رُقادُ الدبّ.. الاستشراق إلى أين؟
تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT
عندما أشرتُ في مقالي السابق إلى مقولة المستشرق الألماني كارل بروكلمان التي تتحدّث بصراحة عن وظيفة الدراسات الخاصّة بالشرق العربي ومقصدها، كنت على وعي بأنّي سأعود اليوم إلى إثارة مسألة تلقّي الفكر العربي للاستشراق، ذلك أنّنا نعيش ظاهرة الذُهان الكبريائي، فالوعي العربي يتّسم بفصام عميق، الآخرُ هو منبعُ العلم، وهو القُدوة والمثال، وهو في الآن ذاته مصدرُ الكُفر وسوء الأخلاق وواقعٌ في مرتبة أدنى منّا! ولذلك لا عجب أن تجد الشيخ يُندّد بأعمال الكفَرة الفجرة من أهل الغرب، وهو واضعٌ آخر ما صدر من الأجهزة الذكيّة في حقيبته الذكيّة أيضا الآتية من بلاد الفُجر، ويملك سيّارة من آخر طراز ديار الجهل.
لا يُمكن للفكر العربيّ أن يتحرّر وأن يصلح اللّه من بؤسه، إلاّ إذا ما تخطّى هذه البارانويا الحضاريّة والفكريّة، ألا يعتقد شقّ كبيرٌ منّا أنّ اللّغة العربيّة هي أفضل اللّغات، وأنّ التاريخ العربيّ هو أنقى التواريخ وأنّ الإنسان العربيّ هو أرقى القوميّات؟ وفي المقابل لماذا تخجل الجامعات العربيّة الكبرى من اعتماد اللّغة العربيّة، بل ويعلن أغلبها أنّ اللّغة الرسمية في الجامعة هي اللغة الإنجليزيّة، بل ونعمل على تلقين أبنائنا لغة الغربي المُستبدّ قبل تعليمه لغة الأجداد؟ فكرٌ قائم على افتخار بالانتماء وتعالٍ بالانتماء -وهو حقّ مشروع ومطلوب- وفي المقابل لا نجد تفعيلا لهذا الشعور ولا نلحظ ترسيخا للافتخار بالماضي، فهل أنّ السُبات الدوغمائي الذي يعيشه الفكر العربيّ ناتج عن ملازمة وضع المراوحة بين الماضي والمستقبل؟ ماذا فعل الفكر العربي للتصالح مع الماضي والانتهاء منه على أرضيّة سليمة؟ إلى متى يظلّ هذا الفكر رهين القراءة الدينيّة التي تهتزّ ثوابتها إن نُقِد صحابيّ أو شُكّك في شعرٍ جاهليّ أو في وجود أديب أو شاعر أو أثيرت مسائل تدعو إلى النظر في قضايا لها أثرٌ في واقعنا؟ ألم يتعرّض طه حسين إلى نقدٍ لاذع واتّهام بالكفر بسبب تشكيكه في الشعر الجاهليّ، فما صلة الفكر الدينيّ بالجاهليّة التي يصفها رجل الدين بالجهل ويدعو إلى القطع معها، وفي الآن ذاته يتمسّك بشِعرها، ويهتزّ شَعره إن نفينا وجوده؟ من هنا يتأتّى الفكر القائم على عدم الوضوح والتباين في المسار. لقد دخل الاستشراق من هذا المنفذ، المُستعمِر الذي يبحث عن تكوين رؤيةٍ عن شعوب ضعيفةٍ، لم تقرأ تراثها ولا تاريخها ولا دينها قراءةَ ختْمٍ، وإنّما هي قراءاتٌ عاطفيّة انفعاليّة في أغلب المضانّ. هل قدّم كارل بروكلمان هو وأشباهه ما يُفيد الفكر العربيّ، هل سدّ ثغرة في شبكة المعرفة العربيّة؟ لقد تناول كارل بروكلمان وهو سَنَدُ الاستشراق الألماني (الذي يُقَدّم عادة على أنّه استشراقٌ أقرب إلى العلميّة لأنّه يتخلّص من المطامع الاستعماريّة في الوطن العربي) قراءة لتاريخ الأدب العربي وقراءة لتاريخ الشعوب الإسلاميّة، وكان فاعلا في بعث مدرسة استشراقيّة تتبع خطاه أو تخرج عنه، فشكّل بذلك ظاهرةً في الاستشراق مؤسّسة، وبغضّ النظر عمّا ذهب إليه إدوارد سعيد وأتباعه من عرب ومستشرقين، فإنّ الفكر الاستشراقي -مهما كانت مقاصده- فتح أبوابا في البحث أتقن العرب إغلاقها، في جملةٍ من التابوهات المُضحكة أحيانا، كالتابو الأدبيّ أو التابو التاريخي.
