الشغف أولا وأخيرا.. سحر الفيزياء نموذجا
تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT
أمرٌ لا يُصدق! مقاطع تجارب الفيزياء البحتة على منصة التيك توك تحصد ملايين المشاهدات، وتنتشر بشكل فيروسي في جميع مواقع التواصل الاجتماعي، وتحافظ على جاذبيتها على مدى العاميين الماضيين، ها قد صار روتين الصباح يبدأ بتجربة فيزيائية بدلا من مقاطع تمارين اللياقة البدنية، ويستمتع المتابعون بهذه الجرعة العلمية اللذيذة مع وجبات الطعام، من كان يتخيل أن علم الفيزياء الذي ينفر منه الطلبة قد كسر حدود المعادلات والقوانين، والكتب، وأثبت بأنه يحوي الكثير من الإمتاع والتشويق، والأهم من ذلك أنه خرج من «البرج العاجي» للعلوم الأساسية، وصار قريبا جدا من حياة الإنسان اليومية، ولكن كيف حدث ذلك؟
في جميع دول العالم، تسعى المؤسسات المعنية بالتعليم إلى تحبيب الأطفال في العلوم، والأمثلة لا تحصى بشأن مسابقات الرسم التي يُطلب فيها من الصغار تخيل العلماء، والمخترعين، ورسم لوحة عنهم وهو يشتغلون على تجاربهم في مختبرات متطورة، وماذا يرسم الصغار؟ لو نظرنا إلى اللوحات سنجدها جميعها متطابقة ضمنيا وإن اختلفت مهارات الرسم الفردية، هي لن تخرج عن هيئة رجل عابس شعره أشعث، يلبس المعطف الأبيض، ويضع نظارة كبيرة، يقوم بالتجارب التي تطلق الأبخرة البيضاء، والملونة في مختبر مليء بالأدوات، ولكن من يتابع مقاطع البروفيسورة تاتيانا إيروكيموفا أستاذة الفيزياء وعلم الفلك بجامعة تكساس الأمريكية وهي تقدم عروضا مشوقة لتجارب الفيزياء أمام المدرجات، وتقدم لجمهورها أساسيات الفيزياء بطريقة رشيقة، وتفتح ذراعيها احتفاءً بالفيزياء، سيدرك حتما بأن هذه الصورة قد رحلت للأبد، هذه الأكاديمية الروسية الأصل قد صنعت التاريخ بشغفها العميق بعلم الفيزياء، هي انحدرت من عائلة علمية، والداها كانا أساتذة الفيزياء، وكذلك زوجها عالم في الفيزياء، تشربت حب هذا العلم منذ نعومة أظافرها، ونشأت في مدينة نيجني نوفغورود، وهي واحدة من أقوى مراكز الفيزياء في روسيا، جاء تصريحها الأول في مقابلة تلفزيونية بعد انتشار مقاطعها ليؤكد على أن الشغف هو الذي قادها إلى قلوب متابعيها، حيث قالت: «شغفي بالفيزياء موجود في جيناتي الوراثية، ولا أستطيع أن أتخيل حياتي بدون الفيزياء».
وعلى الرغم من أن المحتوى المهيمن على منصات التيك توك، وغيرها من وسائل التواصل الاجتماعي معروف وشائع، مثل الغذاء، والموضة، والفنون، إلا أن البروفيسورة إيروكيموفا قد قلبت هذا الوضع رأسا على عقب، فقد حصدت عروضها لتجارب الفيزياء المجردة ملايين الإعجابات والتعليقات، وارتفعت الاستجابة المجتمعية بعد نشر اثني عشر مقطعا على مدى بضعة أسابيع فقط، وتمكنت صفحة إدارة كلية الفيزياء وعلم الفلك بجامعة تكساس من استقطاب أكثر من 300 ألف متابع في يوم واحد، والأرقام في تتزايد، وإذا تمعننا في التعليقات نجدها تسجل استحسانها بتلك الطاقة التي جلبتها البروفيسورة لهذه التجارب المجردة، ولأسلوبها الحماسي في الشرح وكأن الفيزياء تحرك كل تفاصيل حياتنا، ويُعتبر المقطع الخاص بتجربة خاصية القصور الذاتي على الأجسام الساكنة من أشهر المقاطع التي كانت نقطة التحول الكبرى في استقبال الفيزياء مجتمعيا، في هذا المقطع تضرب البروفيسورة إيروكيموفا بمطرقة على مقبض السكين الذي يخترق حبة البطاطس، ويدفعها إلى أعلى النصل، ولا تسقط بسبب تأثير القصور الذاتي، وجاء تعليق أحد المعجبين قائلا: كيف قضيت 35 عامًا من عمري دون أن أعرف أن الفيزياء علما مسليا!
تعالوا نقترب أكثر من مسيرة البروفيسورة إروكيموفا العلمية والمهنية، هي انتقلت من روسيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية مطلع عام 1999م، عملت بدوام جزئي في ولاية تكساس كمعلمة لدروس الديناميكا الحرارية للغلاف الجوي في معهد تدريبي للدروس التقوية على مستوى طلبة المرحلة الابتدائية، كان ذلك في فصل دراسي صغير يضم (30) طالبا وطالبة، حينها لم يكن لدى البروفيسورة أي خبرة في التدريس، حيث كانت قد عملت خلال مسيرتها المهنية السابقة باحثة في معهد الفيزياء التطبيقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم وذلك منذ تخرجها، ولدهشتها الكبيرة، كانت الدورة ناجحة جدا، ثم تلقت عرضا لمنصب بحثي في كلية الفيزياء، وعلوم الفلك جامعة تكساس، وفي عام 2006 عادت للتدريس في ذات الجامعة، ووجدت نفسها أمام فصل دراسي كبير أمام يضم أكثر من 100 طالب وطالبة لمرر الفيزياء التمهيدية، ولكن كان الأمر بمثابة «كارثة»، بدا الطلبة غير مهتمين، ولم تتمكن من جذب انتباههم، وحينها فقط قررت أن تبحث عن «صوت الفيزياء» الذي يمكنه أن يدخل عقول وقلوب الطلبة والناس، كانت تؤمن بأنها لو أوجدت عوامل الإبهار في تعليم الفيزياء، سيصبح من السهل العثور على الصدى الإيجابي، ولذلك وضعت لمهنتها رسالة «جعل الفيزياء في متناول الجميع»، وبذلك يمكن كسب اهتمام الطلبة، لأن الفيزياء حينها ستكون في عصب حياتنا وأحاديثنا، وبدأت بإجراء تجارب قصيرة وممتعة، مثل سكب النيتروجين السائل في وعاء من الماء المغلي، وإنشاء السحب المتصاعدة، وذكرت مقولتها الشهيرة التي لامست قلوب طلابها: «أعتقد اعتقادا راسخا أنه ليس من الضروري على الجميع التخصص في الفيزياء، أو العلوم، أو الهندسة، ولكن يجب أن نتيح الفرصة للتعرف على التجارب العلمية، واحترام جهود العلماء، ومعرفة مقدار المتعة التي تنطوي عليها هذه العلوم».
تم الاعتراف بنهجها التدريسي كأحد نماذج الابتكار التعليمي، ونالت العديد من الجوائز والأوسمة، وقائمة طويلة من الإشادة، والألقاب التقديرية، والفخرية، مثل إشادة الأستاذية للتميز في التدريس في عام 2017، والزمالة الفخرية من الجمعية الفيزيائية الأمريكية في عام 2019، وجائزة الإنجاز المتميز على مستوى الجامعة في مجال الإرشاد والتوعية من الجمعية الطلاب السابقين في عام 2020، ويعتبرها الطلبة أسطورة علمية، وأن المناهج التي قامت بتدريسها كانت الأفضل طوال سنوات دراستهم، ثم جاءت مبادرتها لتنظيم مهرجان جامعة تكساس السنوي للفيزياء، والهندسة ليستقطب آلاف الزوار من جميع أنحاء الولايات المتحدة، ويزيد معه إقبال المتابعين لها على وسائل التواصل الاجتماعي من كل أنحاء العالم، إذ تمكنت عبر مقاطعها القصيرة أن تكتب اهتمام الناس بالفيزياء وبالعلوم بشكل لم يحدث من قبل في تاريخ الإنسانية، حيث كانت العلوم مقتصرة على المختبرات والمراكز البحثية والتطويرية، إذن ماذا نتعلم من قصة بروفيسورة الفيزياء التي خطفت قلوب البشر بشغفها للفيزياء؟
إن مسيرة البروفيسورة روكيموفا ليست مجرد قصة نجاح مهني، أو مصدر إلهامٍ للآخرين وحسب، وإنما هي عملية إعادة إنتاج العلاقة بين العلوم والمجتمع، وهي سابقة تاريخية في إذابة الحدود بين العلوم ومختلف الفئات المجتمعية، حين يقطع الناس مسافات طويلة لحضور مهرجان الفيزياء والهندسة، كما يحدث دائما مع معارض التسوق، والحفلات الغنائية، والمهرجات الترفيهية، فإن ذلك يعني بأن وعي المجتمع قد دخل مرحلة من إعادة الفهم، والتشكيل، والوعي بدور العلم والعلماء، والأمر مرتهن بمؤشرات أخرى عديدة، إذ كانت نسبة تمثيل الطالبات في تخصصات الفيزياء لا تتعدى الربع في الدفعة الجامعية الواحدة، أما نسب الالتحاق الأخيرة فقد قفزت عاليا، وأظهرت إقبالا واضحا، وصرحت إحدى الطالبات بأنها اختارت هذا التخصص بعد متابعتها لمقاطع سلسلة تجارب البروفيسورة إروكيموفا على منصة التيك توك، والتي تحمل عنوان «سحر الفيزياء»، كذلك ارتفعت المؤشرات الخاصة بمحركات البحث الإلكترونية التي تعكس إقبالا على التعرف على مبادئ الفيزياء، وتاريخ هذا العلم، وأبرز العلماء، والمخترعين، والمبتكرين.
وهنا لا بد من وقفة، يجب أن لا نكتفي بالإعجاب بقصة البروفيسورة تيتانا روكيموفا كأستاذة متفانية ومبتكرة، علينا أن نفكر بعمق في تطوير نماذج علمية ملهمة في التعليم، وفي الممارسات، وفي الفيزياء وغيرها من التخصصات، وبأن نذكر أنفسنا بأن الشغف هو روح الإبداع والابتكار، وأن الأنماط التقليدية للعلوم المجردة قد ولى زمانها، وأن فروع العلوم ليست حكرا على الباحثين والمبتكرين، وليست حبيسة المختبرات، وبأن البرج العاجي للعلوم آيل في السقوط والاندثار، فالعلوم مجالات معرفية متاحة لجميع البشر من أجل الاطلاع، وتنمية الوعي، والاستمتاع، والاحتفاء، فمقاطع سلسلة «سحر الفيزياء» التي انتشرت على نطاق واسع جلبت هذا الاحتفاء إلى كل البشر، وفي مكان في العالم، وكما تقول البروفيسورة دائما: «لا تحتاج إلى أن تكون عالمًا لتحتفي بالعلم، تمامًا كما لا تحتاج إلى أن تكون موسيقيا لحضور حفلٍ أو مهرجان موسيقي».
د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی عام
إقرأ أيضاً:
البيضة أولا أم الدجاجة.. فريق بحثى ينجح أخيرا فى حل لغز حير الجميع
شمسان بوست / متابعات
كشف فريق بحثي من جامعة جنيف، عن السؤال الذى حير الكثيرين لعقود طويلة، حول من الذى قد جاء أولاً الدجاجة أم البيضة، فقد تمكن العلماء أخيراً من حل اللغز، وتوصلت أبحاث سابقة أن البيض ذو القشرة الصلبة لم يتطور على الأرجح حتى قبل 300 مليون سنة، ولازالت الدراسات جارية حول كيفية تطور أشكال الحياة الأولى من الكائنات الحية وحيدة الخلية منذ حوالي 3.7 مليار سنة، إلى أشكال أكثر تعقيدًا.
الدجاجة أولًا أم البيضة.. اعرف حل اللغز
وعثر العلماء على نوع وحيد الخلية تم اكتشافه في عام 2017 في الرواسب البحرية في هاواي، الذى تطور على مدار مليار عام، لينقسم إلى مستعمرات متعددة الخلايا ذات بنية ثلاثية الأبعاد، تبدو مشابهة جدًا للمراحل المبكرة من التطور الجنيني الحيواني.
ويؤكد العلماء، أن هذا يشير إلى أن مثل هذا التطور كان موجودًا قبل ظهور الحيوانات الأولى منذ حوالي 800 مليون عام.
كيف توصل العلماء الى حل هذا اللغز؟.. كشف علمي كلمة السر
وبناء على هذه الاكتشافات، توصل العلماء إلى أن الطبيعة قد خلقت البيضة قبل وقت طويل من ظهور الدجاج الحديث على الساحة منذ حوالي 10000 عام.
كما قالت مارين أوليفيتا، من قسم الكيمياء الحيوية في الجامعة السويسرية، لمجلة نيتشر: أن النوع الذي تم اكتشافه من الخلايا مؤخرًا يسمح لنا بالعودة بالزمن إلى مليار عام”.