في نُزُل متواضع بواحد من أحياء لشبونة، وفي ليلة شتوية من لياليها عام 2019، اجتمعنا في مطبخ النُّزُل حيث كنا نقيم: شاب بلجيكي يتدرب في السلك الدبلوماسي، وفرنسي من أصول إفريقية يدرس الهندسة، وكندي في العقد الثالث جاء للسياحة، وأنا. أخبرنا الكنديّ أنه يعمل في قطع الزجاج، ولفت انتباهي شاربه الكث على غير عادة بني جنسه ممن هم في مثل عمره.

تبادلنا جميعا أطراف الحديث، وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها اسم «جوردان بيترسون». أخبرني عامل تقطيع الزجاج أنه عالم نفس إكلينيكي كندي، برز اسمه إعلاميا إثر رفضه لتشريع يجبر المواطنين الكنديين على استخدام ضمائر خاصة لمخاطبة المتحولين جنسيا، بدلا من ضمائر المذكر والمؤنث المعتادة، على أساس أن التشريع معادٍ لمبدأ حرية التعبير. كان السياق كله جديدا تماما بالنسبة لي. وكان من خلاصة الحديث أنني فهمت بعضا مما لم أستوعبه عام 2016 إثر وصول ترامب لسدّة الرئاسة: فهمت – جزئيا على الأقل - لماذا خسرت امرأة مخضرمة في عالم السياسة بذل لها حزبها الغالي والنفيس مثل هيلاري كلينتون، أمام مليونير متعالٍ صلته بعالم تليفزيون الواقع أقوى عشرات المرات من صلته بعالم السياسة! فهمت أن في الغرب ثمة طاقة غاضبة، محافظة، شعبوية، كانت تبحث لها عن تجسيد سياسي ووجدته في ترامب؛ طاقة يحركها -فيما يبدو- شعور كامن بالتهديد.

شغلني أمر بيترسون لفترة ليست بالقصيرة. استوقفتني مليا فكرة «المثقف اليميني» الذي يخاطب جمهوره عبر اليوتيوب ليناقش معهم مسودة «المانفيستو المحافظ»، إلى درجة أن منظمي ما عرف بـ«مناظرة القرن» عام 2019 بعنوان «السعادة: الرأسمالية ضد الماركسية» لم يجدوا أفضل منه ليكون ممثل اليمين أمام ممثل اليسار، الفيلسوف والمنظر السلوفيني سلافوي جيجيك.

كنا نردد دوما أنا وأصدقائي مقولة «الثقافة يسار» المنسوبة لسارتر؛ فأولى أوراق اعتمادك كمثقف أن تدافع عن منظومة الحقوق والحريات في نسختها الغربية، وتنتقد المجتمع الذكوري المتسلط، وتنحاز إلى الأفقر والأضعف، وتدعم حق الجميع في التعبير عن هويته الدينية والجندرية والإثنية... إلخ. لكن أن تكون عالما متخصصا، تعيش في الغرب، ولديك ملايين المتابعين على تويتر وغيره من وسائل التواصل الاجتماعي، وتجادل بنجاح لافت وبقوة أن تقاضي النساء مرتبات أقل من الرجال لا يعني إطلاقا أن المجتمعات الحديثة يهيمن عليها الذكر- كل ذلك كان جديدا ومحرّضا على التفكير.

الانشغال الأساسي في هذا المقال منصب على الاستقبال «العربي» لبيترسون؛ على السؤال الشائق: حين تَعبر الأفكار البحر، كيف تبدل ثيابها، وتعيد إنتاج سياقاتها على نحو يعطيها دلالات جديدة لم تكن لها في البداية؟

وفي عصر هيمنة الصورة، كان طرف الخيط الذي التقطتُه مقاطع الفيديو التي رأى فيها مستخدمون عرب ليوتيوب ما يستحق عناء الترجمة إلى العربية، بعيدا عن مقاطع الفيديو التي يوجهها بيترسون نفسه على قناته الرسمية لجمهوره من العرب. والحقيقة أن حضور بيترسون على الشبكة بالعربية بخلاف اليوتيوب محدود ومحدد في خمس نطاقات أساسية: أولها التعريف العابر به وبالمعارك الثقافية التي خلقت شهرته على نحو يتسم بالاختصار، وثانيها تقديم كتابه الأشهر «12 قاعدة للحياة: ترياق للفوضى»، وثالثها: نقاشات نخبوية محدودة للغاية تعرض أفكاره وتشتبك معها اشتباكا سريعا. ورابعها: انتقاد أفكاره التي أطلقها مؤخرا حول الإسلام (وهذا يحتاج إلى مقال مفصَّل)، وخامسها: بعض التحليلات لمناظرته مع جيجيك المشار إليها. أما على اليوتيوب فكانت النسخة الجماهيرية أو الشعبية العربية لبيترسون أشد جلاء، والدلالات الثقافية لها أولى بالاعتبار.

ولو أنك كتبت اسم جوردان بيترسون في خانة البحث على اليوتيوب، فأولى النتائج التي ستصادفك في الأغلب فيديو بعنوان «جوردان بيترسون بالضربة القاضية»، وفيه مقتطف مترجم (دقيقة واحدة تقريبا - 1.7 مليون مشاهدة) من مقابلة شهيرة لبيترسون مع كاثي نيومان، المذيعة البريطانية. تسأله كاثي بخصوص معركة الضمائر المشار إليها آنفا: «لماذا يجب أن نقدّم حقك في حرية التعبير على حق شخص متحول جنسيا في أن لا يشعر بالإساءة؟»، فيجيبها: «لأنه حتى نتمكن من التفكير يجب علينا أن نخاطر بما قد يؤذي مشاعر الآخرين». ينتهي المقطع القصير بنظرة متفكّرة من كاثي، ووقفة صغيرة، يباغتها بيترسون بعدها بقوله ضاحكا: «لقد أوقعت بك!»، وتقره كاثي على ذلك.

بالعدد نفسه من المشاهدات (1.7 مليون) يأتي فيديو آخر بعنوان «جوردان بيترسون في اختلاف الرجال عن النساء»، وفيه مقتطفات من برنامج حواري مطول نرويجي-سويدي عنوانه على اسم المضيف «سكافلان» Skavlan يضم بيترسون وسياسية سويدية ومؤلف نرويجي. يستغرق تسجيل البرنامج الأصلي كاملا على اليوتيوب 39 دقيقة، لكن رافع الفيديو العربي اختصر نسخته العربية في خمس دقائق، ضمت مداخلات بيترسون وحده دون مداخلات الضيفين الآخرين. لبيان وجهة نظره في الفروق بين الجنسين، يشرح بيترسون مثلا أنه حتى في الدول الإسكندنافية فإن معظم المهندسين من الرجال ومعظم الممرضين من النساء؛ لا لأن هذه الدول لا تتبنى نهجا مساواتيا، بل لأن الفارق الأوضح المثبَت علميا بين الجنسين يتجلى في اهتمام الرجال بالأشياء واهتمام النساء بالبشر، وهو ما انعكس في اختيار المهنتين على النحو السابق.

تجسّد المقابلتان -وغيرهما كثير- السّجال بين فريقين كبيرين في الغرب: أولهما أنصار الصوابية السياسية والنزعة الثقافوية في تفسير الاختلافات بين الرجال والنساء، الذين يردون الفوارق بين الجنسين إلى الهندسة الاجتماعية المتراكمة تاريخيًا، ويزعمون من ثمَّ أنَّ هندسةً اجتماعيةً تسير في الاتجاه المضاد كفيلة بتحقيق المساواة «العادلة» بين الجنسين، أو كفيلة بالسماح بتنوعات جندرية أكثر بكثير من الثنائية المعروفة. أما الفريق الثاني فهم معادو الصوابية السياسية وأنصار النزعة البيولوجية التطورية في تفسير تلك الاختلافات، ومنهم بيترسون الذي أكّد في أكثر من سياق أن الهندسة الاجتماعية في السياق المضاد لن تؤدي إلا إلى السعي إلى استعادة التوازن من خلال تعميق الاختلافات على أساس بيولوجي.

لكن مثلما أُريد للمقابلة الأولى أن تُختصر دلالاتها في جواب مسكت من رجل على امرأة على طريقة التراث، واختُصِرَتْ الخلافات العميقة والمتشعبة بين وجهة نظر الطرفين في توجيه «الضربة قاضية» لمناصري حقوق المرأة كما ورد في التعليقات؛ أراد رافع الفيديو الثاني أن يبرز معاني المغالبة والإفحام، فلم يختر صورة لبيترسون شارة له، بل فاجأنا فاختار صورة السياسية السويدية (التي لم نسمع لها صوتا طوال الفيديو في نسخته العربية المختصرة)، مع سهم أضافه إلى الصورة مشيرا به إلى وجهها وقد بَدَتْ على وجهها أمارات الحيرة والانهزام، ليصدَّر لنا «ضربة قاضية» أخرى وجهها بيترسون لدعاة المساواة.

الدالّ أن أجزاء من المقابلة الأولى مع كاثي نيومان قُدِّمَتْ مصحوبة بالتعليق في فيديو تعليمي عنوانه «لا تسمح لهم يحشرونك» (1.4 مليون مشاهدة)، قدِّمَ فيه بيترسون كأنه معلم خَطابة على طريقة اليونانيين القدماء، مجسِّدًا مثالا على كيفية الرد المُفْحِم على المتنمرين.

والدال أيضا أنه حين توجد نسخ مطولة ومفصلة لهذه المقابلات في مقاطع أخرى لحرص المترجم على نقل تلك الخلافات بقضها وقضيضها، حيث تظهر الندية أوضح بين بيترسون ومضيفيه، تنخفض المشاهدات انخفاضا ملحوظًا (170 ألف مشاهدة في حالة مقابلته مع كاثي نيومان، و62 ألفا في حالة مقابلته مع هيلين لويس، وكلاهما عن النسوية وهيمنة الذكر والفروق بين الجنسين)، وتصل إلى (30 ألفا) في حالة مناظرته مع جيجيك، الأكثر طولا وعمقا والأبعد عن الضربات القاضية الموجهة إلى النساء!

ولن تمضي بك المقاطع التي تحظى بمشاهدات أقل بعيدا عن المسار السابق، فستظفر بعناوين من قبيل «لماذا ليس هناك نساء كثر في مواقع النفوذ؟»، و»هل يستطيع النساء والرجال العمل معا؟»، و«تعريف السلطة الأبوية والرد على النسويين»، و«عمل المرأة ومساحيق التجميل». هذا إلى جانب مقاطع يمارس فيها بيترسون عمله الأصلي كعالم نفس إكلينيكي، ويوجه فيها نصائح للشباب تجعل حياتهم أفضل، لكن ربما كان أمرا ذا مغزى أن أعلاها مشاهدة كان بعنوان «لماذا يجب عليك أن تكون وحشا؟» (809 آلاف مشاهدة في عشرة أشهر فحسب).

يجسد بيترسون في الاستقبال العام له مفارقة متكررة؛ فقد يبدو أن النسبية الثقافية لتيارات ما بعد الحداثة في الغرب قد ذهبت إلى آخر الشوط أو كادت، حتى زعزعت القيم التقليدية كلها، وصولا إلى التقسيم النوعي للبشر نفسه ومعنى الوجود الإنساني في علاقته بالطبيعة من ثم تكمن المفارقة في استعارة نقود «ما بعد» الحداثة من سياقات السجالات الفكرية التي أنتجتها، وتوظيفها في ثقافات «ما قبل» الحداثة للإبقاء على الأوضاع الراهنة للأخيرة؛ فالذكورة ليست محاصرة ومأزومة في هذا الجزء من العالم إلى الحد الذي تكون لنصيحة مثل «كن وحشا» فتنتها، كما أن فرص المرأة في التعليم والعمل وتفعيل الطاقات الكامنة ليست على ما يرام إلى الحد الذي يُخشى معه على المجتمع من الأفكار النسوية «الهدَّامة». وإذا كانت إحدى السياسات العملية التي قد يراهن خطاب بيترسون على تقويضها تتعلق مثلا بتخصيص «كوتة» [حصة] عبر قرارات سلطوية، للنساء أو لأي مجموعة جندرية أخرى، في مجالات العمل أو مؤسسات التعليم أو الوظائف العليا؛ فإن خطابه حين ينتقل إلينا يمارس فاعليته بتثبيت البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تُبقي على مشاركة النساء في المجال العام مهمة شاقة.

ويظل معنى ضمني في الأمر برمته باعثًا على التفكير؛ فكأن لسان حال المستعيرين لخطاب بيترسون يردّد: «وشهد شاهد من أهلها»، فليس يفل الحديد إلا الحديد، وليس سلاح أمضى لدحض الأفكار التي جاءت من الغرب إلا أفكار أخرى تأتي من الغرب كذلك، وكأننا لم نكتفِ باستهلاك الأفكار الواردة مرة واحدة.

أحمد عبدالحميد عمر مدرس بقسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس، ومدير تحرير دورية فصول التي تصدر عن هيئة الكتاب، له مؤلفات أكاديمية في مجال نظرية الحجاج والتحليل التداولي للنصوص الأدبية.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بین الجنسین فی الغرب

إقرأ أيضاً:

لافروف: الغرب لم يحترم أبدا مبدأ المساواة السيادية بين الدول

روسيا – أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الغرب لم يحترم قط مبدأ ميثاق الأمم المتحدة القائم على المساواة السيادية بين الدول، وأن الإدارة الأمريكية الجديدة تستمر في تجاهل هذا المبدأ.

وقال لافروف خلال كلمة ألقاها في الجمعية العامة للمجلس الروسي للشؤون الدولية: “في أي صراع أو موقف دولي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وبعد إنشاء الأمم المتحدة، لم تلتزم الولايات المتحدة وحلفاؤها أبدا بالمبدأ الأساسي للميثاق الذي ينص على أن الأمم المتحدة تقوم على المساواة في السيادة بين الدول”.

وأشار وزير الخارجية الروسي إلى أنه “إذا نظرنا إلى تاريخ ما بعد الحرب، خاصة في أكثر المواقف حرجاً وصعوبة، سنرى أن الغرب لم يحترم هذا المبدأ أبدا”.

وأضاف: “بعد تولي إدارة دونالد ترامب السلطة، بدا أن وزير الخارجية الجديد ماركو روبيو قد تنصل من النظام العالمي الليبرالي، لكنه أعلن في الوقت نفسه أن إدارة ترامب ستخلق نظاما جديدا من الفوضى مع أولوية مبدأ ‘أمريكا أولا’. الفرق هنا باستثناء المصطلحات ليس كبيرا”.

وأشار لافروف إلى أن هناك شكوكا حول جدوى النظام العالمي القائم على ميثاق الأمم المتحدة، ليس فقط بين السياسيين في الغرب ولكن أيضا بين الخبراء وعلماء السياسة في روسيا.

وقال الوزير الروسي: “لا تحتاج إلى أن تكون خبيرا فائق الذكاء لترى أوجه القصور والخلل في عمل الأمم المتحدة والمؤسسات المرتبطة بها. أعتقد أنكم ستتفقون معي على أن الأسباب الجذرية لهذا لا تكمن في عيوب أو تقادم المبادئ التي تقوم عليها الأمم المتحدة، بل في عدم رغبة أو قدرة بعض الدول، وخاصة الغرب، على اتباع هذه المبادئ في السياسة العملية. هذا مثال واحدا فقط أقدمه لكم”.

يعود الجدل حول احترام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة، وخاصة مبدأ المساواة السيادية بين الدول، إلى عقود من التوترات بين القوى الكبرى والدول الأخرى. وقد تأسست الأمم المتحدة عام 1945 بعد الحرب العالمية الثانية كمنصة لتعزيز السلام والتعاون الدولي بناء على مبادئ واضحة، أبرزها: المساواة في السيادة بين جميع الأعضاء وحظر استخدام القوة في العلاقات الدولية وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية”.

لكن القوى الغربية، وخاصة الولايات المتحدة، تتعامل بانحياز مع هذه المبادئ، حيث تُهمش مصالح الدول الأخرى لصالح أجنداتها الجيوسياسية. ومن أبرز الأمثلة التاريخية: “التدخلات العسكرية الأحادية دون تفويض من مجلس الأمن (مثل غزو العراق 2003) والعقوبات الأحادية التي تفرضها واشنطن وحلفاؤها خارج إطار الأمم المتحدة، والتعامل الانتقائي مع قرارات مجلس الأمن، مثل تجاهل القرارات المتعلقة بفلسطين أو الصحراء الغربية”.

وفي عهد إدارة ترامب تصاعدت هذه الانتقادات بعد تبني سياسة “أمريكا أولا”، التي ركزت على المصالح الوطنية الضيقة على حساب التعددية الدولية. وشمل ذلك: “الانسحاب من اتفاقيات دولية (مثل اتفاقية باريس للمناخ)، وتقويض مؤسسات مثل منظمة الصحة العالمية، والتهديد بتجميد تمويل الأمم المتحدة إذا لم تُلبِ مطالب واشنطن”.

المصدر: RT

مقالات مشابهة

  • لافروف: الغرب لم يحترم أبدا مبدأ المساواة السيادية بين الدول
  • وزير الثقافة: نشر الوعي بمثابة الدرع الوحيد لمجابهة الأفكار السلبية
  • الغرب وكأس الشرق الأوسط المقدسة
  • نهلة الصعيدي: المرأة القوية التي تحسن تربية الأبناء وتقدر على صنع المستحيل
  • تعاون بين الإمارات و"الأمم المتحدة للمرأة" لتعزيز المساواة بين الجنسين
  • “هآرتس”: الحشود التي تعبر نِتساريم حطّمت وهم النصر المطلق‎
  • “هآرتس”: صور الحشود التي تعبر نِتساريم تُحطّم وهم النصر المطلق‎
  • دراسة مفاجئة.. الفرق بين الجنسين في تأثير العزوبية على الرضا والسعادة
  • شاحنات قافلة صندوق تحيا مصر تعبر إلى الأراضي الفلسطينية عبر رفح.. صور
  • الهند.. ولاية تمنع تعدد الزوجات وتساوي بين الجنسين بالميراث