ولذلك فإنّ عددا من الموضوعات في التاريخ العربيّ العام أو في التاريخ العربيّ الأدبيّ أو في التاريخ العربيّ السياسيّ لا ينبغي أن تُطرَح، ولا أن يُبحث فيها، فوجد -بسببٍ من ذلك- القارئ العربيّ في كتب المستشرقين ما يُمكن أن يغيب عن الطرح في الفكر العربيّ. لقد مثّل كتاب «تاريخ الأدب العربيّ» لكارل بروكلمان مرجعا شاملا ومدوّنة تحتوي فهارس مهمّة لكتب عربيّة مخطوطة، وكان طيلة عقود من الزمن من أهمّ المصادر في أطاريح الجامعات، ولحدّ اليوم ما زالت أقسام اللّغة العربيّة في الجامعات العربيّة تنتقد كارل بروكلمان (الغربيّ الذي أساء لتاريخ الحضارة الإسلاميّة) وتعمل بطريقته في الآن ذاته على ضبط خُططها الدراسيّة التي لا تقبل تغييرها ولا تبديلها، فنحن ما زلنا نُدرّس الأدب العربيّ بطريقة كارل بروكلمان الخاطئة -في ظنّي- والتي تقوم على ربْط تاريخ الأدب العربيّ بالتاريخ السياسي فنقول: الأدب في العصر الجاهلي، والأدب في العصر الأمويّ، والأدب في العصر العبّاسي، والحال أنّ الأدب لا تتغيّر سِماته بين يوم وليلة انقلب فيها الحُكم في تاريخ المسلمين، فكان الأحرى أن نضبط تاريخ الأدب وفق التحوّلات الكُبرى في الأدب في حدّ ذاته.
دور كارل بروكلمان في «تاريخ الأدب» مهمّ تاريخيّا، وقابلٌ للنظر والنقد، ولقد أشاد به المؤرّخ العربي الكبير جواد علي، فقال: «بروكلمان مرجع مهم لكل باحث في تاريخ الحركة الفكرية عند العرب منذ صدر الإسلام إلى أيامنا الحاضرة. ضم وجيزًا مركزًا لسير العلماء والأدباء، وحوى أسماء أكثر المؤلفات المطبوعة والمخطوطة وأسماء مظانها وأماكن وجودها إذا كانت مخطوطة»، وفي مقابل ذلك هل لدينا كتابٌ لعربيّ ضبط فيه تاريخ الأدب بطريقة يُمكن أن تُغنينا عن تواريخ المستشرقين؟ الجواب بكلّ ثقة ويقين: لا. أمّا الكتاب الثاني الذي أثار حفيظة الفكر السلفي العربي ممّا خطّه بروكلمان، فهو «تاريخ الشعوب الإسلاميّة» وهو حقيقة كتابٌ مُشكل، ولكن هل نردّ عليه بطريقة بعض الدكاترة العرب الكبار (يمكن أن نضرب مثلا ما كتبه الدكتور مصطفى رجب حول بروكلمان) الذين قالوا فيه: «كتاب شديد الخطر»، «دسائس بروكلمان»، «المؤلف يدس السم في الدسم»، «من مجازفات بروكلمان القبيحة واستنتاجاته الفاجرة»، «السفه».
فما هي المسائل الخطرة التي هزّ بها بروكلمان عرش الطهارة العلميّة وأثار بها حفيظة العالم الجليل الذي مثّل نموذجا للردود العلميّة العربيّة؟ أوّل هذه القضايا التي بان فيها «فجور» بروكلمان حسب ترتيب عالمنا الجليل أنّه شكّك في المكانة الاجتماعية للهاشميين، وثانيا أنّه شكّك في مكانة المرأة في الإسلام، وثالثها «الفجور في الاستنتاج»، ورابعها سوء النيّة، وخامسها تزوير التاريخ. ففعلا هذه قضايا خطرة ووجب أن تردّ عليها المؤسّسة العربيّة العالمة بانفعال وعبارات عاطفية لا صلة للعلم بها، فلا يجوز طرحُ مسألة المرأة في الإسلام، ولا مناقشة تقديم رؤية للتاريخ تختلف عن اعتقاد السلفيّة الفكريّة! هذا بروكلمان الذي اجتهد وبحث وأقرّ آراء يُعلن أنّها لغاية التوظيف السياسيّ وأنّها تُوضَع على مكاتب الساسة للعمل بها، ولذلك فإنّه يجتهد في بلوغ تصوّر أقرب إلى الواقع. لا شكّ أنّ شقّا مهمّا من هذه البحوث الاستشراقيّة تُوجّه إلى المتخصّصين في السياسة الدوليّة، وأنّ تمويل هذه المشاريع البحثيّة الاستشراقيّة ليس حُبّا في العرب ولا في حضارتهم وإنّما هي دراسة استراتيجيّة ذات توظيف سياسيّ ليفهم الغرب العرب وتاريخهم ويُحسنون التعامل معهم على مستوى رسم العلاقات الدوليّة، وتحديد طبائع الشعوب المدروسة وثقافاتهم وتواريخهم. ومن علاّت تلقّي الفكر الاستشراقيّ أنّ العربيّ يعتقد أنّ الغرب يتقصّده إذ يدرسه، وأنّ الغرب يريد تدمير حضارة العرب، وأنّ العربيّ هو عُقدة الغربيّ، والحال أنّ منزلة العربيّ في الدراسة الغربيّة لا تختلف كثيرا عن منزلة الصيني والهندي والإفريقي، هي شعوبٌ يتوجّه إليها الغربيّ بالدراسة حتّى يُدرك طبائعها، وفقا للعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر.
