بكري الجاك

في مقالي الذي نشر بالأمس عن فرص الحل السياسي كنت قد أشرت إلى أن هدن وقف إطلاق النار كانت تفشل لأنها كانت تفصل الترتيبات العسكرية من وقف إطلاق نار دائم ووقف العدائيات عن التصورات الجوهرية العامة للحل السياسي، و قبل أن يجف حبر ذلك المقال تقدمت قوات الدعم السريع برؤية للحل السياسي و اقترحت أن تؤخذ في الاعتبار قبل الاتفاق علي وقف عدائيات و وقف اطلاق نار دائم و غيرها من ترتيبات أمنية.

من حيث الشكل الرؤية التي تقدمت بها قوات الدعم تمثل رؤية حركة سياسية لها مطالب و مبادىء أكثر منها جزء من المنظومة الأمنية للدولة ( كما أشار إلى ذلك صديقي محمد فاروق سلمان)، وتراجع قوات الدعم السريع لتبني خطاب الحركة المسلحة (التحررية) بدلا من الحديث جزء من المنظومة الأمنية للدولة كما كان يقال لنا طول هذه السنين هو محاولة لاكساب حربه (أي الدعم السريع) مشروعية أخلاقية تستند إلى خطاب المظلومية و الساعي لقيام عدالة اجتماعية، و المبادئ المطروحة هي ما ظلت تتحدث عنه جل الحركات السياسية التي نشأت في الهوامش والأطراف منذ الاستقلال وبعضها ظل يطالب بتأسيس عادل للدولة السودانية. و عليه هي مبادئ عامة قد يكون حولها إجماع وسط الغالبية من السودانيين المهتمين. الفرق هو أن الدعم السريع يعتقد أنه يمكن أن يخلع جبة السلطة و يرتدي جبة الحركة المسلحة التي توظف قوة السلاح لضمان تحقيق هذه المبادئ تجريعا لا توافقا. والخطورة ليست في فرص تحقيق هذه المبادئ عسكريا لأنها شبه متوافق عليها بين معظم القوى السياسية، وهذا في حد ذاته محالة لخطب ود هذه القوى و مغازلتها، بل في الكيفية التي موضعت بها قوات الدعم السريع نفسها، تموضع يعطي هذه القوات الحق و القوة فى اعادة هندسة الدولة السودانية بطريقة لا تضمن فقط استمرار وضعية القوات المستقلة عن الدولة و لها إمبراطورية مالية و تحت إمرة اسرة او قبيلة بل و تسعى الي ان تقنن إلى ذلك سياسيا و اجتماعيا، و هذا ما أشرت إليه في نفس المقال حيث كتبت:

“بالنسبة لقوات الدعم السريع و آل دقلو فأن الخيار المثالي غير القابل للتحقق هو أن تتمكن قوات الدعم السريع من لعب دور جوهري في اعادة بناء الدولة السودانية و اعادة تشكيل الجيش السوداني بصيغة تمكن أسرة آل دقلو و امتداداتها القبلية من تحولها إلى حالة أشبه بوضعية العائلات الأميرية في دول الخليج أو علي شاكلة أسرة علي بونقو التي ظلت تتسيد المشهد السياسي في الجابون منذ ستينيات القرن الماضي، و هذا يعني احتفاظها بالثروات التي اقتنتها بالسيطرة على جهاز الدولة و بلعب دور المقاول في حرب اليمن و في عملية محاربة الهجرة و بقية عمليات الفساد المنظم بما في ذلك الحصول على نسبة 30% من أصول منظومة الصناعات الدفاعية. و بما أن هذا الخيار يظل ممكنا فقط في حال انتصارها في الحرب و تحقيقها نصرا حاسما يمكنّها ليس فقط إخضاع كل القوات المقاتلة عبر القوة الصلبة بل ايضا امتلاكها لقوة ناعمة تعطيها فرص القبول الاجتماعي و شرعية اجتماعية تتمثل في قبول المحكومين بشرعية الحاكم. هذا الأمر لم يعد ممكنا لصعوبة النصر العسكري الحاسم أو الحصول على القبول الاجتماعي في ظل الفظائع والانتهاكات الممنهجة التي تقوم بها قوات الدعم السريع في الخرطوم وفي دارفور مجددا و تحديدا في ولاية غرب دارفور، عليه الحد الأعلي المثالي القابل للتحقيق MSO و الذي يمكن أن تدعمه حقائق الواقع المادي، يتمثل في احتفاظ قوات الدعم السريع باستثماراتها الاقتصادية و بلعب دور سياسي كبير يمكنها من حماية هذه المصالح مع الإبقاء على مساحة للمناورة حول كيفية ومواقيت الدمج والتسريح لقواتها، ببساطة هذا يعني ترتيب سياسي شبيه بالاتفاق الإطاري و هذا ما سنأتي له لاحقا. أما الناتج الذي يمكن أن تقبل به قوات الدعم السريع أو LAO، حسب تصورنا، هو الاحتفاظ بالامبراطورية الاقتصادية لآل دقلو مع فرص مستقبلية للعب دور سياسي و ترتيبات عسكرية تمنح مساحة للمناورة حول مستقبل قوات الدعم السريع و كيفية استخدامها.”

و ما تسعى له قوات الدعم السريع و آل دقلو هو أبعد مما ذهب إليه حزب الله و زعيمه حسن نصر الله في لبنان الذي ظل يهندس المشهد السياسي بوضع اليد و ليس بسلطة القانون و المؤسسات، وسبيل الدعم السريع لفعل ذلك يأتي في المبدأ الثالث من المبادىء العشر المطروحة، إذ ينص البند الثالث علي ” 3. إن المواطنين في أطراف السودان يملكون سلطات أصيلة لإدارة شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وينبغي أن يتفقوا عبر ممثلي أقاليمهم على السلطات التي تمارسها للقيام بما تعجز عن القيام به أقاليم السودان منفردة. وتتعزز تلك السلطات الأصيلة لدى المجتمعات المحلية، التي تتقاسم معها الحكومة القومية بالعدل السلطات والموارد. وبسبب التعدد والتنوع الباهر في السودان، فإن النظام الفدرالي غير التماثلي (أو غير المتجانس)، الذي تتفاوت فيه طبيعة ونوع السلطات التي تتمتع بها الوحدات المكونة للاتحاد الفيدرالي، هو الأنسب لحكم السودان.”

و كما فصّلت في ذات المقال عن الوضع المثالي الذي ترغب فيه قوات الدعم السريع في الجزء المقتبس من مقالي، و فكرة الفيدرالية غير المتماثلة مقرونة بفكرة تكوين جيش مهني من الجيوش المتعددة و حسب الثقل السكاني للأقاليم حسب ما رد في مبادئ أخري ضمن رؤية الدعم السريع، هي فكرة أشبه بنظام الفيدرالية الديمقراطية التي طبقها مليس زيناوي و جبهة تحرير تقراي عقب استلامهم السلطة في إثيوبيا بعد هزيمة نظام منغستو في عام 1991، و الفكرة هي أن يحتفظ كل إقليم بجيش خاص به، و هي ايضا شبيهة بنموذج ال National Guards اي الحرس الوطني في الولايات الأمريكية، وهي قوات تتبع للجيش لكنها ولائية و لكل ولاية حرس وطني و يستخدم في الكوارث أو في حالة انتشار عارم للفوضى وفشل الأجهزة الأمنية الأخرى في استباب الأمن، الأمر الذي لم يحدث منذ الستينيات أبان عنفوان حركة الحقوق المدنية و في أعقاب اغتيال الزعيم مارتن لوثر كينغ، و تشارك قوات الحرس الوطني في عمليات الجيش الامريكي العسكرية إذا طلب منها ذلك. نتائج نموذج الفيدرالية الديمقراطية التي طبقت في إثيوبيا هي اقتراب الدولة الإثيوبية من التفكك أو ربما الاحتراب إلى أمد طويل فبعد قتل أكثر من مليوني شخص في حرب تقراي، هاهي قومية الامهرا الآن و حركة فانو تقود تمردا و غيرها من الحركات في بني بني شنقول و ولقاييد و في إقليم العفر.

ما يريده آل دقلو هو ترجمة القوة العسكرية والمسلحة على الأرض إلى معادل سياسي موضوعي ينعكس في هندسة مؤسسات الدولة و صناعة دستور دائم يقنن لاستمرار الامبراطورية المالية و جيشها و انتفاعها بمقدرات الدولة، وفي ذلك فأن الرؤية المطروحة تعطي الدعم السريع الحق في استخدام البندقية لهندسة الدولة السودانية الجديدة بواسطة “فيدرالية متدرجة غير متماثلة”، و ربما المقصود من الفيدرالية المتدرجة و غير المتماثلة هي قيام حكم ذاتي ربما في دارفور و جيش مستقل حيث يشارك كل إقليم بنسبة من قواته لتكوين الجيش الفيدرالي من الجيوش المتعددة حسب ما ورد في طرح قوات الدعم السريع و حسب الثقل السكاني، إذ تعامل هذه الرؤية الجيش السوداني كواحد من هذه الجيوش ليس الا و ليس له أي افضلية مؤسسية او مشروعية. و بالطبع قيام جيوش فى كل إقليم على قرار نموذج إثيوبيا، و الي حد ما كفكرة الحرس الوطني في امريكا، وفق التصور المطروح يعطي الدعم السريع وضعية الإمساك بتلابيب الدولة في رأسها و في دارفور و ربما كردفان.

عليه، و هنا تكمن المشكلة الحقيقة حول ما إذا كان هذا التصور مقبول سياسيا لدى عامة السودانيين ناهيك عن الجيش و الاسلاميين الذين يقاتلون في صفوفه و معه، و هل لدي الدعم السريع القدرة السياسية والعسكرية على فرضه دون توسيع دائرة الحرب و تحولها إلى حرب أهلية شاملة؟ أم أن هذا الطرح يمثل الحد الأعلي المثالي MSO الذي يرغب فيه الدعم السريع و يمكن أن يتنازل عنه إلى منطقة أقل تضمن له بعض هذه الامتيازات و ليس كلها كما شرحنا في الاقتباس من المقال السابق في عاليه.

أما مسألة تحييد بندقية الدعم السريع عسكريا لضمان وقف الحرب إذ كان جادا في طموحه السياسي وفق الرؤية التي تسعى إلى إعادة هندسة الدولة بطريقة تعطيه سياسيا أكثر من الشراكة في الحكم التي كانت قائمة قبل اندلاع حرب الخامس عشر من أبريل، فهذا يعني أننا على أبواب حرب طويلة و لا محالة قد تتدخل فيها جهات اقليمية، أو أن الخيار الآخر هو الخضوع إلى إرادة الدعم السريع و إعطائه الحق في ابتلاع الدولة أو على الأقل اعادة هندستها حسب التصورات التي تضمن استمرار وضعية الامتيازات بالانتفاع من جهاز الدولة و منطقة حكم ذاتي يٌقنن لها عبر “الفيدرالية غير المتماثلة” مقابل السلام، و الأعقد و الأهم تتمثل في: من له المشروعية السياسية ليقرر في مثل هذه المساومة اصلا؟

28 أغسطس 2023

الوسومبكري الجاك

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع الدولة السودانیة آل دقلو یمکن أن

إقرأ أيضاً:

في مناطق سيطرتها .. الدعم السريع تُرتب للعمل مع حكومة جديدة تضم «3» أعضاء سابقين بالمجلس السيادي

 

 قال مقاتلو قوات الدعم السريع السودانية إنهم سيعملون مع حكومة جديدة مزمعة للإشراف على الأراضي التي يسيطرون عليها، في أقوى خطوة يتخذونها نحو تقسيم البلاد بعد 20 شهرا من النزاع. حرب أهلية.

التغيير ــ وكالات

ووفقاً لـ “رويترز” قالت قوات الدعم السريع إنها ستتعاون مع حكومة جديدة مقرر تشكيلها للإشراف على مناطق تخضع لسيطرتها، ومن بين الشخصيات التي أكدت مشاركتها ثلاثة من أعضاء المجلس السيادي السابق هم “محمد التعايشي، الهادي إدريس والطاهر حجرا”.

وتقاتل قوات الدعم السريع الجيش الوطني منذ أبريل من العام الماضي وتسيطر الآن على مساحات واسعة من وسط وغرب السودان بما في ذلك معظم العاصمة الخرطوم ومنطقة دارفور، قاعدتها التقليدية.

يذكر أن إدارة جديدة تحكم تلك المنطقة ستمثل تحديا للحكومة الوطنية المعترف بها دوليا والتي يقودها الجيش والتي أجبرت على الخروج من الخرطوم العام الماضي وتعمل الآن على ساحل البحر الأحمر في بورتسودان.

وقال أعضاء في المجموعة لـ “رويترز”  هذا الأسبوع إن مجموعة من الساسة المدنيين وقادة الجماعات المسلحة اتفقوا على تشكيل ما وصفوها بحكومة سلام.

وقالوا إنها ستكون بقيادة مدنية وستكون مستقلة عن قوات الدعم السريع وستشكل لتحل محل الحكومة في بورتسودان التي اتهموها بإطالة أمد الحرب.

وقالت ثلاثة مصادر سياسية سودانية بارزة لـ “رويترز” هذا الأسبوع إن قوات الدعم السريع عملت مع السياسيين لتشكيل الحكومة. وقالت قوات الدعم السريع إنها ليس لها صلات حالية بالحكومة وستعمل مع الإدارة المزمع إنشاؤها لكنها لن تسيطر عليها.

وأضافت في بيان لـ “رويترز” يوم الأحد “نحن في قوات الدعم السريع لن نقوم إلا بالدور العسكري والأمني ​​أما الحكم فستتولىه قوات مدنية بشكل مستقل”.

ولم ترد تفاصيل بشأن الموعد الذي قد تبدأ فيه أي إدارة من هذا القبيل وكيف ستختار ممثليها أو تحكم أو تجمع الأموال. وقال أعضاء المجموعة إن مقرها سيكون في الخرطوم.

ولم ترد الحكومة في بورتسودان والجيش – الذي يسيطر على شمال وشرق البلاد ويستعيد السيطرة على الأرض في الوسط – على الرسائل التي تطلب التعليق. وفي الماضي، قال كلاهما إنهما القوة الوطنية الوحيدة واتهما قوات الدعم السريع ومؤيديها بالسعي إلى تدمير البلاد.

الوسومالتعايشي الدعم السريع الطاهر حجر الهادي إدريس حكومة مدنية

مقالات مشابهة

  • «الدعم السريع» تستعيد السيطرة على قاعدة رئيسية في دارفور
  • ماذا تعني سيطرة الجيش على أكبر قواعد الدعم السريع بدارفور؟
  • قوات الدعم السريع السوداني يسيطر على قاعدة عسكرية شمال دارفور
  • الدعم السريع تستعيد السيطرة على قاعدة في دارفور
  • قوات الدعم السريع تؤكد استعادة منطقة الزرق.. والمشتركة تنفي
  • الفاشر – طويلة .. مواطنون يروون معاناتهم جراء تعرضهم لاعتداءات من قبل قوات الدعم السريع
  • أطباء بلا حدود: قوات الدعم السريع هاجمت مستشفى بالعاصمة السودانية
  • المبعوث الأميركي للسودان: الدعم السريع متورطة في تطهير عرقي وجرائم ضد الإنسانية
  • في مناطق سيطرتها .. الدعم السريع تُرتب للعمل مع حكومة جديدة تضم «3» أعضاء سابقين بالمجلس السيادي
  • قوات الدعم السريع تعتزم التعاون مع حكومة جديدة وتثير مخاوف بتقسيم السودان