تستشعر بعض الأرواح الحساسة رحيلها، وكأنها تدرك أن لبوثها أصبح قريبا وعليها التحضير للمعراج نحو مستودع الأرواح، فترسل إشارات تنبئ عن موعد الغياب، لكننا نحن المشغولين بفتنة الحياة لا ننتبه إلى تلك العلامات والإشارات، فننسى أن الرحيل قريب ونتجاهل أننا نعيش حياة مؤقتة، يغادرنا الأصدقاء دون أن نتمكن من توديعهم وداعا يليق بهم، ولما نعجز عن تصديق وقائع رحيلهم نلجأ إلى الكلمات لتخفف وقع الألم.
قد يقال إن الكتابة عن الموتى طقس عربي بامتياز إذ تكثر المراثي بعد الرحيل المفاجئ لمن حاز في القلب على مكانة ومنزلة، صديقا كان أم كاتبا جمعتهم اللحظات والكلمات والمعاني معا؛ حيث تمشي كلمات النعي في جنازة الميت وتشيعه إلى مثواه الأخير، بينما كان الأولى بنا أن نُسمع الحي تلك الكلمات ومناقبه وأهمية إنتاجه الثقافي قبل إغماضته الأخيرة، لكننا لا نفعل، وكأن الموت شرط للاعتراف بقيمة الإنسان، وأن الكتابة في هذه الحالة نعي للنعوش لا للنفوس. يرحل المبدع دون أن يحظى بالتكريم الذي يليق به، ولا حتى بالتقدير المعنوي الذي يشعره بقيمة إبداعه، حتى كلمة ترفع منسوب الشعور بالرضا في ذاته المتطلعة لرؤية قيمة إنتاجه في عيون الآخرين، وكأن الآخر مرآة التقدير التي يود الكاتب أن يرى انعكاسه فيها.
الكتابة عن الموت نعي للذات:
حين نكتب عن المغادرين لصالة الحياة إنما نكتب عن ذواتنا، فنلوّح لهم بأيدينا وكلماتنا وهم لا يلتفتون إلينا، نعم نودع الحياة من خلالهم، كأننا في صالة انتظار وموعد رحلتهم إلى العالم الآخر سبق موعد إقلاعنا. لكن لا أحد يلقي على مسامعنا النداء الأخير «تُعلن خطوط المنون عن إقلاع رحلتها المتجهة برحمة الله إلى العالم الآخر، وعلى جميع الراحلين التوجه إلى بوابة الجبانة (المقبرة) استعدادا للغياب الأبدي وشكرا لتفهمكم».
كتبت كثيرا عن أصدقاء رحلوا، والرسالة التي أكتبها سنويا إلى روح الكاتب الصديق علي حاردان (رحل يوم 24مايو2008)، هي نوع من المراثي، لأني لم أكتب عنه في حياته سوى بضعة أسطر لامني عليها لأسباب لم أتفهمها وقتها ولكن بمرور الأيام أيقنت أنه كان على صواب. كانت مرة واحدة تلك التي خالفت فيها العرف وكتبت وداعية لصديق لا يزال على قيد الحياة، عندما ألقيت كلمة عن أحمد الزبيدي (1945-2018) في ندوة أحمد الزبيدي إنسانا مبدعا، وذلك في أثناء تكريمه في النادي الثقافي من قبل مبادرة نور وبصيرة. حينها قرأت على مسامعه ما يعنيه لي أحمد الزبيدي الكاتب أولا والصديق ثانيا.
هنا أكتب عن رحيل الكاتب والشاعر والباحث الفلسطيني زكريا محمد (1950-2023) الذي غادرنا في أوائل شهر أغسطس 2023م، وزكريا محمد هو اسم أدبي لداود محمد، مثله مثل شعراء وكتّاب عرب عُرفوا واشتهروا بأسماء غير أسمائهم الشخصية، منهم الكاتب والشاعر الأردني أمجد ناصر (1955-2019) واسمه العائلي يحيى النميري، والكاتب الروائي الألماني السوري رفيق شامي (1946) المولود باسم سهيل فاضل، والمفكر اللبناني المغدور مهدي عامل (1936-1987) المولود باسم حسن عبدالله حمدان، وأيضا الشاعر السوري علي أحمد سعيد (1930) الذي اشتهر باسم أدونيس. إننا نكتشف قيمة الأسماء الأدبية بعد رحيل أصحابها، فمن يرحل هو اسم الكاتب لا إنتاجه، يغيب الشخص ويبقى النص، فالراحل هو داود محمد أما زكريا محمد فهو خالد بأشعاره وكلماته وكتبه.
اللقاء العابر:
هل يمكنك الكتابة عن شخص من أول لقاء وتعدّه صديقا، أم لا بد من شيء مشترك بينك وبين الشخص حتى تكتب عنه، ويصبح الأمر أنه ليس بالضرورة أن تلازم هذا الشخص لتكتب عنه، فالغاية ليست تناول سيرته الحياتية بقدر تتبع مشروعه الثقافي إن كان فعلا صاحب مشروع وله خط آخر في الكتابة الأدبية. وهذا ما حصل حين التقيت بالشاعر والكاتب زكريا محمد، في الدوحة أثناء مشاركتنا في مؤتمر الرحالة العرب والمسلمين في ديسمبر 2010، وكان اللقاء بتنظيم من المركز العربي للأدب الجغرافي - ارتياد الآفاق، وحين أنهيت ورقتي المعنونة بـ (ظفار في تحفة النظار) إذ قدمت قراءة في رحلة ابن بطوطة إلى ظفار وعرضت لمحة تعريفية عن الميثولوجيا في ظفار، وذكرت فيما ذكرت آلهة الجنوب ( سين، هُبل، الشرح...إلخ)، جاءني زكريا يسألني عن تلك الأسماء وذكر لي اهتمامه بالآلهة والميثولوجيا، وتحدثنا كثيرا عن الميثولوجيا والآلهة خلال فترة المؤتمر، واستمر التواصل لاحقا عبر الرسائل الإلكترونية.
حضور الموت في شعر زكريا:
من الطبيعي أن يكتب الكاتب والفنان والشاعر عن فكرة الموت بوصفه الحقيقة المقرونة بالحياة، فالكتابة عن الموت هي محاولة للتعايش مع الرحيل الأبدي، أو قل تدريب نفسي على الإذعان لحتمية الفراق. كتب زكريا عن الموت بوصفها فكرة يسهل احتمالها ولحظة يمكن استقبالها، وقد ذكرت نوال العلي في صحيفة العربي الجديد (15 سبتمبر 2014) «إن قصائد زكريا المنشورة في ديوانه «كشتبان» تستطلع الموت، وتجسّر معه وتعيش حالة فيها لحظات من الغضب وأخرى من المسالمة أو العجز وأحياناً تعرض المصادقة. لم يترك محمد وسيلة إلا وفكر في الموت من خلالها: «لكي نحتمل الموت سأجعل له ظلالاً كظل شجرة»، «تعال يا عصفور الموت، خبزتك هنا في كفي»، «حصاة الموت تحت لساني»، «الموت أمّنا البكاءة»، «الموت ذنب كبير. ذنب لا يغتفر أبداً»، أو «الموت زبالة الوعي».
وكتب الكاتب والناقد المغربي سعيد بوعيطة في مجلة أفكار الأردنية عدد (412) مقالا عن رؤية الموت ودلالاتها في ديوان «زراوند» للشاعر زكريا محمد:
« تسافر قصائد الديوان على محيط الدائرة وحوافها ثم تعود إليها من جديد، لتشكل دائرية الكون في العوالم الشعرية لديوان «زراوند» المشدودة إلى جدلية الحياة–الموت. ذلك أنّ الحديث عن الموت، في مجال الإبداع (فلسفةً وأدباً)، هو أشبه ما يكون بالحديث عن الشمس، التي أشرقت، ثم غربت، فأشرقت في مكان آخر. الموت غياب وحضور. غياب هنا، وحضور هناك. إنه بعبارة أخرى، انتقال من الألفة إلى الغرابة والاغتراب. والمرء المغترب يتجدد بانتقاله إلى مكان مألوف. لأنه في هذه الحالة يستعير ثوباً جديداً يجعله يبدو في منظر غير معهود على حد تعبير عبد الفتاح كليطيو. لهذا فإن للاغتراب علاقة وطيدة بالغياب/الموت. مثلما أن الألفة ترتبط ارتباطاً قويا بالحضور/ الحياة».