حتما لقد وقع بروكلمان في عديد الأخطاء المعرفيّة التي دحضها عدد من المستشرقين اللاحقين، ومن ذلك عدم فهمه للحديث النبوي الشريف «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»، فينطلق من شقّه الأوّل لوسم العربيّ بأنّه متعصّب لنصرة أخيه، والحالُ أنّ شقّ الحديث الثاني قد غاب عنه، ذلك أنّ معنى الحديث مختلف تماما عمّا استخلصه بروكلمان، إضافةً إلى بنية أنتربولوجيّة للمجتمعات العربيّة في الجاهليّة صعبةُ الإدراك بالنسبة إلى بروكلمان، منها مفهوم الجوار والاستجارة والقوانين الضابطة لهذه القيمة، ورد في الحديث النبوي الشريف الذي رواه البخاري: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره»، فيقع بروكلمان في ضديد المعنى، في تسطيح واضح لتاريخ الإنسان العربي وتفاعله مع الكون من حوله، يقول: «والبدويّ كائنٌ فرديّ النزعة مفرط الأنانيّة، قبل كلّ شيء. ولا تزال بعض الأحاديث تسمح للعربيّ الداخل في الإسلام أن يقول في دعائه: «اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا»، ومع ذلك فالجميع متساوون، ضمن إطار القبيلة في الحقوق والواجبات التي تنبثق من العصبيّة الدمويّة.
فالبدويّ ملزم أن ينصر أخاه في الملمّات، وليس له أن يتساءل أهو ظالم أم مظلوم»، وكذلك الأمر في الصدور عن أحكام عامّة لا تستند إلى أرضيّة إناسيّة، ومثال ذلك وسْم الحياة الدينيّة عند العرب، والحالُ أنّ كتبا عديدة أبانت ثراء الحياة الدينيّة العربيّة، يقول: «كانت الحياة الدينية عند العرب كحياتهم السياسية في مستوى بدائي إلى أبعد الحدود». آراءٌ خلافيّة عديدة يُمكن مناقشتها، مع رجل درس تاريخ الشعر وتاريخ النثر وتاريخ النحو وتاريخ الفقه، وكان موسوعيّا في دراسته، فلا يُمكن لكارل بروكلمان أو لغيره من المستشرقين أن يُدرك الفارق الدلالي الدقيق لِلّفظ الواحد في استعمالات مختلفة، فسكن الليل وسكن الرجل بيته، المرأة سكن الرجل، والسكينة، والسكون، عبارات متفارقة الدلالة، وقد يقع الغربيّ الدارس للحضارة العربيّة في أخطاء ناتجة عن عدم الفهم أو ناتجة عن قصدية البحث، ولكن كم من دارس عربيّ يقع في أخطاء دون قصد أي دون علم؟ وكم منهم شبيه بعالمنا الجليل الذي يؤمن بطهريّة كلّ تاريخ العرب؟ لقد كنت على يقين دوما في جامعاتنا العربيّة أنّ الذي لا يعمل هو الذي يُرضي أهل العقد والحلّ وأنّ الذي يعمل يخطئ بالضرورة أو يتعرّض عمله للنقد، فهل نسير مع قول الشاعر معروف الرصافي: يا قومُ لا تتكلّموا إنّ الكلام مُحرَّمُ/ ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلاّ النُوَّمُ/ وتأخّروا عن كلّ ما يقضي أن تتقدّموا/ ودعوا التفهُّم جانبا فالخير ألاّ تفهموا/ وتَثبّتوا في جهلكم فالشرّ أن تتعلّموا.
محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأدب العربی الفکر العربی تاریخ العرب ة العربی ة الأدب فی الذی ی ة التی
إقرأ أيضاً: