«محفوظ» كتب عن الموت في «الثلاثية» و«خان الخليلي» و«زقاق المدق».. وعاش بعد رحيله كما لم يعش أديب قبله
تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT
لم يكن هناك شىء يشغل بال نجيب محفوظ أكثر من الحياة والموت، الطفل الذي تشبث بالدنيا وجاء إليها بعد ولادة متعثرة، استدعت تدخل طبيب أمراض النساء الشهير ليمنحه الحياة، فتستعير الوالدة اسمه لتمنحه لوليدها عرفانا وامتنانا، شغل نفسه بأهمية الحياة، فراح يكتب عنها بعد أن أصبح أديباً ملء السمع والبصر.
بل وأكثر من ذلك صارع من أجل الحفاظ عليها حين امتدت يد الإرهاب لتصيبه فى مقتل بعد أكثر من ثمانين عاماً على ميلاده، قاوم محفوظ الموت، وعاش بعد حادث الاغتيال ما يزيد على العشر سنوات، وحين رحل بالفعل، عاش كما لم يعش أديب قبله، إذ ظلت أعماله حية ماثلة فى الأذهان، مقروءة ومرئية فى جهات العالم الأربع بكل لغات الدنيا، وكأنه يسخر من الموت والحياة معاً.
عن الموت كتب «نجيب» مستفيضاً كأروع ما يكون، فى رواية خان الخليلى التى صدرت عام 1946 يموت رشدى عاكف بالسل فيتحسر عليه شقيقه أحمد عاكف «ومد بصره نحو الفراش فرأى رشدى راقداً وقد سجته أمه بالغطاء ووالده واقف عن كثب منه دامع العينين منكس الرأس، فاقترب من الفراش وحسر طرف الغطاء فرآه كالنائم لم يتغير منه هيئة ولا لون، وهل ترك المرض للموت شيئاً يغيره؟ وانحنى عليه فلثم جبينه البارد ثم أعاد الغطاء كما كان، واستسلم لبكاء غزير تجمعت أبخرته فى قلبه يوماً بعد يوم، تنفثها الآلام حتى تكاثفت فى برودة الموت فسحت دمعاً فياضاً.. وهكذا غاب عزيز وانتهت حياة! بين انتباهة عين القبر وغمضتها يغيب حبيب إلى الأبد فلا تغنى عنه الدموع ولا الحسرات».
وفى «زقاق المدق» الصادرة عام 1947 يلقى عباس الحلو حتفه على يد بلطجية الملهى الذى تعمل فيه حميدة فيكتب نجيب: «وأعاد المعلم كرشة القصة التى رواها ابنه مرات ومرات على السائلين فتناقلتها الألسن، وزادت عليها ما شاء لها الهوى، وجاء عم كامل القهوة مترنحاً وقد دهمه الخبر فصعقه وارتمى على أريكة وراح يبكى بكاء مراً وينتحب كالأطفال، ولا يكاد يصدق أن الفتى الذى أعد له كفناً لم يعد من الأحياء، ونمى الخبر إلى أم حميدة فغادرت البيت مولولة حتى قال بعض من رآها إنها (تبكى على القاتل لا القتيل)، وكان أشد الناس تأثراً السيد سليم علوان، لا حزناً على الفقيد، ولكن فزعاً من الموت الذى اقتحم عليه الزقاق فأثار مخاوفه وضاعف آلامه».
حديث الصباح والمساء فى روايات نجيب محفوظغير أن «نجيب» مارس كثيراً لعبة اقتران الموت بالحياة، ليس فقط فى روايته الشهيرة «حديث الصباح والمساء»، ولكن أيضاً فى أعمال أدبية أخرى كالثلاثية، ففى جزئها الأول «بين القصرين» الذى صدر عام 1956، تنجب عائشة ابنة السيد أحمد عبدالجواد ابنتها الأولى نعيمة، فى نفس الوقت الذى يستشهد فيه شقيقها فهمى عبدالجواد فى إحدى مظاهرات ثورة 1919 فيصف نجيب موقف الأب المكلوم: «رفع رأسه المثقل بالفكر فلاحت لعينيه المظلمتين مشربيات البيت فتذكر أمينة لأول مرة حتى أوشكت أن تخونه قدماه.. ما عسى أن يقول لها؟ كيف تتلقى الخبر؟ الضعيفة الرقيقة التى تبكى لمصرع عصفور! أتذكر كيف هملت دموعها لمقتل ابن الفولى اللبان؟ ماذا تصنع لمقتل فهمى؟.. مقتل فهمى!.. أهذه هى نهايتك حقاً يا بنى؟.. يا بنى العزيز التعيس!.. أمينة.. ابننا قتل، فهمى قتل.. يا له.. أتأمر بمنع الصوات كما أمرت بمنع الزغاريد من قبل؟ أم تصوّت بنفسك أم تدعو النائحات؟! لعلها تتوسط الآن مجلس القهوة بين ياسين وكمال متسائلة عما أخّر فهمى، سوف يتأخر طويلاً، لن تريه أبداً.. ولا جثته، ولا نعشه، يا للقسوة، سأراه أنا فى القصر أما أنت فلن تريه، لن أسمح بهذا.. قسوة أم رحمة؟ ما الفائدة؟.. وجد نفسه أمام البيت فامتدت يده إلى المطرقة ثم تذكر أن المفتاح فى جيبه فأخرجه وفتح الباب ثم دخل.. ترامى عند ذاك إلى سمعه صوت كمال وهو يغنى بعذوبة: زورونى كل سنة مرة.. حرام الهجر بالمرة».
وفى الجزء الثانى «قصر الشوق» الصادر عام 1957، يموت خليل زوج عائشة وولداها عثمان ومحمد، ويستعد ياسين شقيقها لاستقبال مولوده الأول من زوجته زنوبة العوادة ربيبة العالمة، حين ينادى بائع الصحف على ملحق المقطم معلناً وفاة زعيم الأمة سعد زغلول، فيذهل كمال عبدالجواد شقيق ياسين الأصغر ويكتب نجيب واصفاً حالته: «لو فى غير هذا الظرف الحزين ما درى كيف يتحمل النبأ، ولكن المصائب إذا تلاقت تحدى بعضها بعضاً، هكذا ماتت جدته فى أعقاب مصرع فهمى فلم تجد لها باكياً، إذن مات سعد.. النفى والثورة والحرية والدستور مات صاحبها، كيف لا يحزن وخير ما فى روحه من وحيه وتربيته!».
أما فى «السكرية»، أو الجزء الثالث من الثلاثية، الذى صدر فى عام 1957، فيعلن الطبيب خبر إصابة أمينة، ربة الأسرة، بشلل والتهاب رئوى، قبل أن يضيف أن كل شىء سينتهى فى خلال ثلاثة أيام، ويعلق «كمال» ابنها قائلاً: «كثيرون يرون أن من الحكمة أن نتخذ من الموت ذريعة للتفكير فى الموت، والحق أنه يجب أن نتخذ من الموت ذريعة للتفكير فى الحياة»، وفى حين كان شقيقه «ياسين» يشترى لوازم حفيده الأول من ابنته كريمة «قماطاً وطاقية ومنامة»، عندها «تذكر كمال أن رباط عنقه الأسود الذى استعمله عاماً حداداً على والده قد استُهلك، وأنه يلزمه آخر جديد ليواجه به اليوم الحزين، فقال للرجل حين فرغ من ياسين: رباط عنق أسود من فضلك.. وتناول كل لفافته وغادرا الدكان».
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: نجيب محفوظ أديب نوبل من الموت
إقرأ أيضاً:
دراما وثائقية تكشف أسرارا جديدة في حياة الشيخ رفعت
كيف تم تسجيل تلاوات الشيخ محمد رفعت التي نسمعها منذ عشرات السنين؟ وما حقيقة الرواية المتداولة حول قيام زكريا باشا مهران بتسجيلها من الراديو؟ وهل تسلمت عائلة الشيخ رفعت من أرملة زكريا باشا بعد وفاته كل الاسطوانات التي سجلها؟ أم احتفظت بجزء منها وأخفتها عشرات السنين؟
تعرض قناة سكاي نيوز العربية الليلة 10:30 مساءً بتوقيت القاهرة فيلماً يجيب عن كل هذه التساؤلات، ويكشف أسراراً وكنوزاً تخرج للنور لأول مرة عن أسطورة التلاوة الشيخ محمد رفعت.
الفيلم بعنوان (الوصية)، وهو دراما وثائقية من تأليف وإخراج الإعلامي د. محمد سعيد محفوظ، وجسد فيه الفنان محمد فهيم شخصية الشيخ رفعت في كل مراحله العمرية، إلى جانب مشاركة عدد كبير من الممثلين والشخصيات الحقيقية، منهم زينب مبارك ممثلة الدوبلاج ووالدة الفنانة مريم الخشت، وهي أيضاً من أطراف الجزء المعاصر من القصة، كما قامت بدور زوجة الشيخ رفعت الشاعرة أماني محفوظ.
يتضمن الفيلم الظهور الأخير لعلاء حفيد الشيخ رفعت، الذي غادر الحياة بعد مراجعة واعتماد نسخة الفيلم بأيام، كما يكشف الفيلم أيضاً عن شاهد العيان الوحيد الذي عاصر الشيخ رفعت وزكريا باشا وما زال على قيد الحياة، ويوثق كذلك ردود الأفعال الحقيقية لأسرة الشيخ رفعت حين يعلم أفرادها كل هذه الأسرار، كما يذيع الفيلم وثائق وصوراً تاريخية تخرج للنور لأول مرة.
الفيلم من إنتاج مؤسسة ميدياتوبيا لصالح قناة سكاي نيوز العربية، وتم تصوير مشاهده الدرامية بالقصور التاريخية داخل مدينة الإنتاج الإعلامي، كما يتضمن مقاطع من أغنية تروي قصة الشيخ رفعت، تأليف د. محمد سعيد محفوظ، وتلحين د. محمد حسني.
أزياء الفيلم من تصميم ريم العدل، وقام بتصميم وتنفيذ ماكياج شخصية الشيخ رفعت الفنان عمرو عبد الله، ويذكر أن الفنان محمد فهيم جسد من قبل عدداً من الشخصيات الحقيقية، ونال عنها استحساناً من الجمهور والنقاد، منها سيد قطب في مسلسل (الجماعة) تأليف وحيد حامد، وشارلي شابلن في مسرحية (شارلي)، واسماعيل ياسين ضمن برنامج (صاحبة السعادة).