زكريا محمد وإدوارد سعيد:
اعتقلت السلطات الفلسطينية الشاعر زكريا محمد حينما شارك في مظاهرة مطالبا بمحاكمة قتلة الناشط والمعارض الفلسطيني نزار بنات. وقد ندد نشطاء كُثر في وسائل التواصل الاجتماعي باعتقال الشاعر زكريا، وممن عبّر عن ذلك الكاتب والشاعر العُماني سالم الرحبي الذي كتب «أخبار من فلسطين: سلطة أوسلو تعتقل الشاعر زكريا محمد، الحرية له» (موقع فلسطين أونلاين).
زكريا محمد مثله مثل مواطنه إدوارد سعيد (1935-2003) الذي انتقد ولام رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات بعد اتفاقية أوسلو 1993، و«انتهى المطاف بإدوارد سعيد بأن أصبح مثقف دون تفويض بتعبير الكاتب غونتر جراس، بعد القطيعة مع إدارة ياسر عرفات، الذي اتهمه سعيد بالفساد وخيانة القضية الفلسطينية، وقامت بعدها السلطة الفلسطينية بمنع تداول كتب إدوارد سعيد أو بيعها في الضفة الغربية وقطاع غزة» مثلما ذكر الكاتب الفرنسي إيف كلفارون في كتابه (إدوارد سعيد: الانتفاضة الثقافية).
زكريا محمد ومحمد الحاج سالم:
يصعب على الكاتب أن يجد خصومة بين كاتبين، تربطه بهما صداقة خاصة، فذات يوم قرأت منشورا للكاتب والباحث التونسي الدكتور محمد الحاج سالم، يتهم فيه الباحث والشاعر زكريا محمد بالانتحال بعد أن أصدر الأخير كتابا بعنوان (ديانة مكة في الجاهلية: كتاب الميسر والقداح) الصادر عام 2014 عن دار الناشر في رام الله، وكان الباحث التونسي محمد الحاج سالم قد ناقش أطروحة دكتوراه عام 2009 بعنوان (من الميسر الجاهلي إلى الزكاة الإسلامية: قراءة إناسية في نشأة الدولة الإسلامية الأولى)، وقد أنكر المرحوم زكريا محمد ذلك. ولأنني لم أطلع على كتاب ديانة مكة في الجاهلية، فلم أستطع أن أتبنى موقفا من الموضوع. مع أني كنتُ مطلعا على أطروحة الحاج سالم وأعرف انغماسه في الموضوع الذي تجاوز ما يقارب 900 صفحة. وفي جلساتنا العديدة سواء في المقاهي أو عند زيارته في بيته، أجده يحدثني عن أجزاء من الأطروحة.
إن قدسية الحياة ومتعتها ومباهجها تفرض الاعتراف بالآخر، وتقدير إنجازاته والثناء على تفرده في المجال المنتمي إليه، فلا معنى لعبارات الرثاء وفائض الأحزان على الراحلين، فقيمة أي استحقاق تكمن في الاعتراف للفرد بقيمة إبداعه، لذا نأمل أن تتغير طرق وأساليب البكاء على الموتى، وتقديم الورود له في حياته بدلا عن سكب الحبر على ذكراه.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: زکریا محمد الکتابة عن عن الموت
إقرأ أيضاً:
رحل محمد حسن وهبه، وما الذي تبقى من زيت القناديل؟
صديق عبد الهادي
(1)
للشاعر الألماني "برشت" او "بريخت" كما ينطقه آخرون، قصيدة بليغة، محتواً ونصاً، وخاصة عند الإطلاع على تلك النسخة من ترجمتها البديعة التي بذلها صديقنا ومربينا العزيز دكتور محمد سليمان. ولتلك الدرجة التي يحار فيها المرء في أي لغةٍ أصلٍ كتبها "برشت"؟! وقد جاءت القصيدة تحت عنوان "أسئلةُ عاملٍ قارئ".
