هل أنا مجنون لأن أوبنهايمر لم يُعجبني؟
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
هل أنا مجنون لأن أوبنهايمر لم يُعجبني؟
في السادس عشر من يوليو، وبعد الاختبار الأول الناجح للقنبلة الذرية في صحراء نيو ماكسيكو، أُعدت عريضة (1) موجهة لترومان -رئيس الولايات المتحدة وقتها- تُطالب بألا تلقى القنبلة على اليابان. وقّع على العريضة 70 عالما ومشتغلا في مختبرات مشروع مانهاتن. أوبنهايمر لم يكن واحدا منهم.
يعود كريستوفر نولان إلى الشاشة الكبيرة ككاتب السيناريو والمخرج لفيلم «أوبنهايمر». يتبع الفيلم الحياة المهنية والشخصية للفيزيائي روبرت أوبنهايمر الذي أدى دوره كيليان مورفي. الفيلم مبني على كتاب السيرة الذاتية «American Prometheus» لمؤلفيه كاي بيرد ومارتن ج.شيروين، الذي تجدر الإشارة إلى أني لم أقرأه، وأن أي تعليق يرد لاحقا -حول شيء من محتوى الكتاب الذي لم يجد طريقه إلى القطع النهائي من الفيلم- يستند إلى مصادر ثانوية.
ولد أوبنهايمر في نيويورك لعائلة ثرية مهتمة بالثقافة، ودرس الفيزياء والكيمياء في أفضل الجامعات الأمريكية والأوروبية، حيث التقى بأهم الباحثين الذريين في ذلك الوقت، قبل أن يصبح أستاذا في بيركلي. قبل زواجه، أحب أوبنهايمر فيزيائية وعضو في الحزب الشيوعي الأمريكي، العلاقة التي ستُستخدم لاحقا (من بين دلائل عديدة) لتأكيد ميوله الشيوعية التي لم يكن يُتسامح معها خلال الفترة المكارثية (2).
سردية العبقري
ثمة وصفة لأفلام ومسلسلات العباقرة التي تطبخها هوليود. تبدأ القصة برصد معاناة العبقري الطفل/الشاب الذي تحول عبقريته دون فهمه أو إجادته خارج نطاق اهتمامه المحدد (نرى أوبنهايمر يُعاني من الاكتئاب، نرى مُعلمه ينتقص منه؛ لسلوكه الأخرق في المختبر)، يتلو هذا صعود نجمه (نرى أوبنهايمر هنا يجد نفسه في الفيزياء النظرية، ونراه يُنصّب رئيسا علميا لمشروع مانهاتن)، وينتهي بمعاناة ما بعد النجاح أو الشهرة (سحب اللجنة(3) تصريح أوبنهايمر الأمني، ونهاية تعاونه الرسمي مع الحكومة الأمريكية). والحدث الأخير سُخر ليكون الهيكل الأساسي لحكاية أحداث الفيلم.
يعرف صانعو الأفلام عموما التحدي القائم عند تناول السير الذاتية. من جهة يرغب صانع العمل في شرح خلفية الشخصية لتكون تصرفاتها وردود فعلها مبررة، لكن من جهة أخرى ثمة خطورة في المبالغة في عرض الدلائل المنفصلة، لخطورة أن يظهر العمل النهائي غير متصل أو متناسق، وأن يؤدي القفز من حدث لآخر عبر الخط الزمني للتأثير سلبا في صنع ارتباط مع المشاهد. ثمة أدوات تأطيرية تُسخر لمحاولة تحقيق هذا التوازن: المقابلات (I, Tonya - 2017)، المعارك القضائية أو التحقيقات (The Social Network - 2010)، أو السرد الشخصي (The Wolf of Wall Street - 2013).
أشعر أن الأمثلة المذكورة أعلاه، نجحت جميعها في معالجة القصة من الداخل، لبناء المنحنى السردي الملائم لها والخاص بها، عوضا عن فرض قالب ما عليها، حتى مع استخدام الحيل التأطيرية المعروفة.
المسؤولية التي تأتي مع المعرفة
شكّل إلقاء القنبلتين النوويتين على اليابان، منطلقا للنقاش حول مسؤولية العالِم، ومسؤولية المجتمع العلمي (4). حيث طُرح نوع جديد من الأسئلة من قبيل: هل فقد العِلم براءته وطبيعته الأخلاقية المحايدة، في طريقه لحصد المعرفة المسخرة لخدمة البشرية؟ ما هي مسؤولية العالِم/ة، وهل يقع عليه واجب التحقيق في التبعات المحتملة لمشروعه البحثي؟
ثمة مواقف متناقضة من هذه القضية في الوسط العلمي، ولدى فلاسفة العلم على حد سواء. يُجادل البعض (5) أن العالِم لا يُمكن أن يُساهم مساهمة فعلية ما لم يكن حُرا. وهذا التحرر يشمل أيضا عدم وجود قيد أخلاقي، فطبيعة العلم الاستكشافية، تجعل من نتائج ممارسته صعبة التنبؤ، كما يصعب الإلمام المبكر بالتطبيقات المحتملة للمعرفة التي ينتجها. فوق هذا، فالعالِم وبحكم افتقاره لبعض الخبرات السياسية، أو الأخلاقية، لا يعود مؤهلا لصناعة القرار.
ثمة -بالطبع تفاوت في حدة هذا الموقف، فبينما يُخلي البعض العالِم من المسؤولية بشكل كامل، يُجادل البعض أن من واجب العالم التفكر في تبعات تحقيقه العلمي، وهو وإن لم يكن مؤهلا في صنع القرار بإمكانه المساهمة في صناعته. إلا أن أوبنهايمر كان من الذين رأوا أن العلماء لا يحق لهم امتلاك صوت أعلى من بقية أفراد الشعب. يُمكن بالطبع محاججة هذا بالقول إن امتياز الوصول لنوع متخصص من المعارف، يأتي مع مسؤولية اجتماعية تشرح مدى موثوقية هذه المعرفة، وتبعات تطبيقها. البعض يذهب إلى فرض مسؤولية على نوع المعرفة التي تستحق النشر، وتلك التي يُجدر أن تُخفى عن العلن.
يجدر بنا التنبيه إلى أن المسؤولية التي نتحدث عنها في هذا الصدد، هي مسؤولية العالِم نحو أفراد المجتمع، وليست مسؤولية العالِم تجاه عمله، أي أنها لا تُعنى بأخلاقيات الممارسة العلمية السليمة، من مصداقية وشفافية ونزاهة وغيرها من المبادئ التي تحكم جودة المنتج العلمي.
أقول هذا لأشرح كيف أثرت خلفيتي على تلقي الفيلم. فكون المرء مشغولا بأخلاقيات العلم، يدفعه للتفكر الطويل في الظروف التي حولّت أداة لطالما وعدت بالازدهار وتسخير الطبيعة لتحقيق الرخاء (أعني العلم) إلى أداة تدمير تُهدد الوجود البشري بأسره. فوق هذا ما الذي يدفع رجل العلم هذا لأن يُساهم في أمر هدّام كهذا؟ هل أعماه الفضول، وأغراه أن يكون في مشروع واعد، للحد الذي تجاهل فيه التفكير بتبعات عمله؟ ولماذا اتخذ علماء مثل آينشتاين وزيلارد موقفا واضحا من المسألة في وقت مبكر، فيما احتاج أوبنهايمر لوقت طويل لإدراك ما يعنيه عمله. لم يُعرب أوبنهايمر عن أي شعور بالذنب، وبقي يُعد ما قام به ضروريا وفق ما توفر لهم معلومات وقتها، وحاجة لإنهاء الحرب. لكنه مع ذلك جاهد مع زملائه لتقنين استخدام هذا السلاح الفتاك.
حري بالذكر أن الألمان تخلوا عن مشروعهم النووي؛ لأنهم لم يجدوا أن من الممكن تجهيز قنبلة نووية في الوقت المناسب. كان واضحا أيضا لدى قادة مشروع مانهاتن أنها على الأغلب لن تُنجز قبل انتهاء الحرب (رُدع الألمان في الحقيقة قبل إلقاء القنبلة الذرية، كان هيتلر قد مات قبل إلقاء القنبلة الأولى بحوالي شهرين). الحافز الأساسي لأوبنهايمر لم يعد موجودا في مراحل المشروع النهائية. لكن ثمة تكهن بأنه أراد اختراع سلاح يُنهي كل الحروب.
في سياق هذه الأسئلة الطارئة، أجد اختيار المخرج -لأن يجعل المعضلة الأساسية لفيلمه علاقة الفيزيائي بالشيوعية- غير موفق. استخدام الأبيض والأسود في بعض المشاهد، كان مشتتا أكثر منه مُساهما في فهم الأحداث. نوع الحوارات، والمكان الذي تجري فيه الأحداث (سواء المختبر، غرفة جلسة الاستماع، المحكمة) تقترح على نحو كافٍ مكان الحدث من الخط الزمني. وقرار استخدام الأبيض والأسود غير مفهوم، خصوصا مع وجود دلائل كافية على موقعنا من القصة. ورغم طول الفيلم إلا أن الواحد منا يعجز عن صنع علاقة مع أي من شخصياته. وخصوصا شخصية آينشتاين التي تظهر من الفراغ لإلقاء تعليق ما ثم تختفي. أغفل الفيلم كذلك الحوادث المميتة في مختبرات لوس ألاموس، وأحداث مفتاحية في حياة أوبنهايمر كانت يُمكن أن تُسخر لفهمه، مثل شروعه في مسابقة قطار بسيارته، الحادث الذي أسفر عن إصابة الفتاة التي كانت بصحبته.
الفيلم ورغم أنه مُبهرٌ تقنيا في العموم، لكنه ضعيف دراميا. ورغم أن المرء قد يُعجب ببعض أجزائه على نحو منفصل، يفشل في تقديره ككل. فوق هذا، ثمة شعور أن القصة ذات تعقيد مزيف. ثمة الكثير مما يقال في جلسات التحقيق، ثمة الكثير مما يقوله العلماء (والذي تتنبه سريعا إلى أنه مجرد حشو بكلمات وعبارات رنانة من قبيل: هل الذرة موجة أو جُسيم؟)، ثمة موسيقى تصويرية تقترح عليك طوال الوقت ما يفترض بك أن تشعر به، على نحو لا تنجح القصة وحدها على نحو عضوي وطبيعي في اقتراحه.
لعل ما يُكبره الكثيرون في الفيلم، كونه لا يُطلق حكما على أوبنهايمر، لكني شخصيا أرى هذه نقطة ضعف لا قوة. أعني أن الفيلم يجعلك غير قادر على تحديد ما يُريد صانعه قوله. الفيلم غير جدلي بالمرة؛ لأنه ببساطة لا يتخذ موقفا. أقصى ما يُمكنك أن تقوله بشأنه هو إذا كان قد أعجبك أم لا، لكن لا يُمكنك أن تقول إنه أثار فيك أفكارا من أي نوع: لا حول طبيعة الشر، ولا حول المسؤولية العلمية، ولا حول فداحة الحرب حتى. ثمة مثلا سرديات كان يُمكن تبنيها، مثل سردية الشر الكامن: العالِم الشاب الذي حاول تسميم أستاذه وهو طالب، يُساهم لاحقا في صناعة قنبلة تحصد أرواح الآلاف. أو الشر التافه: رغم أنه أبو القنبلة الذرية، إلا أنه لا يُمكن أن يُحمل ذنب ومسؤولية ما انطوى على عمله من نتائج، ألم يقل له ترومان حين اشتكى بأن يداه ملطختان بالدماء، أن الدماء في يديه هو (أي ترومان)، حاملا عنه بذلك المسؤولية. كلها سرديات محتملة لم يتم تبني أي منها بإخلاص.
ثمة فيلم وثائقي يحمل عنوان «The Atomic Cafe (المقهى الذري)» إنتاج (1982). يتناول الفيلم موضوع تطوير القنبلة واستخدامها، وتبعات ذلك. يعتمد الوثائقي على مواد أرشيفية سواء تدريب الجنود على إلقاء القنبلة، ردود فعلهم، التبعات التدميرية لإلقائها، الدمار والأرواح التي حصدتها، فرحة انتصار الحلفاء، أثر هذا الحدث التاريخي في الثقافة العامة، الملموس في المواد الترفيهية، الروتينات الكوميدية، الأغاني، الإعلانات. أقول إن الفيلم يعتمد بشكل كامل على المواد الأرشيفية، المواد الدعائية والإعلامية لتلك المرحلة، يمتاز بأنه لم يُضف أي مواد حديثة، ولا يصحبه أي تعليق، حتى الموسيقى المصاحبة، هي من أغاني تلك الحقبة. أقول إن هذا الفيلم الذي لا يصاحبه أي تعليق، نجح نجاحا باهرا في أن يُخبرنا بكل شيء، وعلى رأسها موقف صانعيه.
مثال آخر، هو المسلسل القصير Chernobyl - 2019 الذي كان قادرا على رصد كارثة تشيرنوبل، مع معالجة أسئلة شيقة وطارئة حول التعامل مع الكوارث، والعلاقة المضطربة (للأبد) بين العلماء والساسة، خصوصا حين رفض السياسيون الاعتراف في أن ثمة خللا في تصميم المفاعل النووي، وأن مفاعلات أخرى في طريقها لأن تنصهر أيضا؛ لأن هذا سيعني الاعتراف بمحدودية تكنولوجيا الاتحاد السوڤييتي.
في الكتابة عما لم يُعجبك في فيلم مثل أوبنهايمر -الذي يُلاقي شعبية هائلة- مغامرة. الحقيقة أنني وجدتُ على ريديت شخصا يقول «هل أنا مجنون لأن أوبنهايمر لم يُعجبني؟» ويشعر في الواقع بعرض ما لم يُعجبه على نحو مقنع فهو يقول مثلا إن فيلما مليئا بالنجوم لا يلائم بالضرورة نوع أفلام المرحلة، لأنه يشغلك عن الانغماس في الحدث. يقول أيضا إن المبالغة في القطع لا تُلائم فيلما يعتمد بشكل أساسي على الحوارات. قراءة ذلك الثريد أشعرني أخيرا أنني لستُ وحدي!
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: