عبد الله علي إبراهيم

(عرضنا أمس لرأي الدكتور سلمان محمد سلمان في حركة القوميين الجنوبيين التي ساقت إلى الانفصال بعد نحو 6 عقود من الاستقلال. ورمى سلمان باللائمة في ذلك على الحكومات الشمالية لأنها نقضت عهدها معهم باعتبار مطلبهم بالفدرالية بشكل جدي بعد إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في ديسمبر 1955. وأهم ما أخذناه على هذا الرأي أن الفدرالية لم تكن مطلب الجنوبيين دائماً أبدا.

فتحولوا عنه مع نشأة الحركة الشعبية إلى وحدة السودان الجديد الذي ليس فيه مشكلة جنوب علاجها بالفدرالية، بل مشكلة سودان بأكمله وعلاجه في المواطنة وتقسيم السلطة والثروة بين مركزه وهوامشه.

أعرض فيما يلي لآراء عن الأصل في مشكلة الجنوب، لو صح التعبير، للمؤرخ الذرب مارتن دالي الذي لا أعرف من جلس مثله إلى وثائق الفترة الاستعمارية في كتابيه المثيرين “امبراطورية على النيل” و “السودان الإمبريالي”. فرد الخصومة بين الشمال والجنوب للاستعمار في خاتمة مباحثة إلى ما هو قريب مما جاء في ميثاق الحركة الشعبية في 1983 الذي تغير بعد تحريره في 2008. ورد الأمر للاستعمار ليس مقصوداً منه نزع اللوم عن الحكومات الشمالية فيما انتهينا إليه من انفصال. ولكن لتوسيع النظر والتعقيد الذي عادة ما كان حال مثل هذه المواقف. وهو تعقيد قد لا يحيط به فكر لائم لا غير مثل ما جاء عند سليمان).

من بين أفضل من نظر لتمرد 1955 وتداعياته التي مر ذكرها المؤرخ الأمريكي لسودان الحكم الثنائي الإنجليزي المصري الدكتور مارتن دالي. فقال في خاتمة كتابه “”السودان الإمبريالي” أن تمرد 1955 لم يكن نزاعاً قبلياً وإن كان في صورته المباشرة مهدداً أمنياً. وكان فوق ذلك، في قوله، نزاعاً عالمياً. واراد بذلك أنه أثر من آثار الاستعمار الذي هو نظام عالمي. فهو ثمرة مرة لنصف قرن من الإهمال السياسي والاجتماعي والاقتصادي للجنوب. وتساءل كيف طرأ للإنجليز تهيئة الجنوب للحاق دستورياً بالشمال في 1947 في الساعة الثالثة والعشرين من لائح الحكم الذاتي في 1954 إلا إذا كانوا لم يفكروا أبداً يوماً أن الجنوب سيستقل حتى لو لم يتحد مع الشمال. وأخذ على الحزب الوطني الاتحادي، الذي تولى تشكيل حكومة الحكم الذاتي بعد فوزه في انتخابات 1954، بأن كانت له، كما كان للإنجليز من قبله، “سياسة جنوب” خاصة به من فرط أخطائه في التعاطي مع الجنوب وهو في الحكم. ولكنه عاد ليقول إن فشل حكومة الاتحادي بالجنوب هو ثمرة من ثمرات سياسة الإنجليز في الجنوب. فالجهل الشمالي بالجنوب كان بفعل فاعل هم الإنجليز أنفسهم الذين أداروه بمقتضى “سياسة الجنوب” التي اتفقت لهم منذ 1922 ك”منطقة مقفولة” عن الشمال حجرت على الشماليين دخوله لأي غرض من الأغراض حتى آخر الاربعينات في سياق الترتيبات التي كانت تجرى للحكم الذاتي.

وقال مارتن أن بوسع المرء أن يستفيض في تلاوة قائمة ضروب الفشل والعوار التي ارتكبها حكام مثل الحزب الاتحادي في الجنوب وفي السودان عامة ممن ورثوا الدولة الاستعمارية. ومع ذلك لم يبدأ هذا العوار بالاستقلال. وذهب كثيرون في الغرب لتفسيره عنصرياً بالقول أن الأوربيين وحدهم من يحسنون حكم الشتات الأفريقي البدائي فإن تقلده غيرهم فسد. وزاد دالي بأن قال أن الحري بالتفكير فيه هو أن الاستعمار ما نجح في ما يزعم النجاح فيه من حكم أفريقيا إلا عن طريق العنف مما حاولته الحكومات الوارثة ولم تحسنه. وسارع للقول إن الإنجليز بالطبع لم يحكموا السودان بالعنف طوال الوقت. فقد كانت لهم صفقات مع قوى محلية أمنت لهم الحكم بغيره، أي بالقبول. ومع قبول طائفة من السودانيين بحكم الإنجليز كأمر واقع ولكن كان كل منها تعرف أن للإنجليز جيشاً في ثكناته احتياطاً متى أطلقوا له العنان عَنُف بلا رحمة. وأضاف دالي إن هذه الشوكة من وراء حجاب القبول امتياز استعماري بحت لا وسع لمن ورثوا الحكم منهم له، ولا قدرة لهم عليه مهما حاولوه. وكأن دالي يفرق هنا بين نظام استعماري السودانيون فيه رعايا ترقوا منه بالاستقلال إلى وضعية المواطنين. وهي قفزة نوعية ترتبت عليها حقوق لهم قد تستهتر بها حكومة مستقلة وتطلق سعار العنف على المعارض ولكن تبقى تلك الحقوق، ويحاسب بها القائم بالأمر لا كما العهد بالإنجليز الذين السوداني عندهم رعية مجردة.

لم تزد الحركة الشعبية في ميثاقها لعام 1983 معنً على تحليل مارتن دالي أعلاه الذي رد مسألة الجنوب، وكل السودان، إلى جذرها في دولة الاستعمار، ولم تنقصه، لولا أنها تخلت عنه في 2008 في ملابسات صراع داخلي ضربها في 1991، ثم اضطرارها لمغادرة أثيوبيا بعد إزاحة نظام منقستو هايلي مريم في 1992، وتهافت النظام الاشتراكي العالمي منذ 1989 وتضاؤل الماركسية كنظرية للتغيير الاجتماعي.

بل وسعت الحركة في ميثاقها القديم الإطار الاستعماري لتحميل الاستعمار الجديد وزر مضاعفة التخلف العام في السودان. وبالطبع لا يعفي تحليل مسألة أزمة الحكم في السودان بالنظر إلى الاستعمار حكومات السودان من ضلال عظيم في معالجة أزمات بناء الوطن المتآخي. ولكنه مما يعين حتى في معرفة ضلالات هذه الحكومات بصورة أدق وأشفى. فكل ما اتسعت الرؤية انفرجت العبارة.

الوسومعبد الله علي إبراهيم

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: عبد الله علي إبراهيم فی السودان

إقرأ أيضاً:

محمد بن زايد يمنح وزيرة النقل الجنوب إفريقية «وسام زايد الثاني من الطبقة الأولى»

أبوظبي - وام
منح صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، باربرا كريسي، وزيرة النقل في جنوب إفريقيا، ووزيرة الغابات ومصايد الأسماك والبيئة السابقة، «وسام زايد الثاني من الطبقة الأولى»، تقديرًا لإسهاماتها البارزة في نجاح مؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة بشأن تغير المناخ «COP28» الذي استضافته دولة الإمارات أواخر العام الماضي.
وقام محش سعيد الهاملي، سفير دولة الإمارات لدى جمهورية جنوب إفريقيا، بتسليم الوسام لباربرا، حيث أعربت عن بالغ شكرها وتقديرها لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، على هذا التكريم، كما أشادت بـ«اتفاق الإمارات التاريخي» الذي تم التوصل إليه في «COP28»، وأصبح إطاراً مرجعياً وأساسياً للعمل المناخي والاستدامة العالمية.
من جانبه هنأ الهاملي، الوزيرة، على هذا الوسام، مشيداً بمشاركة جنوب إفريقيا في مؤتمر «COP28»، ودعمها لاتفاق الإمارات التاريخي، الذي يعزز التعاون والعمل الجماعي، للحفاظ على البشرية وكوكب الأرض.

مقالات مشابهة

  • تخصيص 6 ملايين دولار لدعم اللاجئين بسبب النزاع في السودان بمصر
  • ماكرون يدعو طرفي الصراع في السودان إلى “إلقاء السلاح”
  • الرئيس الفرنسي يدعو إلى إلقاء السلاح ووقف إطلاق النار في السودان
  • ماكرون يدعو طرفي النزاع في السودان إلى إلقاء السلاح
  • ما الذي يحدث؟.. تسريح 35 ألف عامل في ألمانيا
  • اليوم نرفع راية استقلالنا (1)
  • محمد بن زايد يمنح وزيرة النقل الجنوب إفريقية «وسام زايد الثاني من الطبقة الأولى»
  • استدعاء للسفراء وإصدار مذكرات اعتقال.. ما الذي يحدث بين بولندا والمجر؟
  • هجوم جوي على مجمع للأمم المتحدة في السودان يودي بحياة 3 موظفين
  • الثقافة تواصل عروضها الفنية لأبناء سيناء على المسرح الصيفي بالطور