عربي21:
2025-04-24@15:09:36 GMT

لمَّا جانا الهوى

تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT

نشر الفنان المغربي أمين بودشار مقطعا من حفلته في الدار البيضاء، لأغنية الراحل عبد الحليم حافظ "جانا الهوى"، التي كتبها محمد حمزة، ولحَّنها بليغ حمدي، وبعد فترة وجيزة أصبحت الأغنية الأكثر مشاهدة على قناته، ومحل إعجاب لمشاهديها، فكيف بقيت هذه المقطوعة التي جاوزت نصف قرن؟

تتشابك الإجابة عن السؤال مع الحالة الفنية التي أنتجها جيل عبد الحليم والأجيال السابقة له، وهم يستحقون الذكر وفق ترتيب ظهورهم الفني؛ ففي العشرينيات بزغ نجم عبد الوهاب وأم كلثوم، وفي الثلاثينيات انطلق فريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد، وفي الأربعينيات كان محمد فوزي وشادية وصباح، وفي الخمسينيات برز عبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفايزة أحمد، وعلى مدار المراحل العمرية المختلفة، كان هناك محمد قنديل، وعبد العزيز محمود، وعبد الغني السيد، وسعد عبد الوهاب، وهدى سلطان، وكارم محمود، وسعاد محمد، وعادل مأمون، ومحمد عبد المطلب، وعزيز عثمان، ونَجْمَا الأغنية الشعبية محمد رشدي، ومحمد العزبي، وفي المونولوج إسماعيل ياسين، ومحمود شكوكو، وثريا حلمي، فضلا عن أقرانهم الذين اشتهروا في الشام، وفضلا عن كثير كانوا قبلهم ربما لم ينالوا نفس القدر من خلود الألحان.



بقيت أغاني هذه الأجيال، وقد قارب بعضها على بلوغ قرن من الزمن، لأسباب ذاتية تتعلق بشخوصهم، وأسباب موضوعية تتعلق بالأصوات والكلمات والألحان، فالأشخاص عاشوا في مقتبل حياتهم يعملون في مهن بسيطة، اختلطوا بسببها مع فئات المجتمع الفقير والمتوسط، ومع الشهرة اختلطوا بالفئات العليا، فاستطاعوا ملامسة كل الأذواق. كذلك تجدهم إذا تحدثوا في لقاءات إذاعية ينطقون ببساطة واضحة؛ يعترفون بماضيهم ولا يتنكَّرون له، ولديهم قيم ومُثُل تتقاطع مع مجتمعهم غالبا، ولا يتعالون عليه ويتهمونه بالتخلف أو الرجعية، ولديهم ذوق راقٍ في اختيار ألفاظهم ومفرداتهم التي يتحدثون بها خلال اللقاءت المبثوثة للمشاهدين، معبِّرين عن مكنون أنفسهم أمام الشاشات.

عرفنا من لقاءاتهم أن فريد الأطرش -مثلا- كان ينفق على أسرته ويغني في كباريه (ملهى ليلي) الراقصة بديعة مصابني ويأخذ أجرا يوميا، وسيد مرسي الشاعر الغنائي كان يمتهن كَيَّ الملابس قبل امتهان الشعر، وأم كلثوم كانت تغني في الأمسيات الدينية والموالد، وشكوكو كان نجارا ويغني في الأفراح الشعبية في الثلاثينيات "جدعنة" أي مجاملة دون تقاضي أجر، وكل واحد له قصة تطول أو تقصر مع الفقر والاختلاط بكل الفئات الاجتماعية، فسمعوا قصصهم، وأحبوا بحبهم، وانجرحوا بجراحهم، وفرحوا بأفراحهم، وتأثروا بأحزانهم، فأخرجوا لنا كلمات تُرى بالعين لا مجرد سماعها بالأذن، وقصصا يشعر بها المستمع لأنها كانت قصته يوما ما.

أما الألحان فقد امتزجت بالكلمات تحكي قصتها، لا لتراقصها، يمكنك مثلا أن تسمع أم كلثوم وهي تغني "ظلمنا الحب"، وتقول عن النار التي اشتعلت "وآدت نار"، ولا يمكنك إلا أن تشعر بحرارة لهيبها، وتسمع وهي تقول "وكان الحب بيننا كبير" فيمتد اللحن مع كلمة "كبير" لتلمس حجمه بحواسك لا لتسمعه فقط، ثم تنتقل في لحظة وتقول "صغر، لما ابتدينا نغير"، وتأكل كلمة "صغر" في نصف ثانية لتشعرك كيف تغير الحال من الكبر إلى الصغر، فلا تملك إلا الآهات واجتراع اللحظات المشابهة في حياتك.

انظر إلى نجاة وهي تغني "ساكن قصادي"، تروي قصة مصحوبة بلحن شجي، متأثر بالمحبة ولوعة الحب، وعندما انتقلت الكلمات إلى مشهد الفرح؛ "وفي يوم صحيت على صوت فرح.. إلخ"، تَراقَص اللحن مع الصوت والكلمات. كذلك عبقري زمانه محمد فوزي، عندما غنى ولحَّن أغنيته "مثلا" مع صباح، ترى اللحن مترددا وهو يريد أن يبوح بحبه، وتراه منطلقا عندما يصف حاله، ثم سريعا ينتبه إلى أنه لا يقدر على البوح الكامل، فيعود اللحن في لحظة من أريحية إلى تردد.

هكذا كانت كل أغانيهم؛ تتراقص مع الفرحة، وتشجي مع المحبة، وتقلق عند مدعاته، وتتردد إذا كانت الإجابة غير مضمونة، وتقف بشموخ إذا مسَّ الحبيب الكرامة، وتنكسر مع المحبة المكتومة أو إهانة الحبيب مع بقاء محبته، وتبتهج عند اللِّقَا، وتضطرب عند الظَّعْن. أحوالٌ خبروها وعاشوها، فجسَّدوها في كلماتهم ونقلوا مشاعرهم لنا غناء ولحنا.

من هنا وجدنا المغاربة وقد انطلق لسانهم بمصرية واضحة، دون لكنة غريبة أو عُجمَة في اللسان، كأنهم كورال مصري لا مغربي، يغني أغنية "جانا الهوى" لعبد الحليم حافظ، وشاهدناهم أجيالا متعاقبة؛ ممن غزا الشيب رؤوسَهم، ومن شباب لا يزالون يقتحمون الحياة، حفِظوا، على السواء، اللحن والكلمات من كثرة ما سمعوها، وابتهجوا بقدر ما ابتهج المؤلف والملحن والمغني وهم فَرِحون بمَقْدم مَن يَهوَى كل واحد منهم، فلكل منهم حكاية، كما لكل مستمع حكاية جعلت الكلمات تنطبع في مخيلته.

أثارت هذه الحالة شجون الكثيرين، خاصة المولعين بالاتصال الثقافي والحضاري الواحد لأمة تمتد من المحيط إلى الخليج، كما كشفت أثر القوة الثقافية لأي مجتمع إذا أنتج ما يقرب إلى وجدان البشر، ولا أظن أن المشتركين في الغناء أو غيرهم يحفظون لنفس المطرب ما غنَّاه في تمجيد أحد، رغم أنهم في الأغلب حفظوا عن ظهر قلب أغانيه الوطنية التي تتجاوز الحدود والأشخاص، فالناس تحفظ ما يمثِّلها ويلمس وجدانها.

نقيض هذه الحالة نحياه بحذافيره، فتجد الكلمات إما بذيئة، أو فاحشة، وغالبا تكون ركيكة، والألحان تمتاز بالسماجة وعدم وجود نسق طربي لها، فضلا عن تنافرها الكامل مع الأغاني؛ فمثلا تجدُ أغنيةً عن الخصام تتراقص فيها الألحان كأن الكلمات عن حياة هانئة ستبدأ لا ستنتهي، فضلا عما تسمى بأغاني "المهرجانات" المفتقدة لتناسق اللحن مع الحالة الشعورية لموضوع الأغنية، والمفتقدة إلى الكلمات الجميلة الأخَّاذة، وبالطبع المفتقدة غالبا إلى الصوت الحَسَن.

ربما يظن بعض المغنين والمؤدين أن الآلاف الذين تكتظ بهم حفلاتهم يعني مثل هذا الخلود، لكن المقارنة قد تنجلي إذا طلبت من أحدهم أن يعيد غناء أغنية مضى على زمنها أكثر من عِقديْن، أو عندما تجد تفاوتا في الأجيال التي تحفظ أغانيهم، مثل الذي نجده من التفاوت في أجيال محبي هؤلاء الخالدين بفنِّهم.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفنية عبد الحليم حافظ الغناء الفن عبد الحليم حافظ الغناء ام كلثوم مطربين مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عبد الحلیم

إقرأ أيضاً:

عن الابادات الجماعية التي عايشناها .. لكم أحكيها

قصة قصيرة [ لم أعد حياً .. لكني أتنفس ]

بقلم / عمر الحويج

باغتنا الإنفجار ، جاءنا.. مدوياً ، من فوقنا . جاءنا .. عابراً سماءنا ، تلك التي ظلت .. تظلل صفاءنا ، جاءنا مخترقاً جبالنا ، تلك التي أبداً ، كانت .. أماننا و حِمانا.
حينها .. تحولت قريتنا ، الوادعة ، إلي كتل من اللهب ، والنيران ، والدخان .. تلتها ، لا بل رافقتها ، زخات من المطر الرصاص ، المنهمر علينا ، من كل أنواع الأسلحة ، الخفيف منها ، و الثقيل .. أحاطنا من جميع أركاننا ، من أمامنا ، من خلفنا .. من يميننا ، من يسارنا ، أما من تحتنا ، فقد اهتزت ، بنا الأرض ومادت ، وكأنها زلزلت زلزالا ، رجّتها أصوات الدبابات وحركتها الضاجة ، حين أخذت ، تخبط خبط عشواء ، في أرضنا.. في مساكننا.. في البشر والناس .. و حتى قطعاننا وطيرنا وأنعامنا .

إلا ، أنا .. وجدتني ، مازلت حياً .. أتنفس .. !!

بدأت أتحسس ما حولي ، ببصري .. لا أري ، غير الدخان ، وألسنة النيران واللهب ، كما لا أسمع ، غير ضجيج الدبابات وهديرها ، وهي تجوب المكان هنا وهناك .. مسرعة .

لا أدري ، ما هو فاصل الزمن ، بين بداية الانفجار الأول .. وما تلاه . ولكني وجدت نفسي ، في الحالة الأخيرة ، التي كنت عليها ، حين حملني ، أحفادي الأربعة ، على ظهر ، نقّالتي الخشبية . المتآكلة بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، والتي صنعوها، خصيصاً لحركتي اليومية ، خاصة من قُطّيتي .. سكني إلي حيث شجرتي الظليلة ، و التي تحتويني ، تحت ظلالها ، طيلة نهاري ، وبعض ليلي .
وحتماً .. أن شجرتي الظليلة ، هي التي حمتني .. أو ربما هي بالتأكيد التي أبقتني حياً ، بعد كل ما حدث .. وما يزال . وأنا الحي كميت منذ زمان مضى .. بعيد ، حين أصابني ذلك البلاء ، الذي شل كامل جسدي ، عن الحركة ، وترك لي فقط ، بعض من حواسي : عيناي .. اللتان ظلتا ، تخترقان بعض الضوء .. إلا قليلاً. وسمعي .. دون لساني .. وقلبي الذي يخفق .

وهكذا ، أنا .. وجدتني .. ما زلت حياً .. أتنفس ..!!

إلا أن شجرتي الظليلة ، والتي حمتني .. أو ربما هي بالتأكيد التي أبقتني حياً . لم تستطع أن تحمي الآخرين . فها أنذا ، قد طال انتظاري ، ولم يأتيني أحد ، من أهلي ، حتى الآن ، ليتفقدني .. كما عودوني .
وأنا .. لا زلت ، لا أرى أمامي ، سوى الدخان .. والفضاء ، حالك السواد ، بعيني الغائمتين . فقط يخترق أذني ، ذلك الهدير الآتي ، من هياج الدبابات وما يلحق بها ، من الآليات العسكرية ، التي أعرفها جيداً ، وأكاد أحدد ، أنواعها .. فقط ، من صوت ، تحرك عجلاتها . ففي زمان مضى .. بعيد ، عملت جندياً ، بعد تجوالي ، في العديد من المهن ، السفلى منها والأسفل.. !!. أذكر في ذلك العهد .. البعيد ، كانوا أيضاً يدفعون بنا دفعاً ، لاقتحام القرى والمدن . لنقتل ونحرق ، في تلك الأنحاء البعيدة .. كبعدنا الآن ، عن هؤلاء الذين جاءوا ، لحرقنا وقتلنا .. لماذا ؟؟ ، لست أدري . ما أدريه الآن فقط ، أن كل ما حولي ، أضحى هامداً خامداً .. ومتلاشياً . أين يا ترى ، إختفى نبض قريتي ، الذي كان يحتويني ، رغم عجزي وقلة حيلتي ، بدفئه وحنيته وحنينه ، أين أهلي؟.. أين ناسي؟ أين حتى ، قطعاننا وطيورنا وأنعامنا ؟. فانا لا أسمع لها : خواراً أو صهيلاً ، نهيقاً أو نقيقاً . ولكني الآن أسمع : قد أتتني ، أصوات أقدام ، تتقدم نحوي ، بخطوات منتظمة، وأخرى مهرولة .. بل بدأت ، أسمع أصوات أصحابها ، يتصايحون .. يتجادلون .. يأمر بعضهم ، ويأتمر البعض الآخر .. عرفتهم ، من أصواتهم .. عرفتهم ، من لسانهم .. الذي به ينطقون ، نعم عرفتهم . لقد عذبني ، هذا اللسان كثيراً : أبني الصغير ، أصغر أبنائي .. في ذلك الزمن .. البعيد . يوم عمّت الفوضى ، تلك المدينة الكبيرة .. وحين استعادوها "من المتمردين" يقولون . أخذوا .. يبحثون ، يفتشون ، ينقبون : في الشوارع ، في البيوت ، في الدّواخل وفي النفوس ، في سحنات الناس ، وفي ألوانهم . وفي الطريق العام ، كان إبني يسير .. حين أوقفوه ، عن اسمه .. سألوه . حين سمعوه أخذوه .. ثم قتلوه . في ذات الطريق العام .. قتلوه . أنا عرفت.. فيما بعد .. أنا عرفت . إبني قتله لسانه.. ولم يقتله سلاحه . والآن .. لا أنا ، ولا أهلي وناسي ، نملك سلاحنا ، وإن كنا نملك لساننا ، وهذا ربما مورد هلاكنا ، وكذلك أحفادي . ولكن أين هم الآن . لماذا لم يأتوا ، ليتفقدوني كعادتهم .. أثار تعجبي منهم . وأندهاشي . أنهم في الأيام الأخيرة ، وبغير عادتهم وجدتهم ، يتحلَّقون حولي ، تحت ظل ، شجرتي الظليلة . أسعدوني بوجودهم قربي ، ولكنهم أحزنوني بحواراتهم ، فعن طريقهم ، عرفت الحرب ، التي تدور حولنا ، عرفت بعنفها .. أغلقت مدارسهم "وعرفت حينها سبب تحلقهم حولي" عرفت منهم ، أن الناس هناك ، يهربون من قراهم ، إلى الكهوف ، في جبالهم.
ما أدمى قلبى ، أن إثنان من أكبر أبنائي ، قد التحقا بها "تلك الحرب اللعينة" ما أدمى قلبى أكثر ، أن أحدهم ، يحارب في جانب ، والآخر في الجانب المقابل . وما أدمى قلبى ، أكثر وأكثر ، أن اثنان من أحفادي ، تعاركا أمامي ، كُل منهم .. دفاعاً عن والده . وأنا العاجز أصلاً ، وجدتني عاجزٌ عن الفهم ، وعاجزٌ أكثر ، عن وقف عِراكهما أمامي ، فقط .. ما قدرني عجزي عليه ، أن دمعت عيناي ، كما الآن .. فقد دمعت عيناي ، لهذا الذي مر بخاطري ، حتى غامتا ، ولم تريا ، أصحاب تلك الأقدام ، التي أخذت تحوم حولي ، بل تتقدم نحوي ، أراهم الآن .. ينحني أربعة منهم ، تقبض أياديهم على أركان ، نقالتي الخشبية .. المتآكلة بفعل الزمن ، وثِقل الجسد ، أحسست بعدها ، بارتفاعي المفاجئ عن الأرض ، بعنف لم أعهده في أحفادي ، حين يحملونني برفق ، ليتحركوا بي ، من موقع لآخر . وبعنف أقوى .. مشوا بي ، إلي أين؟.. لست أدري ، فقط مشوا بي ، ثم مشوا . ثم فجأة توقفوا ، ودون انتظار ، دون إنذار ، أطلق أربَعتَّهم ، سراح أيديهم ، من أركان ، نقّالتي الخشبية .. المتآكلة بفعل الزمن ، وثِقَّل الجسد ، وبعنفٍ .. تركوني إرتطم بالأرض ، وقبل أن أفيق قليلاً ، انحنى اثنان منهم ، ومن جانب واحد ، من نقّالتي الخشبية ، دفعا بي إلى أسفل .. ولكن دون نقالتي الخشبية !! . ووجدتني داخل حفرة ، وإن لم تكن عميقة ، لسرعة وصولي .. قاعها ، وحين أفقت .

وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس..!!

وبدأت أتبين ما حولي . أجساد محترقة ، إنهم أهلي .. ناسي . هؤلاء الأربعة .. إنهم أحفادي ، عرفتهم .. بإحساسي عرفتهم ببصيرتي . إثنان منهما ، متلاصقان .. متماسكان ، يحضنان بعضهما ، هل يا ترى كانا يتصافحان ، أم كانا يواصلان عِراكهما .. لست أدري !! . ما أدريه فقط الآن ، أن نظري المتلاشي قد وقع ، على جسد آخر . إنها زوجة حفيدي : صغير السن هو .. صغيرة السن هي ، والآن بكامل زينتها . تزوجها حفيدي ، قبل عام مضى ، أقام لهما والده حفل زواج ، ظل حديث قريتنا زماناً طويلاً ، رقص فيه الشباب .. فتياناً وفتيات ، كما لم يرقصوا من قبل ، إستدعوا فيه ، كل موروثاتهم القديمة والمتنوعة .. رقصاً وغناءً . فقد كانت زوجته من قبيلة مجاورة ، وليسوا من قبيلتنا .. !! .
ولكن .. ما أرى؟؟ .. إنها دماء ، دماء على ساقيها ، دماء على فخذيها .. يا الهي .. لقد أتوها ، حتماً أتوها ،ثم اغتصبوها .. ولكني لا أدري .. إن كان أتوها .. ثم اغتصبوها ، قبل موتها .. أم بعد موتها أتوها .. ثم اغتصبوها . ظللت طيلة سنوات عجزي ، بالنية داخلي .. أصلّي . الآن .. على ضياع صباها أصلّي . وأنا أصلّي .. أتاني من خلفي أنين ، إنه أنين طفلة ، تيقنت منه ، إنه منبعث ، من إبنة حفيدتي .. آخر عهدي بها ، ذاك النهار ، جاءتني .. وتحت ظل شجرتي الظليلة ، علي الأرض ، جلست تحفر ، بأظافرها الرقيقة .. اذكرها ، حين التفتت نحوي ، نادتني : جدي.. جدي.. " أنا جعانة ".. أخذني منها ، صوت آخر ، إنه هدير جرّافة ، أعرفها هذه الجرّافة ، عملت عليها أيام الجندية ، دائماً جاهزة ، هذه الجرّافة.. للحفر والردم .
مالهم هؤلاء الناس !!.. هل سيدفنوننا ، بهكذا عجلة أحياء .. !! .
تذكرت أجدادي .. في ذلك الزمن البعيد ، يحكون لنا .. أن مواراة الميت الثرى عندهم ، تستغرق أياماً بلياليها ، يعدون حفرة الدفن ، بمرقدها .. يتوسدها الميت ، يحيطونه ببعض ، مقتنياته الثمينة . أما هؤلاء .. فما اعجلهم !! .
أسمعها .. الجرّافة ، تتحرك .. تملأ جوفها ، بالرمل والحصى والتراب .. تتقدم نحونا ،
ولا يزال أنين حفيدتي يأتيني من خلفي ، والجرّافة تُفرِغ ما بجوفها ، في حفرتنا .. فيسكت الأنين . أصرخ أنا من داخلي.. يا هؤلاء : هل جئتم تسكتون جوع حفيدتي ، أم جئتم تسكتون أنينها ..؟؟
وعادت الجرّافة مرة اخرى ، بعد أن ملأت جوفها .. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت حمولتها في حفرتنا ، وبعدها .. لم أعد أرى !!.

ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً.. أتنفس ..!!

وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها .. بالرمل والحصى والتراب .. وقبل أن تُفرِغ حمولتها ، صحت بكل قوتي ، ومن داخلي مرة اخرى .. أمهلني يا هذا حتى .. أتشهد !!. ولكنه .. لن يسمعني .. ولا يريد أن يسمعني . بل سمعته أنا .. يردد : " ... وقتلاهم في النار " .
ثم أفرغ حمولته ، في حفرتنا .
وبعدها .. لم أعد أسمع !!.

ولكني .. وجدتني ، لا زلت حياً .. أتنفس ..!!

وعادت الجرّافة ، وملأت جوفها .. بالرمل والحصى والتراب .. وأفرغت ما في جوفها ، في حفرتنا .

وبعدها.. لم أعد حياً !! .
ولكني .. وجدتني ، ما زلت .. أتنفس !! .

***

omeralhiwaig441@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • منة شلبي تفوز بجائزة أفضل ممثلة.. ورسالة مؤثرة بعد التكريم
  • بعد وفاته اليوم.. نجوم الفن ينعون الإعلامي صبحي عطري بهذه الكلمات
  • الاحتلال الإسرائيلي يستهدف مدرسة يافا التي تؤوي نازحين بحي التفاح
  • من هي أبرز الشخصيات التي ستشارك في وداع البابا؟
  • الصين تتوعد الدول التي تسير على خطى أمريكا لعزل بكين
  • ما التحديّات التي تنتظر البابا الجديد؟
  • عن الابادات الجماعية التي عايشناها .. لكم أحكيها
  • ما أبرز الرسوم الجمركية التي فرضتها أميركا عبر التاريخ؟‎
  • السيسي: الكلمات وحدها لا تكفي لإحداث تأثير في المجتمع بل يجب ترجمتها لأفعال إيجابية
  • أسعار البيض تحلّق في أوروبا... من هي الدولة التي تدفع أكثر من غيرها؟