وأنت تتجول في المعرض الفني للمصور الفوتوغرافي البحريني حسين المحروس (نزهة القناص.. تحية لزهران القاسمي) تأخذك الصور لمسارات جديدة محاولا استكشاف ذلك التقاطع بين رؤى المصور ورؤى الكاتب حول الأمكنة والأشياء.

من الواضح أن العمانيين مؤخرا كتابا وأدباء استطاعوا أن يلفتوا الأنظار إليهم ويحققوا بجدارة اعترافات موثقة بإبداعهم.

لا أدل على ذلك من أننا ما زلنا في وقت الاحتفاء بنجاح رواية تغريبة القافر التي فازت بالجائزة العالمية للرواية العربية. تماما هو ممكن.. وتغريبة القافر بالمناسبة تؤسس في الذاكرة الجمعية لقيمة الفلج في ثقافتنا (نحن نحتاج أن نرد عراقته إلينا ما استطعنا).

الحقيقة أن المشتغلين في الفن التشكيلي والتصوير في سلطنة عمان لديهم هذا الوعي بقيمة التناص والتقاطع مع الأعمال الإبداعية الأخرى. وهناك تجارب ناجحة لعدد من المعارض التي أقيمت مستلهمة نصوصا إبداعية أو أعمالا أدبية منشورة، ومن أقرب الأمثلة المعرض الفني الذي أقيم في بيت الزبير مستلهما رواية الباغ لبشرى خلفان. لا نجد مثل هذا التوجه محليا لدى المشتغلين بالأفلام الوثائقية رغم اتساع جماهيريتها نسبيا مقارنة بالفنون البصرية الأخرى وتمتعها بفرص الانتشار والتداول. هي بالتأكيد أكثر تعقيدا وكلفة لحد ما، لكن في المقابل تتمتع بالقدرة على التأثير وسهولة التفاعل معها وتأويلها حتى تلك الأعمال التي تتسم بالشاعرية والرمزية.

حضرت منذ مدة جلسة نقاش في النادي الثقافي حول كتاب آسية البوعلي المعنون بـ(ذكريات من الماضي الجميل) كتاب سيرة عن فاطمة جنجا. أذكر كنت وقتها مأخوذة بالموضوع الإشكالي وألحت علي الفكرة التي لم تنفذ: كم سيكون فيلما وثائقيا هائلا إن نفذ بذكاء!

فاطمة جنجا هي شخصية إشكالية جدا.. ذلك ما أبرزه النقاش. هذه السيرة وأنا أطرحها هنا كمثال لا أكثر تتوفر على كل ما تحتاجه الحبكة القصصية المثيرة، هي شخصية جدلية، مركبة ومختلف حولها. اتسمت حياتها بتحولات متطرفة واتخذت قرارات صادمة. وكانت على مقربة وعلاقة بأحداث سياسية مهمة تاريخيا إذن فهي تتوفر على المكونات الأساسية لعمل واعد يبنى على النص السردي المتاح سواء أضاف إليه، تجاور/ توازى معه أو تعارض فهو في النهاية عملية انتقال من عمل إبداعي إلى آخر للتعاطي مع موضوع في أبعاده الإنسانية والمعرفية يعني الكثيرين. بالتأكيد هي مقاربة ملغمة في كثير من الأحيان، فالموضوعية في التناول ليست أمرا واضح المعالم واختيار شخصية بعينها دون أخرى يفرض معه ربما آراء وتوجهات ما مرتبطة بالشخصية والأحداث التي دارت حولها، وهناك إشكالات السيرة ذاتها في شكلها الأدبي، فهناك الكثير مما يمكن أن يقال وينقد في كثير من الأحيان، وذلك بطبيعة الحال يمكن أن يتكرر مع كل تحول لها. لكن الشاهد هنا، أننا نحتاج لمقاربات تتسم بالجرأة.. لا تخشى الإشكالي وتتسم بالذكاء وتستوعب قيمة تحويل عمل أدبي لفيلم وثائقي. وما يمكن أن تمنحه السير المنشورة من منطلقات للفيلم الوثائقي.

أظن أن أدب السيرة الذاتية والغيرية حديثا فقد زخمه وألقه مقارنة بالمنجز القصصي والروائي المتحقق جدا في سلطنة عمان، صحيح أنه قد صدرت عدة مؤلفات إلا أنها لم تحقق النجاح الذي حققته الفنون الأدبية الأخرى خصوصا الرواية.

ربما بقليل من البحث وإعمال الفكر قد نجد بين السير المنشورة حديثا ما يتوفر على الموضوع الملائم والحبكة الجيدة. من السهل أن تتقاطع الأفلام الوثائقية أو تستند إلى أدب السيرة كونه توثيقيا في ذاته. أما التناص مع عمل أدبي فهو مستوى آخر يختلف عن الاعتماد على مادة منشورة كمصدر أو مرجع.

استلهام عمل إبداعي في عمل آخر يراكم التجربة المقدمة ويحيل إليها تأويلات جديدة ويضفي طبقات أخرى من المتعة والتفسير التي تجذر وتشعب الثيم الأساسية التي تتطرق إليها تلك الأعمال الإبداعية في ذهن المتلقي. يتطلب فهما عميقا من زوايا غير مطروقة تماما للنص الأدبي حتى تتوفر رسالة ممتعة فنيا وذات مغزى في الفيلم.

من الشائع تصور أن الفيلم الوثائقي إنما يتعامل مع الحقائق والأدلة والأرقام والشهادات ويسعى لتبيان المعلومات وإثبات وجهات نظر تتصل بقضايا ملموسة. لكنْ هناك أنماط من الإنتاج الوثائقي المرئي تتخذ خطا مختلفا. فعلى سبيل المثال الوثائقيات الشعرية وفق التصنيف الذي وضعه بيل نيكولاس تقدم رؤية تحتفي بالفلسفي والتجريدي في المواضيع المطروحة فيها. هي تعتمد اعتمادا هائلا على الاشتغال البصري وجماليات الصورة وتنويعات الموسيقى والأصوات الطبيعية. هي تشظي الموضوع وتسرده بطريقة لا تقوم على التسلسل الزمني وإنما على توالي إيقاع المشاعر التي تستحثها في المتلقي والتعاقب المنطقي للأفكار التي تطرحها ضمنا من خلال الصور، حيث لا تحتوي عادة على نصوص مصاحبة إلا كعبارات أو جمل قصيرة ولا يكون لها ذلك الدور التفسيري بقدر ما هو تحفيز للتفكير والتساؤل والتفاعل مع المادة الفنية والموضوع الذي تقدمه. هي قصيدة بصرية إن جاز القول. قد يكون من أشهر الأمثلة التي يمكن استحضارها فيلم بركة وفيلم سامسارا لرون فرايك ومارك ماجدسون. كلا الفيلمين قدم رؤية جمالية وذاتية لحد كبير، هذا إنتاج سينمائي ضخم لكن يمكن تطبيق ذات المنهج الفني في أعمال بميزانية أكثر تواضعا خصوصا مع توفر أدوات وتقنيات التصوير والمونتاج الحديثة.

بالتأكيد كل الأنماط الأخرى لصناعة الأفلام الوثائقية يمكنها أن تمنحنا طريقة للتناص مع الأعمال الأدبية، المهم هي الرؤيا التي نقدمها وهناك ما لا يحصى من الأفكار والأساليب الفنية التي يمكن انتهاجها. من الممكن التماهي في النص كيفما أردنا أن نجزئه، مثلا كأن يتم اختيار فكرة واحدة.. ثيمة واحدة.. أو شخصية واحدة تستدعي فينا تناسخا نراه لها فيما حولنا وتحولات فيما نتصل به وما يمكن تصويره سواء كانت مشاهد أو مقابلات أو شهادات. لكن قد تكون لدى (الأفلام الشعرية) أدوات السرد اللازمة الأقرب في حسها ودوافعها للنتاج الأدبي خصوصا إذا أردنا تناوله بكليته.. كوحدة متصلة من المفاهيم والعواطف. هذا مع الإشارة إلى أن التناص لا يعني بالضرورة التقمص التام لعمل إبداعي بذاته وتبنيه كمادة جاهزة تحكى بأسلوب فني مغاير. التناص بلغة مبسطة جدا بعيدا عن التفصيل الأكاديمي هو أن تجد في هذا المنتج الجديد علاقة ما بمنجز إبداعي آخر قصيدة كان أو لوحة فنية أو رواية أو غيرها. وللعمل الجديد الحق أن يستحضر هذه العلاقة وينسجها كيفما شاء. عليه فقط أن ينتهي بإقناعنا أننا أمام عمل يستحق المتابعة وأنه أخذنا إلى أمكنة وخيالات ومشاعر ومفاهيم أثرت بنا بشكل ما. وأنه قدم لنا تجربة مضافة ولم يكن نقلا مكررا. وهنا ربما تكمن تلك الصعوبة في تبنّي هذا الأسلوب فهو يحتاج إلى حس فني مرهف وتفكير خارج المألوف والمعتاد والقدرة على التقاط المشاهد البصرية الأخاذة المتصلة بالموضوع والعمل على تشكيلها.

الملاحظ أن الروايات العمانية التي وجدت جماهيرية واعترافات من مؤسسات العمل الثقافي تدور برمتها حول مشاهد محلية لديها هالة من الجاذبية (بصريا) دون أي تأثيرات فنية كما هي كمادة خام. لها القدرة على اجتذاب الحنين والمشاعر وإحالتنا ذهنيا لمفاهيم وجودية وحتى لأحداث ومواقف وقضايا، هذا إن تحدثنا عن الأمكنة والأشياء. أما عن الموضوعات المطروحة فيها فالرمزية التي يمكن أن تمثلها فيما يمكن التقاطه بكاميرات الفيديو وحركة الصور وتأثير الإيقاعات والأصوات فإن فضاءاتها مفتوحة لخيال المشتغلين وإبداعهم. بهذا تعطي النصوص حياة جديدة وأبعادا ربما كانت غائبة عن الشكل الأصلي لها وحين تنتقل للآخر في المعارض والمشاركات الثقافية فإنها تنتقل بكلية هذا الزخم وغناه. وتحمل (محلية) الحكاية وهويتها وهي تتوالد مرارا محملة برؤى إنسانية مراكمة. للأفلام هذه القدرة على التعالق في أذهان الناس والتماس مع مشاعرهم والقابلية لاستطراد التأويل ولديها كذلك الإمكانية للبقاء أكثر والانتشار إذا ما استخدمت لاحقا وسائل النشر المتاحة.

لدينا منجز أدبي متحقق محليا وطبعا المساحات المقترحة تتسع للتناول لما يتعدى نتاجنا نحن. أن نقترب من الآخرين إن أردنا ونقدم قراءتنا لهذه النصوص. ربما قليل من الجرأة في التجريب ما نحتاج لنخرج من الصندوق حكايات مخفية ونحكيها ثانية بلغة فنية أخرى.

د. ميّا الحبسية - كاتبة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: یمکن أن

إقرأ أيضاً:

المغرب يدعو إلى توسيع إمكانيات الحصول على الطاقة النووية السلمية

أكد المغرب على ضرورة توسيع إمكانيات الحصول على الطاقة النووية السلمية من خلال التعاون الدولي المناسب الذي يسمح بنقل التكنولوجيا وتقاسم المعرفة النووية للأغراض السلمية، ولا سيما في مجالات متنوعة وحيوية مثل الطاقة والصحة والمياه والزراعة والبيئة.

وجددت المملكة اليوم الثلاثاء بجنيف، في الإعلان الوطني الذي ألقاه السفير الممثل الدائم للمغرب بجنيف، عمر زنيبر، بمناسبة اجتماع اللجنة التحضيرية الثانية للمؤتمر الاستعراضي لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية 2026، تمسكها بالحق غير القابل للتصرف للدول الأطراف في تطوير البحث وإنتاج واستخدام الطاقة والتكنولوجيات النووية للأغراض السلمية، لا سيما من خلال التعاون الدولي تحت مراقبة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.

وعبر المغرب في هذا الصدد عن التزامه الدائم، سواء في إطار ثنائي أو بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بمواصلة تبادل تجربته الرامية إلى تعزيز الاستخدام الآمن للتطبيقات النووية، مذكرا بمساهمته النشطة، بصفته رئيسا للمؤتمر العام الرابع والستين للوكالة، في اعتماد استخدام التطبيقات النووية، وتطوير العلاج الإشعاعي في مكافحة السرطان.

ونبه الوفد المغربي إلى التحدي الكبير الذي يمثله التهديد بارتكاب أعمال إرهابية باستخدام المواد النووية أو المشعة، موضحا أن الاتجار بالمواد الحساسة التي يمكن استخدامها في تصنيع الأجهزة المتفجرة النووية يشكل مصدر قلق كبير على المستوى العالمي. وأكد أن الهدف العام للحرب ضد الإرهاب ينبغي أن يتمثل في منع الجهات الفاعلة من غير الدول من الحصول على هذه الأسلحة النووية والمواد المشعة.

وإذ رحب المغرب بالجهود الرامية إلى منع ومكافحة الإرهاب النووي، فقد أعرب عن قناعته بأن المدخل الأفضل لتجنب مثل هذه الانحرافات يكمن في الإزالة الكاملة للأسلحة النووية، مشددا على أن ترسيخ النهج المتعدد الأطراف والتعاون الدولي يمثلان عناصر أساسية لتوفير استجابات عالمية وفعالة للتهديدات العالمية.

وذكرت المملكة بأن معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية تشكل محور نظام عدم الانتشار ونزع السلاح النووي، وتمثل أداة أساسية للحفاظ على السلم والأمن الدولي، مسجلة أنه منذ دخولها حيز التنفيذ قبل أكثر من نصف قرن، أثبتت المعاهدة أهميتها في مكافحة الانتشار النووي.

في المقابل، نبه المغرب إلى أن فشل المؤتمرات الاستعراضية الأخيرة، والمأزق المستمر في مجال نزع السلاح، وعدم إحراز تقدم ملموس في نزع السلاح النووي وتفاقم تحديات الانتشار، كلها عوامل مثيرة للقلق وتتطلب إجراءات جماعية تظهر حسن النية والمسؤولية والالتزام.

وأكد على الأهمية الحاسمة لامتثال جميع الدول الأطراف لأحكام المعاهدة والالتزامات الناشئة عنها وضرورة تنفيذ الدول الأطراف، بطريقة شفافة ومتوازنة ولا رجعة فيها، للاستنتاجات التي توصل إليها المؤتمران الاستعراضيان لعامي 1995 و 2010، فيما يتعلق بنزع السلاح النووي والوقف النهائي لجميع أشكال تجارب هذه الأسلحة.

وعبرت المملكة عن أسفها لكون الأهداف الرئيسية التي تم تحديدها خلال هذه المؤتمرات الاستعراضية لم تتحقق، محذرة من أن تآكل الثقة في أسس نظام عدم الانتشار يعتبر مصدر قلق للمملكة وللمجتمع الدولي برمته.

كلمات دلالية المغرب طاقة نووي

مقالات مشابهة

  • «الآثار في الأدب العربي المعاصر» في ندوة بمكتبة الإسكندرية
  • استشراف ملامح الأدب والفن الجديدين في غزة
  • بين ظلمة الأسر وسماء الجائزة
  • الإسلاميون العراقيون وثنائية النظرية التقليدية والأداء الارتجالي
  • خبير عسكري: عملية رفح لن تتوقف قريبا والضفة ربما تواجه سيناريو غزة
  • المغرب يدعو إلى توسيع إمكانيات الحصول على الطاقة النووية السلمية
  • ربما يكون بايدن خارج السباق.. لكن حكم الأثرياء مستمر
  • كاتبة تونسية: الشعوب العربية المقهورة تنظر إلى اليمنيين أنهم أنصار فلسطين في زمن الخذلان
  • لمواجهة التهديد الرئيسي الذي يؤرقها.. إسرائيل تستعد بـالشعاع الحديدي
  • معرض المدينة المنورة للكتاب .. هيئة الأدب والنشر والترجمة تستعد لتنظيم النسخة الثالثة