أثير – الروائي الأردني جلال برجس

إن تأملنا تاريخ المرأة منذ بدء الخليقة، سنجد أنها بعد زمن من القمع، والتشييء، قد ابتكرت طرقها الكفاحية الخاصة في اقتناص العيش، وفي امتلاك مشروعية سلطتها، وحريتها، ونزوعها إلى حياة بمستويات استثنائية في الوعي، وفي طرد الغبار، الذي تكلس بقصدية أسست لها حقباً من الأحادية، عن حقيقتها الأكيدة في كونها محور الكون، وبؤرته المضيئة؛ حقيقة لها وجهان: واحد شعري أدى إلى نصف موروثنا في قصيد شَّيد بجدارة أدبية ديواننا العربي بغنائيته، وبانحيازه أيضًا إلى سلطة المعنى.

أما الوجه الآخر فهو فعلي وفاعل على أرض الواقع رغم ضيق المساحة التي أخذت منذ قرنين تتسع ليعلو صوتها سعيًا إلى التوازن. لهذا انحازت المرأة بتطرفٍ محمود إلى أدوات إنسانية، ليس لشرعنة وجودها الطبيعي، بل للدفاع عن طبيعتها، خاصة في هذه المرحلة التي يصَّدر فيها ما هو وهمي في المساواة، ولا يتجاوز القشرة في الحقوق، ليس فقط المادية، بل المعنوية أيضًا.

والقراءة واحدة من هذه الأدوات القصوى بمعنييها المعرفي، والمُواجه؛ قراءة مستكشفة، باحثة، متوخية، مستنبطة، لم تأت في معظمها من جهة العبث، أو رفاهية اللحظة، أو حرية الحركة التي تم استبدالها في بعض المجتمعات بحرية التفكير، فأصبح المضيّ إلى الأمام ناقصًا، بل أعرجًا.
ونتيجة لهذا السياق الحر نلاحظ بعد العام 2000م تقريبًا كيف أخذت نوادي القراءة بالخروج إلى العلن في العالم العربي، وبدأت تحصد نتائجها الإيجابية على الصعيد المعرفي، رغم صخب العصر الجديد بكل هيمنته الاستهلاكية؛ إذ ازداد الطلب على الكتب بشكل ملحوظ، وحفلت مواقع مراجعات الكتب بآراء لافتة. لقد ازدادت نسبة القراءة عمومًا في العشرين سنة الأخيرة في العالم العربي بشكل لافت من الجنسين، لكن الملاحظ أن معظم أعضاء نوادي القراءة من النساء، وأن المرأة صاحبة النسبة العظمى من مجموع الفعل القرائي. هذا لافت، ومهم، ومدعاة للتساؤل؛ إذ أن ما يحدث هو بمثابة تجمع نسوي ثقافي خلاق، سينعكس في الأيام القادمة على الأجيال الجديدة إيجابًا.

خلال الخمس سنوات الفائتة دعيت إلى ما يفوق الخمسين من نوادي القراءة في الأردن وخارجه، ولم أجد إلا عددًا قليلًا من الرجال في ناديين أو ثلاثة. وأقمت عددًا من الندوات، والورشات، والمحاضرات، وحفلات التوقيع، وكان الحضور النسائي أيضًا طاغيًّا. كانت معظم الحوارات ذات سوية ثقافية عالية، وأدوات القراءة على درجة كبيرة من الوعي، وكان الانتماء للكتاب واضحًا وجليًّا بكل جديته؛ فلماذا تشكل النساء النسبة الكبرى من القراء، والمنضمين إلى الأنشطة الثقافية؟

أتحدث هنا عن تفوق ملحوظ في النسبة، ولا أتحدث عن حصرية القراءة في جنس بعينه فقط؛ فتاريخ الرجال مع القراءة شاسع وغنيّ، وعلى درجة قصوى كان لها أثر كبير في مختلف المناحي السياسية والثقافية والاجتماعية؛ إنهم يقرأون، لكن النساء في هذه المرحلة يقرأن أكثر. ربما يقول قائل إن الرجل في أيامنا هذه مطحون بين دواليب الحياة، رغم أن المرأة في عصرنا هذا باتت مطحونة هي الأخرى، خاصة بعد خروجها من فضاء البيت التربوي إلى فضاء العمل المحكوم بقوانين وممارسات لا علاقة لها بالأمومة. مع ذلك فهي تقرأ ليتسع حقلها المعرفي، ولئلا يتسرب الوقت سدى في الفراغ، وتقرأ للمتعة، ولاكتشاف الناس، والأماكن، والأزمنة، تمامًا مثلها مثل الرجل. لكننا إن ذهبنا نحو جذور انتماءها العميق للكتاب، وفعل الاستغراق في عوالمه متكئين على إدراكنا لواقعها الإشكالي الذي للآن لم يخلو من عناصر الصراع؛ سنجد أنها تسعى لاستنباط سلطتها الخاصة كمقابل غير نِدِّي مع الرجل، بل كمعادل لمفهوم السلطة الإنسانية التي تنبثق منها جملة قرارات حياتية مرتبطة بحرية الحركة والتفكير والاختيار، لهذا يخشى الكثير ممن يعانون علو سلطتهم الذكورية الندية من شراكة المرأة القارئة، ليس خشية من الصراع ونتائجه؛ بل خشية على تفشي الخلل في المعادلة التي تفترض علوية الرجل بوعي شمولي غير قابل لتفكيكه ديموقراطيًا.

ومن أرض الكتاب تقف المرأة بسلاحها القرائي بوجه المقولة التي ترى فيها ضلعًا أعوج، وكيانًا عقليًا ناقصًا لا يمكن أن يتفوق على الرجل. وانبثاقًا من هذه المنطقة الجوانية في سعيها الحثيث إلى اجتراح حياتها تقرأ المرأة أيضًا لتدفع بالخسران بعيدًا عنها؛ ففي الكتاب يمكنها أن تهزم الوحدة لتعيش عالمًا جديدًا يخرج بها على الواقع، ويمنحها تذكرة مجانية لممارسة شكلًا فريدًا من أشكال السفر إلى بلدان لها حيوات عادلة، وجماليات تبعث على التشبث بالعيش، وأزمنة ربما تأتي ذات يوم. تقرأ المرأة لئلا تسقط في تلك في الهوة التي تخلفها أزمات عديدة منها أزمتها الكونية؛ فحين تحب المرأة تبحث في الكتب عن الصورة التي تريدها لرجلها، وتبحث عن ذاتها التي لم تأخذ مكانها الحقيقي في مخيلته.

في الكتب كتف مواسٍ لامرأة خبأت وجعها، وفيها صوت قال نيابة عنها ما لم تقله، وفيها ما لم تعرفه عن ذكورة لا يمكن أن تكتمل إلا بالأنوثة، اكتمال يتجاوز المفهوم العلمي للتلاقي الذي نجده في جوانب حتى غير بشرية كثيرة في الكون، بل يتجاوزه نحو إعادة تفسير الحياة هل هي عقاب على خطيئة؟ أم حياة يجب أن تعاش وفق مفهوم الحياة بحد ذاتها؟

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

النساء في الفن.. هل يصنعن ثورة أم يقعن في فخ التمثيل الزائف؟

 

منذ عقود طويلة، لعبت المرأة دورًا محوريًا في جميع مجالات الفن، بدءًا من الإبداع وصولًا إلى التأثير الثقافي والسياسي. ومع ذلك، ورغم تقدم المرأة في مجالات الفن المختلفة، يبقى السؤال قائمًا: هل استطاعت النساء في الفن حقًا إحداث ثورة حقيقية؟ أم أنهن لا يزالن يقعن في فخ "التمثيل الزائف" حيث يُحصرن في أدوار نمطية ومجالات محدودة؟ هذا السؤال يفتح أبوابًا عديدة للنقاش حول تمثيل المرأة في عالم الفن، سواء في جوانب الإبداع أو في صناعة وتوزيع الأعمال الفنية.

النساء في تاريخ الفن: بين التهميش والتحرر

لطالما كانت النساء في الفن محط نقاش وجدل، حيث كانت مشاركتهن في التاريخ الفني شبه معدومة أو مقيدة لعدة قرون. الفن، في شكله التقليدي، كان ميدانًا يسيطر عليه الرجال، مما جعل النساء تُستبعد من المشهد الفني بشكل رسمي. ولكن مع مرور الزمن، بدأت النساء في كسر هذا الحاجز، سواء كفنانات، صانعات أو مستشعرات لثقافاتهن الخاصة.

ومع دخول النساء في مجالات الرسم، التمثيل، التصوير الفوتوغرافي، الكتابة الإبداعية، والعديد من المجالات الفنية الأخرى، بدأ المجتمع الفني يشهد نوعًا من التغيير البطيء، إلا أن النساء ظللن في معظم الأحيان يتم تمثيلهن من خلال عدسة الرجل، مما أدى إلى ظهور أعمال فنية تُظهر النساء في أدوار معينة تتعلق بالجمال، الحب، والتضحية.

الثورة أم التكرار؟

النقد الرئيس الذي يوجه إلى النساء في الفن اليوم هو ما إذا كن يقمن بالفعل بثورة حقيقية أم أنهن يعكسن فقط ما فعله الفنانون الذكور قبلهن. هناك من يرى أن العديد من الفنانات ما زلن عالقات في دائرة تكرار أدوار نمطية وتصورات مشوهة عن المرأة، بدلًا من تحدي المفاهيم السائدة. في الفنون التشكيلية، على سبيل المثال، غالبًا ما يُنظر إلى العديد من الأعمال التي تُنتجها النساء باعتبارها توثيقًا لما هو شخصي وعاطفي، بينما في الأعمال التي ينتجها الفنانون الرجال، يتم التركيز على العمق الفلسفي أو البُعد السياسي.

هل يعني هذا أن أعمال الفنانات تفتقر إلى الثورية؟ أم أنهن يواجهن ضغوطًا من المجتمع لتقديم أنفسهن في أدوار معينة كي يحققن النجاح التجاري أو الاجتماعي؟ قد يكون هناك بالفعل فجوة في التقدير بين الجنسين، حيث تجد النساء أنفسهن مضطرات للتماشي مع معايير "الجمال الأنثوي" أو "الحساسيات العاطفية" لأعمالهن، بدلًا من أن يتم تقديرهن لمجرد موهبتهن ورؤيتهن الفنية الفريدة.

التمثيل الزائف: عندما يصبح الفن سلعة

واحدة من النقاط المهمة في هذا السياق هي فكرة "التمثيل الزائف". في عصرنا الحالي، تُواجه العديد من الفنانات بتحديات تتعلق بالكيفية التي يتم بها "تسويق" أعمالهن. في كثير من الأحيان، يُطلب منهن تقديم أنفسهن بصورة معينة تتناسب مع ما يراه السوق أو الجمهور مقبولًا. بدلًا من أن يتم تسليط الضوء على مهارتهن الفنية أو رسالتهن الإبداعية، تُختزل العديد من الفنانات إلى مجرد تجسيد "الجمال" أو "الضعف" الأنثوي في أعمالهن.

هذا النوع من التمثيل الزائف يمكن أن يعيق تقدم النساء في الفن ويحد من إمكانياتهن، حيث يُحصرن في أدوار معينة تستهلكهن دون أن تتيح لهن الفرصة لإظهار طاقاتهن الفنية الحقيقية. في هذا الإطار، يعاني العديد من الفنانات من الضغط الكبير لتمثيل "الأنوثة" أو "الجمال" وفقًا لتوقعات اجتماعية قديمة. هذا يثير تساؤلات حول قدرة النساء على تجاوز تلك الصورة النمطية وخلق أعمال فنية تكون أصيلة ومؤثرة دون أن يتم تقييمهن بناءً على المظاهر.

النساء كصانعات للفن أم كأدوات في يد الرجال؟

ليس من المفاجئ أن نقول إن النساء، رغم وجودهن في عالم الفن، غالبًا ما يُنظر إليهن من خلال منظور الرجل، سواء كمصدر للإلهام أو كموضوعات تصويرية. وهذا لا يعني أن جميع الفنانات اليوم يسلكن هذا الطريق، لكن الساحة الفنية تشهد مجموعة من الفنانات اللواتي يستخدمن الفن كوسيلة لتحرير المرأة من هذه القيود المفروضة عليها. هؤلاء الفنانات يواصلن طرح قضايا جديدة ومتنوعة في أعمالهن، مثل الهوية، القوة، الضعف، الاستقلالية، والتحرر الجنسي.

من بين هؤلاء الفنانات، نجد بعضهن قد نجحن في طرح رؤى جديدة يمكن أن تُعتبر بمثابة ثورة في مجال الفن. هن يقدمن أعمالًا تتجاوز الأبعاد الجمالية الضيقة إلى أبعاد أوسع تشمل السياسة والمجتمع. ولكن، من ناحية أخرى، هناك عدد كبير من الفنانات اللاتي لا يزالن يواجهن القمع والتهميش، إذ تُعتبر أعمالهن في كثير من الأحيان أقل قيمة من أعمال الفنانين الرجال.

 

مقالات مشابهة

  • النساء في الفن.. هل يصنعن ثورة أم يقعن في فخ التمثيل الزائف؟
  • عندما تفقد المرأة قيمتها!!
  • «الإفتاء»: تلاوة المرأة للقرآن الكريم بحضرة الرجال الأجانب تجوز مع الكراهة
  • رفع دعوى قضائية ضد الروائي “كمال داود”
  • “الأكثر رعبا في العالم”.. لماذا تستمر “صافرات الموت” في إثارة الرعب حتى اليوم؟
  • بسبب صورة “سيلفي” .. أسد يهاجم رجلا في لاهور .. فيديو
  • أمين الفتوى يوضح حكم التشبه بين الرجال والنساء: القصد هو الأساس
  • في اليوم العالمي للرجل.. أمراض خطيرة تصيبهم أكثر من النساء
  • حكم تشبه الرجال بالنساء أو العكس؟.. أمين الفتوى يوضح
  • بالصورة.. الفنانة هدى عربي تنشر هاشتاق تطالب من خلاله بعدم قهر الرجال في يومهم العالمي “خلي راحتو ياخي”