جريدة الرؤية العمانية:
2024-12-18@16:08:17 GMT

لو كنتُ مسؤولًا (13)

تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT

لو كنتُ مسؤولًا (13)

 

دعوها يا بني وطني.. دعوها!

د. خالد بن حمد الغيلاني

Khalid.algailni@gmail.com

@khaledalgailani  

 

منذ قديم الأزل والعرب تدرك أنَّ حرب أبناء العمومة أكثر شراسة، وأشد وقعًا، والشاعر طرفة بن العبد يقول:

وظلم ذوي القربي أشد مضاضة // على المرء من وقع الحسام المهند.

فحرب البسوس استمرت قرابة الأربعين عامًا بسبب ناقة، وحرب داحس والغبراء لم تقل مدتها، رغم أن السبب لا يرقى حتى لمُجرد التشاجر، ولكن هكذا هي نزاعات أبناء العمومة تشتد وتكبر.

وحينما مَنَّ الله تبارك وتعالى علينا- أعني العرب قاطبة- بالإسلام، كان الحرص على أن يكون الرابط بين بني الإسلام رابط الدين والمحبة، وأن تعلو أخوة الدين فوق عصبية الجاهلية.

وعند هجرة الحبيب المصطفى إلى المدينة بترحيب من أوسها وخزرجها؛ الذين دارت بينهم حرب طال أمدها، واستعر لهيبها، وأخذت من الحيّين ما أخذت. جاء الإسلام وأزال العداوة، وتحول البغض إلى أخوة ومحبة، وإيثار وحسن صحبة.

ساء اليهود هذا الود وهذه المحبة، وهم من كان أكثر المستفيدين من حرب بني العمومة. فأشار أحدهم يومًا كما تذكر كتب السير كسيرة ابن هشام والطبري؛ إلى غلام له وهو يرى الألفة بين القوم أن ذكرهم بيوم "بُعاث" وهو يوم مشهود بين القبيلتين قبل الهجرة. ومع وجود الرسول الهادي نبي الرحمة والسلام بين أظهر القوم إلا أنهم تداعوا للقتال، بعد اشتداد التلاسن بينهم، فقال صلى الله عليه وسلم قولته المعروفة؛ "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم". مثل هذه الأحداث لا تُذكر عبثًا، وإنما ليعتبر النَّاس منها، ويعلمون أن العصبيات لا طائل من ورائها إلا الشتات، وفساد الأمر، وسوء المنقلب.

وبعودة إلى تاريخنا العُماني؛ نجد أحداثا عديدة مماثلة تداعى القوم فيها إلى عصبية القبيلة، وسالت إثرها دماء، كان حفظها أولى وأجدى. ولا يخفى على الكثير أن هناك عصبيات أشد فتكًا من عصبيات النسب والقبيلة، وهي الدعوة للطائفية والمذهبية، هذه الدعوات والنعرات التي إن ظهرت في مجتمع أهلكته، وفتت عضده، وشتتت شمله، وأرهبت أهله، ولنا في العديد من الدول عبرة يعتبر بها أولو الألباب، ويراها ذوو البصائر والعقول.

المجتمع العُماني منذ أمد بعيد وعى أولو الأمر فيه وأهله لمثل هذه المخاطر والآفات؛ فتجنبوها وتركوها، لعلمهم بخطرها وشدة أثرها، ولبعد نظرهم، وحضور أفئدتهم بأن ما يجمع بين الناس أكثر مما يفرق، وأن الإسلام دين الأمن والسلام، و أن لا خير ولا صلاح إن ظهرت بؤرة تشد على يد داعٍ لمثل هذه العصبيات المذهبية المقيتة، والنار من مستصغر الشرر.

وجاء نظامنا الأساسي في دولتنا الحديثة المجيدة ليضرب بيد القانون النافذ على مثل هذه الدعوات العصبية المذهبية والتي لا مجال للتساهل مع من يفكر مجرد التفكير في إثارتها من قريب أو بعيد.

إنَّ عُمان الغالية في عصرها الحديث دولة عظيمة، وسلطنة مجيدة، أرسى دعائم الوحدة الوطنية والإخاء فيها المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله تعالى ثراه، الذي أشار إلى نقاء التربة العُمانية، ورفضها لكل عصبيات مقيتة، وحرصه على أن يجرم القانون كل ساعٍ لمثل هذه العصبيات، وأوكل أمر الفتوى في البلاد لعلماء عظام، يدركون أن اختلاف العلماء رحمة، وأن ما يجمع بين الناس أكثر بكثير مما يفرقهم، حتى وصلت مسؤولية الفتوى لعالم فذٍ، مجتهدٍ، صاحب خلق رفيع، وتواضع جم، له في قلوب أبناء عُمان منزلة عظيمة، ومكانة عالية، وهو الذي يفتح قلبه وجوارحه لكل أبناء الوطن على اختلاف المذاهب، فنال محبة العباد، وثقة أهل الحل والقياد.

وتولى أمرنا مولانا السلطان هيثم بن طارق المعظم في مسيرة خير مستمرة، ونهضة متجددة؛ ليؤكد على هذه الثوابت الوطنية، واللحمة العُمانية، لعلمه ويقينه- حفظه الله ورعاه- بضرورة الثبات على الأصول، والمحافظة على وحدة الكلمة والصف، فلا تنمية ولا تقدم ولا رخاء ولا استقرار ولا استثمار ولا تجاوز لأي تحدي اقتصادي واجتماعي دون خلفية مجتمعية متراصة ومتعاونة ثابتة على نسيج وطني متداخل تداخل المحبة والألفة والسلام.

وما يحدث هذه الأيام من إثارة عبر منصات التواصل الاجتماعي، وإشادة من هذا لذاك، أو نقد من ذاك لهذا، وانقسام هؤلاء إلى فسطاطين كلٌ يدّعي أحقيته وواجبه وسلامة نيته فيما يقول، وكلٌ يَضرب على وتر المحبة والوطن، ورغم أنني واثق من وطنية الجميع، لكن واجبات هذه المواطنة تجاه هذا الوطن ترى مجرد الخوض وعبر حديث عابر في أمر المذاهب هو لعب بالنار، وفتح لباب شر لا يسد، وسعي نحو مسار لا تحمد عواقبه، ولا يستهان بنتائجه.

وما استعار النار في عديد من الدول بسبب هذه الفتن الطائفية والمذهبية، نار أكلت رطبهم ويابسهم إلا كانت في بدايتها تراشق من هنا ورد من هناك، والمتربصون كثر، فهذا يؤجج هذا، وذاك يثير ذاك، والبغضاء تنتشر، والعداوة تشتد، فكان ما ترون وتعلمون.

وهنا المسؤول الذي أعنيه وأخاطبه كل عُماني تربّى على السمت العُماني الذي يُضرب به المثل، وتخلق بالأخلاق العُمانية الرفيعة، وأقولها بصوت عالٍ: دعوها يا بَنِي وطني، دعوها فإنها دعوى جاهلية، وإنها نتنة لا خير فيها ولا صلاح منها، والفضاء المستخدم رحب منتشر؛ فالحذر الحذر.

ثم المسؤول الآخر الذي أريده ذلك المعني بحفظ الأمن والنظام، وتحريك الدعوى المجتمعية تجاه كل من يعبث ويثير مثل هذه الأمور ولو كان مازحًا؛ فالإدعاء العام جزء من سلطة قضائية متينة، ودوره في هذا دور من يرعى مصالح المجتمع، ويحفظ الحقوق.

وفي الختام.. لا مساس بوحدة الوطن وأبنائه، ولا إمكان لكائن من كان أن ينفذ من هذه اللحمة الوطنية، أو أن يفت من عزمنا، ووحدة صفنا، وسواءِ كلمتنا، فنحن أبناء عُمان جميعا من أقصاها إلى أقصاها،  ديننا الإسلام من عهد النبي، كرامًا أوفياء من خير العرب، على قلب رجل واحد، خلف سلطان واحد، نعشق وطنًا واحدًا.

وأختم مقالي بأني فخور بسلطان البلاد المعظم، عزيزٌ بأبناء وطني الكرام، نقول جميعًا "يا ربنا احفظ لنا عُمان".

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح

لم يكن خالد نبهان جَدّا عاديا، بل لم يكن أيضا شهيدا عاديا، كان قصة أحزان وأشواق دخلت كل بيت في العالم تقريبا، ورأى الناس كيف رسم بكلماته الجريحة قصة من أروع قصص الفراق الدامي في غزة.

فبعد طول انتظار وترقب التحق خالد نبهان بحفيدته "روح الروح" والتحف البياضَ الذي كان قد وخَطَ رأسه ولحيته، وكساها هيبة ووقارا، ازداد إشعاعها وهو يغادر الدنيا شهيدا مبتسما.

ما كانت الشهادة تخطئ أبا ضياء خالد نبهان، إلا لتصيبه في مقتل من الروح، وشغاف من الفؤاد.

قبل نحو عام من الآن، التحف نبهان الصبر وهو يحتضن حفيدته ريم ويقبل جسدها الصغير، كالوردة متلفِّعة بلون شقائق النعمان، إلا أنها محمرة بالدم القاني، مثل شقائقها اللائي سبقنها من كل بيت، بعد أن كسرت تلك العظام الرخوة والجسد الغض البريء قاذفات اللهب الإسرائيلية.

انتشل خالد نبهان حفيدته الصغيرة ريم من تحت الركام، ولم يكن يصدق أن عمرها البهيج قد أوقفه الجيش الإسرائيلي عند 3 سنوات، وأن ضحكتها التي كانت تملأ البيت سعادة، قد تحولت إلى نشيج دائم، وأن صورها البراقة، قد تحولت إلى أطياف محلقة تؤرق الليل وتهيج الذكرى، وتستدر الدمع النبيل.

يتمسك الجد الوقور، بالجثمان الصغير، يشمه ويقبله، ويضمه إلى صدره، ويتمنى لو انطلقت من ذلك الكفن الوديع ضحكة طفولية، لتقول له إن الأمر مزحة كله.

إعلان

لكن "روح الروح" كانت حقيقة في قربها ومأساتها، وحقيقة أخرى صارخة هي أن المجازر الإسرائيلية في قطاع غزة لم تكن تفرق بين صغير أو كبير بين مدني أو مقاتل، فقد كان التطهير العرقي والإبادة الجماعية والعدوان يستهدف كل ما يرف للحياة من جفن في القطاع المدمر كما يقول الكثيرون.

الشيخ المحتسب الصبور، خالد النبهان، يسلم الروح شهيدا في #غزة، ملتحقا في الأعالي بحفيدته الصغيرة التي دعاها "روح الروح" يوم فقَدها.. اللهم اجمعهما في علِّيين pic.twitter.com/G6s5U1uklz

— محمد المختار الشنقيطي (@mshinqiti) December 16, 2024

ذكرى الميلاد وموعد الرحيل

في ديسمبر/كانون الأول، ولد الجد والحفيدة وفيه رحلا معا في عامين متتاليين، ففي العام الماضي، ودعت الصغيرة قبل نحو شهر من عيد ميلادها الرابع.

وفي حين كانت الصغيرة تنتظر تلك الذكرى العطرة، كان الجد الحنون يعد ما يليق بتلك اللحظة الشذية بالمشاعر والأحاسيس الرقراقة، وكانت المصادفة الأكثر حلاوة في الأمر أن الجد وحفيدته يلتقيان في شهر ميلاد واحد، وكم كان للفرح من أرجوحة في قلب الشيخ النبيل، وكم كان للسعادة من وردة متفتقة، ولحن طفولي عذب في القلب الصغير للوردة ريم الصغيرة المذبوحة برصاص إسرائيلي.

بعد أشهر قليلة ولدت لخالد نبهان حفيدة أخرى أطلق عليها اسم "روجاد" ويعني وقت صلاة الفجر، أي وقت انبلاج النور من رحم الظلام، ووقت انطلاق عصافير الحياة مرفرفة في الكون الذي لم يعد فسيحا، منذ أن أصبحت أزهاره وعصافيره هدفا لقناص إسرائيلي يرسل الموت شراكا قلّ أن ينجو منه جد ولا حفيد.

ورغم عمق المأساة والألم الذي أحدثه رحيل "روح الروح" فقد ظل الجد خالد ذا روح مفعمة بالحب والجمال، كان حاضرا بقوة في الإنقاذ والتثبيت، مالكا لأسلوب رائع في تخفيف المآسي على قلوب الصغار، يملك روحا مشرقة، وخطابا إيمانيا متوثبا، ويعيش عالما من الرضا، يلين راسيات الجبال، ويذيب -لو كان لفراق روح الروح من سلوان- ما يراكمه الحزن اللاهب من جبال ألم، وما يسقي من أودية أشجان.

في الخالدين يا روح الروح
أبو ضياء شهيداً
عوَّضك الله الجنة على صبرك وإيمانك
وجمعك بحفيدتك في جنَّات النعيم pic.twitter.com/UkXg9EMKwg

— أدهم شرقاوي (@adhamsharkawi) December 16, 2024

إعلان غدا نلقى الأحبة

ريم وخالد حفيدا خالد النبهان، روحان من وهج الحياة المحروقة في غزة، وقصتان من بين عشرات الآلاف من القصص الموحدة العناوين المختلفة، في حين تغرز من مخالب الألم في تلك القلوب الرطبة والأجساد الصغيرة، إنها قصة قتل الحياة، وسفك دم الطفولة الرقراق.

لكن خالد كان من بين أفصح الجراح التي تمشي على قدمين، وأبلغ الأصوات التي تتحدث بلسان، كان صوته وصِيته وبسمته وحزنه وأشواقه رسائل تدك العالم كله، تتحطم أمامها أسوار التجاهل، فقد كانت عبارة روح الروح تهز ما بقي من روح في العالم المبَنّج.

ولأن روح خالد كانت قد حلقت في عالم الأشواق، يوم أرخى للحزن زمامه أسفا على روح الروح، فقد كان يحث السير ويترقب الرحيل كل حين، وفي واحدة من آخر تغريداته على حسابه على الإنستغرام، كان الرجل ينظر من سجف الغيب، ويهتف عبر ستائر الأشواق إلى حفيديه، بأنه قادم إليهما قريبا "هل نلتقي؟ فالبُعد مزّق خافقي. هل نلتقي من بعد شوق مُحرق؟ صدقا، توقفت الحياة، وما لها في ليل هجرك أي فجر مشرق". كما تقول كلمات الأنشودة التي كانت مرافقة لصورة نشرها قبل نحو أسبوع على حسابه في إنستغرام.

برحيل خالد نبهان لا ينضاف اسم جديد إلى لائحة طويلة من الشهداء فحسب، بل تكتب قصة ميلاد ملحمة حزن عابر للأيام، وقصة أجيال جمع بينها العدوان الإسرائيلي في كفن منسوج من عبق الكلمات الجريحة والأشواق المطهرة، والرضا والتوكل، والمقاومة التي تأخذ كل لبوس، من قسمات الطفل الرضيع، وهو يتلقى الرصاص قبل أن ينقطع حبله السري، وبسمة الرضيع وهو ينشق عبق المقاومة ويحتسي لبان الجهاد، ومن روح الروح وهو تكتب للحزن آمادا مفعمة بالألم، وترسم قصة جد، ملأ الدنيا حبا وشغل الناس حزنا، ومضى إلى حيث مراقد الصالحين، ومنازل المقاومين، إلى فردوس مديد، وروح وريحان… إلى حيث "روح الروح".

إعلان

مقالات مشابهة

  • ما الذي يجعل الإنسان سعيدا؟
  • دويّ قويّ تسبّب بحالة من الهلع... ما الذي حصل؟
  • الكونغو.. حل لغز المرض الغامض الذي قتل 143 شخصا
  • ما الذي يحدث في المنطقة ؟
  • أمير منطقة تبوك يستقبل المواطن عبداللطيف العطوي الذي تنازل عن قاتل ابنه لوجه الله تعالى
  • مقتل مسؤول عسكري روسي كبير بانفجار في موسكو
  • خالد نبهان.. الشهيد المبتسم الذي سلبه الاحتلال روح الروح
  • ثابتون على مبادئنا: وفد من تجمع العلماء زار سفير ايران
  • الذي سيحدث للتمرد في مدني ليس مجرد هزيمة .. فلم رعب
  • رحم الله الدكتور محمد خير الزبير الذي إرتحل اليوم إلى الدار الباقية