نواجهها، فستصبح المنطقة أكثر عرضة لأشكال التدخلات الخارجية، وهو خطر لا تواجهه تركيا وحدها، بل كل شعوب المنطقة.
المبادرات التي بدأتها تركيا مع دول الخليج العربية أصبحت في مسارها، ويمكن إنشاء عالم أفضل بكثير في المنطقة بالتعاون مع هذه البلدان، بل إن العالم الإسلامي كله سيتأثر إيجابيا بهذا التقارب والتعاون في حل المشكلات.
لا تفاؤل مع الأسدولكن، عندما يتعلق الأمر بسوريا، ليس من السهل القول إن الأرضية الدبلوماسية أصبحت جاهزة. ورغم أن أردوغان أبدى انفتاحا غير متوقع بقوله "لا يوجد ما يمنعني من لقاء الأسد" رداً على سؤال أثناء قيامه برحلة إلى الخارج، فإن الوضع ليس بمستوى يدفع إلى التفاؤل. فلا الأسد يستحق أن تمد له مثل هذه اليد، ولا الأوضاع في سوريا تؤهل لذلك.
والواقع أن إعادة قبول الأسد في جامعة الدول العربية دون أي محاكمة باعتباره المسؤول عن كل المشاكل في بلاده، خلق موقفا يحتم على الجامعة العربية أن تشكك في وظيفتها وسبب وجودها.
اليوم، يعيش ما لا يقل عن 12 مليون عربي سوري حالة من البؤس في جميع أنحاء العالم، وخاصة في تركيا، بسبب الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها الأسد بحق شعبه، وكأنه لم يكن كافيا ما عانوه من استهداف لحياتهم وممتلكاتهم وشرفهم في بلدهم.. هذا الوضع يجب أن يهم جامعة الدول العربية قبل أي جهة أخرى، باعتبار أولئك اللاجئين، مواطنين عربا.
كيف أصبح حال العرب في العالم بسبب الأسد؟ ألا ينبغي لدول الجامعة العربية أن تخجل من ذلك؟ ألا تجعلهم حقيقة أن العرب لاجئون هنا وهناك، وأنهم ما زالوا محرومين من أبسط ظروف المعيشة، يتحركون لصون الكرامة العربية؟
هذا الوضع المخجل سببه الأسد الذي استقبله الزعماء العرب بحفاوة مؤخرا، وأغرته تلك الحفاوة غير المشروطة بقلب الطاولة وكيل النقد للرئيس أردوغان، حتى أنه وضع شروطا لإمكانية اللقاء معه، قائلا إنه "لا يوجد ما يمكن مناقشته مع أردوغان دون الانسحاب من الأراضي السورية"، واصفا الجنود الأتراك بالغزاة، وأضاف: "هدفنا هو انسحاب تركيا من الأراضي السورية، وهدف أردوغان هو محاولة إضفاء الشرعية على الوجود التركي في سوريا، ولا يمكن اللقاء في ظل هذه الظروف"، ثم تساءل: "لماذا يجب أن ألتقي بأردوغان؟ هل لنشرب العصير؟".
إعادة قبول الأسد في جامعة الدول العربية دون أي محاكمة باعتباره المسؤول عن كل مشاكل بلاده، خلق موقفا يحتم على الجامعة العربية أن تشكك في وظيفتها وسبب وجودها
في الواقع، هذه الكلمات هي بمثابة تحذير من أنه لا ينبغي أبدا معاملة بعض الأشخاص بأكثر مما يستحقون.
أين كان عقل الأسد عندما دخل أكثر من 5 ملايين شخص إلى تركيا قبل سنوات هربا من مجازره، بينهم 1.5 مليون انتقلوا لاحقا إلى دول أوروبية أو مناطق آمنة في سوريا، وعندما استضافت تركيا هؤلاء الناس 13 عاما؟
في الحقيقة، الأسد لا يستحق أن يعامل باعتباره طرفا في حل أي مشكلة. فهو يسمح لقوات من الولايات المتحدة وإيران وروسيا وفرنسا وكذلك منظمات إرهابية مثل تنظيم الدولة وحزب العمل الكردستاني بوجودهم في بلاده، ولكنه يصف جنود تركيا فقط بالمحتلين. فليفكر المسؤولون العرب في ذلك وهم يسمعون هذا الكلام منه.
لماذا تنتشر قوات تركيا في سوريا؟هناك تهديد إرهابي لتركيا مصدره سوريا، وبسبب هذا التهديد يحق لتركيا بالطبع أن تكون هناك لتتخذ إجراءات وقائية، ولا سيما أنه ليس لدى الأسد النية ولا الإرادة لمنع هذا التهديد، فقد كان والده راعيا لحزب العمال الكردستاني في سوريا لسنوات.
لكن السبب الأخطر للوجود في سوريا الذي لا تذكره تركيا كثيرا اليوم، هم اللاجئون الذين اضطروا إلى الفرار إليها تركيا مع مجازر الأسد وأولئك الذين قد يقومون بذلك في المستقبل.
على مدى السنوات الـ13 الماضية، لجأ نحو 3.5 ملايين سوري إلى تركيا وهناك 5 ملايين آخرين داخل سوريا في مناطق لا يسيطر عليها النظام (حوالي 9 ملايين في المجموع)، ويمكن إغناء هؤلاء عن اللجوء إلى تركيا عبر توفير الأمن لهم هناك، ويتطلب هذا وجودا أكبر لتركيا في مناطقهم داخل سوريا، وهذا مبرر ومشروع من وجهة نظر القانون الدولي.
علاوة على ذلك، قلنا من قبل، إن الشرط الأهم لعودة السوريين من تركيا إلى بلادهم هي توفير الأمن لهم من قمع بشار الأسد، وقد حققت تركيا ذلك -جزئيا- في المناطق الآمنة الثلاث التي أنشأتها، ويجب أن تكون "حلب" أيضا -باعتبارها المصدر الرئيس للهجرة إلى تركيا- آمنة تحت سيطرة الأمم المتحدة، فمع بقاء الأسد فيها لن يتمكن ما لا يقل عن 1.5 مليون سوري من العودة من تركيا إلى هناك.
لا فائدة من التساهل مع الأسد. يجب على تركيا أن تطالب بضمان الأمن في حلب وحتى حمص وحماة (لا يشترط أن تكون تحت سيطرتها، بل يمكن أن تكون تحت الأمم المتحدة) كخطوة أولى. وإذا كان هناك صدق في موقف المتظاهرين الأتراك الذين يدعون الدفاع عن الوطن ويحاولون طرد السوريين من بلادنا، فعليهم أن يستخدموا عقولهم وأن يدعموا هذه القضية.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معناأعلن معناوظائف شاغرةترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinerssالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: إلى ترکیا فی سوریا أن تکون
إقرأ أيضاً:
روسيا تسعى للاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين في سوريا
على مدى سنوات كان جنود من قاعدة حميميم الجوية الروسية في سوريا يتجولون بحرية في المدن الساحلية وكانت المقاتلات تنطلق منها لقصف جماعات من المعارضة المسلحة المناهضة للرئيس المخلوع بشار الأسد.
لكن الوضع لم يعد على تلك الحال بعد سقوط الأسد، إذ تحرس مجموعات صغيرة من القوات الأمنية السورية الجديدة مداخل حميميم وقاعدة طرطوس البحرية الروسية، التي تعود إلى الحقبة السوفيتية، على بعد نحو 60 كيلومترا إلى الجنوب.
وقال أفراد الحراسة لمراسلين من رويترز زاروا المنطقة الأسبوع الماضي إنهم يرافقون أي قوافل روسية تغامر بالخروج. وأضاف أحدهم بعد أن طلب عدم ذكر اسمه "يجب عليهم إخطارنا قبل
المغادرة".
ومصير القاعدتين، وهما عنصر رئيسي في نفوذ روسيا العسكري في الشرق الأوسط وأفريقيا، في يد الرئيس السوري أحمد الشرع.
يريد الشرع إعادة التفاوض على تأجير قاعدة طرطوس لمدة 49 عاما الذي تم في عهد الأسد، وعقد إيجار غير محدد المدة لقاعدة حميميم من أجل التوصل لاتفاق أفضل، لكنه لا يريد إقصاء موسكو كليا فيما يبدو.
وبدلا من ذلك، قد تبقى القاعدتان مقابل دعم دبلوماسي وتعويض مالي من روسيا التي لعبت دورا كبيرا في قطاعي الاقتصاد والدفاع في سوريا على مدى سبعة عقود قبل أن تتدخل لدعم بقاء الأسد في السلطة لسنوات.
إعلانفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي سقط الأسد وفر إلى روسيا من قاعدة حميميم. أما القيادة السورية الجديدة، فتتفاوض الآن مع موسكو.
وتحدثت رويترز من أجل هذه القصة إلى ثمانية مصادر سورية وروسية ودبلوماسية أبلغوها بتفاصيل لم تنشر من قبل عن أول اجتماع رفيع المستوى بين الشرع ومبعوث للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بما في ذلك مطالبات تتعلق بديون تصل قيمتها لمليارات الدولارات ومستقبل الأسد وإعادة أموال سورية يقال إنها في روسيا.
وطلبت المصادر عدم ذكر أسمائها ليتسنى لها التحدث عن مسائل حساسة.
ومن شأن وضع العداوة جانبا أن يفيد الطرفين. فعلى الرغم من تخفيف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لبعض العقوبات المفروضة على سوريا، تصعب القيود المتبقية القيام بأعمال تجارية مع البلد الذي مزقته وأفقرته الحرب وعدد سكانه نحو 23 مليون نسمة.
إن استعادة الإمدادات الروسية التقليدية من الأسلحة والوقود والقمح قد تكون بمثابة شريان حياة للبلاد. وقال دبلوماسي مقيم في دمشق لرويترز إن ذلك يجعل قادة البلاد على استعداد "لمد أيديهم بالسلام حتى لأعدائهم السابقين".
ترى آنا بورشفسكايا من معهد واشنطن أن "موسكو لا يزال لديها ما تقدمه لسوريا" وهي قوية ومتجذرة بصورة لا يمكن تجاهلها.
وقالت "روسيا تحتاج ببساطة حكومة في دمشق تضمن مصالحها وستكون مستعدة لعقد اتفاق معها".
وقال مصدر في وكالة إغاثة تابعة للأمم المتحدة إن روسيا لم تصدر أي حبوب إلى سوريا في عهد الإدارة الجديدة.
لم يقل الرئيس الأميركي دونالد ترامب الكثير عن سوريا منذ أن تولى منصبه لكنه يسعى لإصلاح العلاقات مع موسكو. وقال متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية إنه مع رحيل الأسد هناك فرصة سانحة أمام سوريا "كي لا تخضع بعد الآن لهيمنة إيرانية أو روسية تزعزع استقرارها".
إعلانلكن إسرائيل حليفة الولايات المتحدة تريد من روسيا البقاء كحائط صد للنفوذ التركي وفقا لما أوردته رويترز يوم الجمعة.
وقال مصدران لرويترز إن الشرع سعى في الاجتماع الذي عقد في 29 يناير/كانون الثاني في دمشق إلى إسقاط ديون روسية من عهد الأسد.
وقال وزير المالية السوري محمد أبازيد الشهر الماضي إن دمشق، التي لم تكن مثقلة بأي ديون أجنبية تقريبا قبل الحرب، مدينة حاليا بما بين 20 و23 مليار دولار من الديون الخارجية دون أن يحدد كم منها مستحق لروسيا.
وقال أحد المصادر إن مسؤولين سوريين أثاروا خلال الاجتماع الذي استمر ثلاث ساعات مع ميخائيل بوغدانوف نائب وزير الخارجية الروسي مسألة أخرى مهمة، وهي عودة الأسد لسوريا لكن الحديث في الأمر كان فقط بصورة عامة مما يشير إلى أنها لن تمثل عقبة رئيسية في طريق إعادة بناء العلاقات.
وقال مصدر روسي كبير إن بلاده لن توافق على تسليم الأسد ولم يطلب منها ذلك.
وذكر دبلوماسي مقيم في سوريا مطلع على المحادثات أن الشرع حث أيضا بوغدانوف على إعادة أموال سورية تعتقد حكومته أن الأسد أودعها في موسكو لكن الوفد الروسي نفى وجود مثل تلك الأموال.
وفي بيان صدر بعد الاجتماع، قالت الحكومة السورية إن الشرع شدد على أن العلاقات الجديدة تتطلب معالجة الأخطاء السابقة وطالب بتعويضات عن التدمير الذي تسببت فيه روسيا. وقالت كل المصادر إن الاجتماع سار بشكل سلس نسبيا. ووصف الكرملين مكالمة هاتفية جرت بين الشرع وبوتين قبل أسبوعين بأنها بناءة.
ولدى سؤاله من رويترز يوم الثلاثاء عما إذا كانت المحادثات بين موسكو ودمشق عن مصير القاعدتين العسكريتين تحرز تقدما، قال دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين "مستمرون في تواصلنا مع السلطات السورية… لذلك دعونا نقول إن العملية جارية".
ولم ترد وزارة الخارجية الروسية على طلب للحصول على تعقيب. قال سيرجي ماركوف، وهو مستشار سابق للكرملين، هذا الشهر إن الأمور تبدو جيدة بالنسبة لموسكو.
إعلانوكتب على تيليغرام "السلطات السورية الجديدة لا ترى روسيا دولة معادية. لكن على روسيا أن تفعل شيئا للحكومة السورية مقابل القاعدتين".
معضلة سورياوأقر الشرع في تصريحات سابقة بأن "هناك مصالح استراتيجية عميقة" بين سوريا وروسيا، التي زودت على مدى عقود الجيش السوري المنحل حاليا بالأسلحة ووفرت التمويل لمحطات طاقة وسدود وبنية تحتية رئيسية أخرى.
ومن جانبها، فإن موسكو عازمة على الحفاظ على قاعدتها البحرية الوحيدة في البحر المتوسط في ظل وجود قوات أميركية في شمال شرق سوريا وقوات تركية في الشمال وقوات إسرائيلية في جنوب البلاد.
ومن شأن ذلك مساعدة موسكو على الاحتفاظ بتأثير سياسي وسط صراع دبلوماسي يهدف إلى كسب نفوذ في دمشق بعد سقوط الأسد.
والتقى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف ونظيره التركي في أنقرة يوم الاثنين. وقال مصدر تركي إن محادثاتهما شملت سوريا. ولم ترد وزارة الخارجية التركية على طلب للتعليق.
وتريد دمشق تعويضات عن الدمار الذي خلفته الحرب. ووفقا للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، من المتوقع أن تبلغ تكاليف إعادة الإعمار 400 مليار دولار.
وقال مصدر مطلع على وجهة نظر روسيا في هذا الشأن إن من غير المرجح أن تقبل موسكو المسؤولية ولكنها ربما تقدم بدلا من ذلك مساعدات إنسانية.
وفي ديسمبر/ كانون الأول، عرض بوتين استخدام القاعدتين مركزين لتوصيل المساعدات الإنسانية للشعب السوري، وقال سفير موسكو لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا إن تحالف روسيا مع سوريا "ليس مرتبطا بأي نظام". وقال المصدر من وكالة الإغاثة التابعة للأمم المتحدة إنه لا علم لهم بأي مساعدات جرى نقلها من خلال القاعدتين.
ومصير الأسد وشركائه الذين فروا إلى موسكو مسألة حساسة. وقالت المصادر الروسية والدبلوماسية إن روسيا لا تزال تمانع في تسليم الأسد، وتصر في نفس الوقت على الاستمرار في تحالفاتها.
إعلانوقال المصدر الروسي الكبير "لا تتخلى روسيا عن الناس ببساطة لأن الرياح تغير اتجاهها".