إنه لمن الصعب الإقتطاف منها، لأن الإقتطاف يهدمها مبناً ومعناً، أو يكاد! ولكن، لابد مما ليس منه بد. إذ يقول/
"منْ بنى طيبة ذات الأبواب السبع
الكتب لا تحوي غير أسماء الملوك
هل حمل الملوك كتل الصخر يا ترى؟!
وبابل التي حُطِمتْ مرات عديدات
منْ أعاد بناءها كل هذه المرات؟!
وفي أي المنازل كان يسكن عمال ليما
الذهبية المشرقة؟!
وفي المساء - حين إكتمل سور الصين العظيم –
أين ذهب البناؤون؟!
روما الجبارة مليئة بأقواس النصر
منْ شيَّدها؟
وعلى منْ إنتصر القياصرة؟!
وهل كانت بيزنطة الجميلة تحوي قصوراً
لكل ساكنيها؟!".
كلما أطلَّتْ هذه القصيدة أمامي ساءلتُ نفسي، ألا تنطبق تلك التساؤلات، الثرة والغارقة في الجدل، على النشاطات الإنسانية والنضالية في حقول الحياة الأخرى؟، وبالطبع، دائماً في البال أولئك "الفعلة" "المجهولين" "تحت الأرض"، الذين كلما تحطمت "بابلنا"، أو كادت، أعادوها لنا في كامل عافيتها وبهائها!
كان الراحل محمد حسن وهبه، وعن جدارة، أحد أولئك الــــــــ"تحت الأرض"، ولشطرٍ كبيرٍ من حياته.
(2)
تعرفت على رفيقنا الراحل في تقاطعات "العمل العام"، بعد عودة الحياة الديمقرطية إثر إنتفاضة مارس/أبريل في العام 1985. فمن الوهلة الأولى لا يعطيك الإنطباع بحبه للعمل العام وحسب وإنما، وفي يسر، بأنه إنسانٌ صُمم لذلك. رجلٌ سهل وودودٌ وذو تجربة صلدة، تتقمصه روحٌ آسرة ومتأصلة لا فكاك للمرء من إيحائها، بأنك تعرفه ومنذ زمن طويل. كان يتوسل المزحة ودونما تكلف في تجاوز المواقف المربكة، وكم هي غاصةٌ بها الحياة ومسروفةٌ بها غضون العمل العام ومطارفه!
عملت في صحبته وصحبة صديقنا المناضل الراحل محمد بابكر. والأثنان كانا يمثلان مورداً ثراً في التصدي لقضايا العمل العام، وخاصةً النقابي. طاقات مدهشه يحفها تواضع جم، أكثر إدهاشٍ هو الآخر. تعرفت على الراحل محمد بابكر في قسم المديرية بسجن كوبر إبان نظام المخلوع نميري ولفترة امتدت لأكثر من عام. وهو الذي قدمني للراحل "محمد حسن وهبه"، ومنذها كانت صداقة ثلاثتنا.
جرتْ انتخابات النقابات الفرعية منها والعامة في العام 1988، وفازت "قوى الإنتفاضة"، التي كانت تضم كل الإتجاهات، ما عدا الإسلاميين الذين كانوا يمثلون او بالأحرى يطلق عليهم "سدنة مايو". فازت "قوى الإنتفاضة" بما مجموعه 48 من عدد 52 نقابة عامة لاجل تكوين الإتحاد العام للموظفين في السودان.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما تمّ بعد إنتفاضة مارس/ ابريل 1985 في شأن إستعادة النقابات وفرض شرعيتها من خلال الإنتخاب الحر والديمقراطي هو ما لم تنجح في فعله قوى الثورة عقب ثورة ديسمبر 2018 مما كان له الأثر الكبير في كشف ضعف الثورة وفي وتأكيد غفلتها. فلقد ظلت كل القوانين كما هي وكأن ثورة لم تكن!
كان "محمد حسن وهبه" أحد الذين كانوا من وراء إنجاز قيام الإتحاد العام للموظفين، والذي تمً على إثره إنتخاب الراحل محمد بابكر وبشكل ديمقراطي أميناً عاماً له. كان "محمد حسن وهبه" مسؤولنا الأول عن إدارة تلك الحملة وقيادة ذلك العمل. كان أحد المعنيين بإعادة "بناء بابل"، وقد فعل ذلك على أكمل وجه. والآن جاء يوم شكره المستحق.
(3)
لم يجمع بيننا العمل العام لوحده وإنما جمعت بيننا "البراري" بكل تفردها وزخم "قواها الإشتراكية" التليدة إن كان في ترشيحها لـ"فاطمة" أو في تكريمها لـ"سكينة عالم"، والذي كان وبعقودٍ طويلة قبل تجشم "هيلاري" و"كاميلا" لمصاعب المعاظلة مع عتاة الرأسمال!.
كنت أغشاه كثيراً، وليس لماماً، للتزود من معارفه الحياتية ومن فيض روحه السمح، ومن لطائفه كذلك. كنت أسكن "كوريا" ويقطن هو في "إمتداد ناصر". ذات مساء وجدت في معيته المناضل الراحل "يوسف حسين"، وكما هو معلوم فهو رجل صارم القسمات وللذي يراه لأول مرة لا شك أنه سيظن أن هذا الرجل بينه والإبتسام ما تصنعه القطيعة البائنة!. أنهما صديقان، ولكن للمرء أن يعجب كيف تسنى ذلك، فــ"وهبه" سيلٌ متدفق من "الحكاوي" و"المِلَح" والضحك المجلجل؟!
إن لوهبه قدرة فائقة على صناعة الأصدقاء، إن جاز القول.
وهبه حكاءٌ بإمتياز، لا يدانيه أحد. كان يبدع حين يحكي عن طُرَفِ زميله الراحل الأستاذ "أبو بكر أبو الريش" المحامي، الذي تميز هو الآخر بالحس الفكه والروح اللطيف، والطيب. كانت طرفته الأثيرة لوهبه، وهما طلاب في المدرسة الثانوية في مدينة بورتسودان، حين سأل أحد الأساتذة "ابوبكر" عن إسمه بالكامل فقال له :إسمي أبو بكر أبو الريش. فأردف الأستاذ: هل فعلاً اسم أبيك أبو الريش؟، فرد عليه أبو بكر: "بالمناسبة يا أستاذ أمي ذاتها إسمها أبو الريش!"، فإنفجر الطلاب بالضحك. حينما يحكي وهبة هذه الطرفة يحكيها وكأنها حدثت بالأمس، وحتى حينما يعيد "حكوتها" يعيدها بشكلٍ مختلف، في كل مرة، عن سابقتها. فتلك موهبة لا يتوفر عليها الكثيرون!
إن في مرافقة رواد العمل العام من أمثال وهبه، والذين يجمعون كل تلك المواهب، يصير العمل العام وبكل صعوباته وتعقيداته متعة، فضلاً عن كونه في معيتهم يمثل مدرسة حياتية نوعية ترقى إلى مستوى الرسالة المقدسة، التي يكون المرء على إستعدادٍ كاملٍ للتضحية بحياته من أجلها.
(4)
إن رفيقنا الراحل "محمد حسن وهبه" هو أحد الذين قدموا التضحيات الجسام بدون منٍ او سعيٍ مبغوضٍ للشهرة. عاش بسيطاً بين الناس وكريماً ذا "يدٍ خرقاء" حينما يطلب الناس بيته. إنه أحد أولئك الذين هم "زيت القناديل"، الذين تساكنوا، " تحت الأرض "، وتآلفوا مع الحرمان من طيب العيش والأهل، ولردحٍ طويلٍ من حيواتهم! إنه أحدُ منْ عناهم "برشت" أيضاً، حين قال/
"والعظمة تبرز من داخل أكواخٍ بالية
تتقدم في ثقة
تزحم كل الآماد
والشهرة تسأل حائرة - دون جواب –
عمنْ أقْدَمَ، أفْلَحَ، أنْجَزَ هاتيك الأمجاد!
فلتتقدم للضوء وجوهكم، لحظات
فلتتقدم هاتيك المغمورة مستورة
فلتتقدم كي تتقبل من أيدينا
كل الشكر
وكل الحب" (*)
فلك كل الشكر، رفيقنا "محمد حسن وهبه"، ولك كل الحب.
ولتخلد روحك في عليين.
___________________.
(*) من قصيدة "تقريظ العمل السري".
نقلا من صفحة الاستاذ صديق عبد الهادي على الفيس بوك