لو حاولنا أن ننظر إلى المشهد الروائي -القصصي، لا بدّ أن نقع في فئة كبيرة منه، على ما يمكن أن نسميه «أدب نهاية العالم» (أو «أدب القيامة»، أو «أدب ما بعد الكارثة»...)؛ لا يشكل الأمر ظاهرة جديدة، إذ له أصول في أساطير الحضارات القديمة التي تحدثت عن النبوءات والرؤى المستقبلية؛ الكتب السماوية أيضا، مليئة بهذه القصص؛ سفينة نوح والطوفان، مثلا، ليست في العمق، سوى قصة نهاية حضارة فاسدة واستبدالها بعالم جديد.
ثمة سؤال لا بدّ أن يطرح نفسه إزاء هذه الرواية: «لماذا تتكاثر قصص نهاية العالم»؟ وهل ينبغي لنا أن نقرأها باعتبارها نتائج سباق لا مفر منه نحو القاع»؟
***
يحاول الباحث الفرنسي جان بول إنجلبيرت في كتابه «تخييل نهاية العالم»، أن يؤكد العكس، أي أن هذه «القصص المروعة واليائسة»، تُشكل دعوة للتفكير في أشكال بديلة للمجتمع؛ لأنها «تُسقط فكرة الحاضر في المستقبل. فمن خلال تمثيلها لتاريخنا المنتهي، والعمل السياسي المستحيل أو الذي عفا عليه الزمن، نجدها لا تتوقف عن التصرف، بل تخترع شكلا معاصرا من مأساة تضع الإنسانية تحت نظرتها النقدية». وفقا لهذا التشبيه، فهي تمتلك إذًا، شكلا مزدوجا من «التنفيس»: تُبين الكارثة وتُحذر من الطريق الذي يؤدي إليها، وتقوم بمسح واضح للمجتمع الراهن كي «تُثبّت فينا نوعًا من شعور عاطفي وفكري من أجل التفكير بالمستقبل». هي إذًا روايات تتجاوز اللحظة الراهنة والإيمان باستحالة الإنسان في التصرف في المستقبل الذي نشأ عن «انهيار فكرة التقدم وقبل أي شيء آخر، عن اختفاء أي أفق ثوري» في العقدية الأخيرة من القرن العشرين. (هل نشهد في هذه العقدية من عصرنا، أي تغيير في هذا المفهوم الرؤيوي)؟
يرى إنجلبيرت أنه يمكننا التفكير في روايات نهاية العالم انطلاقا من أهم المثقفين المعاصرين، مثل أجامبين، ودولوز وغاتاري، ورانسييه، وجان -لوك نانسي، وغيرهم، وذلك من أجل تسليط الضوء على أهمّ ما قالوه لنا عن مجتمعنا وعن أنفسنا. لذا يبدأ من مفهوم «الأنثروبوسين» (حقبة التأثير البشري)، ليتحدث عن «القَدَرية المُناخية» حيث «يُعيد تسييس المفهوم» مذكرا أن ظهور «الأنثروبوسين»، باعتباره العصر الذي يؤثر فيه البشر بشكل جذري على بيئتهم العالمية، ناتج عن «سلسلة من الهزائم في مواجهة قوى رأس المال»؛ فيُبين أنه «منذ القرن التاسع عشر، تستجيب هذه الرواية للدخول في عصر الأنثروبوسين»، ذاكرا رواية «إيجنيس» إذ يتخيل فيها ديدييه دي تشوسي نهاية العالم على أنها «تأثير الصناعة والتقدم». وهي رواية تستجيب أيضا «للكوارث الحقيقية، ولهذا تتضاعف معها». وهذا ما يتأكد إذا فكرنا في روايات الخيال العلمي في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث أدّى صعود الفاشية والحرب الوشيكة وما تبعها من أيدولوجيات مختلفة، إلى ظهور هذا الأدب بقوة. الأمثلة كثيرة، إذ يتطرق الباحث في كتابه إلى جملة من الأعمال منها: «مالفيل» (روبرت ميرل)، ثلاثية مارجريت أتوود «الرجل الأخير»، «العالم الأخير» (سيلين مينارد)، «الملائكة الصغار» (أنطوان فولودين)، «الطريق» (كورماك مكارثي)، «كوزموبوليس» (دون ديليلو)... مثلما يعرج على بعض الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية («ملنخوليا» «كآبة» للارس فون تراير، «آخر يوم على الأرض» لأبيل فيرارا وغيرهما...) .
يجد الباحث أن رواية «الطريق» رواية «مظلمة ويائسة للغاية»، لكن فكرتها تعبر عن «شعرية الطاقة التي تبدأ برفض أي فكرة عن الخلاص» طاقة مستمدة من العدم يمكن تسميتها طاقة اليأس . إنها «نهاية العالم الجوهرية»، وهذه «المسيانية - فكرة زرادشتية، تبنتها الأديان الإبراهيمية لاحقا، عن قدوم المخلص -الخالية من المحتوى»، التي تجعل التخلص من أغلال العالم الحاضر وافتراضاته المسبقة أمرًا ممكنًا، كي نتخيل عالمًا مختلفًا جذريًا. فلكي يولد المجتمع الجديد، لا بدّ أن تحصل تغيرات في الأولويات. علينا الانفصال «عن عصر الحسابات الذي يجعل قيمة التبادل والربح هي المعيار لكل شيء». وهذا ما تنحو إليه، بشكل عام، قصص ما بعد نهاية العالم. ففي العوالم الجديدة تظهر مجموعات «غير متجانسة ومعقدة» وهشة. ما يجمعها معًا: البناء، الاهتمام بالآخرين، الحبّ الذي هو «الشكل الأول من الفعل «...»، سواء في مقاومة التدمير أو في قوة إعادة البناء؛ فمعارضة الحب لنهاية العالم تأكيد على قوة الرومانسية؛ فبفضله تمكن «سايبورغ» (فيلم لألبرت بيون) من تغيير الحياة «لأنه لن يكون هناك عالم آخر، سوى هذا العالم»...
ما من «ندب» في هذه الروايات. «لا ينبغي على الأدب أن يواسي» الواقع، بل أن يدفعنا إلى مواصلة العيش والعمل حتى لو بدت كل الآمال مفقودة؛ لأن طبيعة الرواية تحتوي على إمكانية التعبير عن مفارقات جوهرية بخلاف أي «برنامج سياسي». لذا يهيئنا هذا الأدب للخسارة، ويسعى إلى منعها ويؤكد الحاجة إلى العمل. ليس هدفه التنبؤ بالمستقبل بدقة، بل تأكيد حقائق غامضة. برغم أنه يبقى «عملا من الخيال، وأوهامًا يمكنها في أفضل الأحوال أن تثير الأفكار والعواطف والرغبات لدى القراء».
لا بدّ، «أن تدمير عالمنا بشكل خيالي، يعني وضع حدّ لنمط وجود، وكسر الارتباط بالتقنية، ومحاولة التفكير في الأمر خارج ما تفرضه الليبرالية المتطرفة قدر الإمكان». إذا كان بوسع المرء أن يصف المدينة الفاضلة بعد نهاية العالم، فهي أقرب إلى الأفق منها إلى الإنجاز. إذ أن هذا الأدب يحاول القول إن «التاريخ لا ينتهي أبدا: السياسة ضرورية دائما». وبدون اقتراح نموذج محدد للعمل، ينضم خياله غالبا إلى خيال أنصار ما يسميه عالم الاجتماع الأمريكي إريك أولين رايت «الاستراتيجيات البينية» للتحول الاجتماعي الناتج، تقريبا، من فوضوية القرن التاسع عشر.
يقترح علينا كتاب انجلبيرت تأملًا واسع المعرفة ومحفزًا للغاية حول الطريقة التي يستخدم بها الخيال، وسائله الخاصة للمشاركة في رسم مستقبل محتمل. لكن السؤال الأهم: أي مستقبل؟
إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: نهایة العالم التی ت
إقرأ أيضاً: