نهاية المسيحية في زمن السوق.. الأديان والرأسمالية بعيون إيطالية
تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT
لم يكن بيير باولو بازوليني (1922-1975) يوما شاعرا عاديا في المشهد الأدبي الإيطالي، بل ناقدا ثقافيا ومنّظرا ذا رؤية لا يزال فلاسفة إيطاليا إلى يومنا هذا يحتكمون إلى كتاباته ويعتمدونها مفاتيح لقراءة المعضلات التي يواجهها العالم، لا سيما تلك المرتبطة بالحضارة الرأسمالية.
يخبرنا دييغو فوزارو في إصداره الأخير "نهاية المسيحية.
وشاهد الإيطاليون إعلانا آخر تبرز فيه امرأة ترتدي الجينز ذاته كتب عليه "من يحبّني يتّبعني"، كانت تلك هي شعارات "الجينز يسوع، التي أنزلت المقدس من السماوات وحوّلته إلى سلعة دعائية ذات طابع استهلاكي جنسي"، يقول فوزارو في كتابه.
ولم يكن شاعر إيطاليا الأول آنذاك ليترك مثل هذا الحدث يمر دون قراءة حيثياته وتداعياته المستقبلية على الكنيسة وعلى المجتمع.
قراءة استشرافية نقَلها لنا فوزارو ضمن الفصل المعنون "نبوءة بازوليني"، أعلن فيها بداية نهاية الديانة المسيحية في إيطاليا، بعد أن قررت حضارة الاستهلاك دخول حرب معلنة على الكنيسة، وذلك عكس النظام الفاشي الذي فضل إقامة تحالف معها استفاد منه الطرفان بحسب بازوليني.
فلماذا إذن قررت الحضارة الرأسمالية الجديدة -التي يعدّها بازوليني أشد توتاليتارية من الفاشية- هدم المسيحية؟
"تضطلع الديانات السماوية اليوم لاسيما الإسلام والمسيحية في أوروبا، بدور الحصن الرمزي في جبهة المقاومة ضد تمدد العدمية التكنورأسمالية"، هكذا يفتتح الفيلسوف الإيطالي دييغو فوزارو فصله المعنون بـ"كبح العدم المتمدد.. القوة الحاجبة للدين"، من كتابه الجديد الذي أكد فيه أن خلع مظاهر المقدس عن العالم أصبح سمة ملازمة للحضارة الغربية اليوم، الوحيدة في تاريخ البشرية التي تتفاخر بتخلصها من الدين وقتل الإله.
ولم تعد حضارة الرأسمالية المطلقة، التي تؤسس هيمنتها على العدمية النسبية وقوة التقنية، بحاجة إلى الاعتماد -كما في الماضي- على الدين كأداة للسلطة، مما جعل مصلحتها تدفعه للانقراض.
وإن كان شعار القديس أغسطين في كتابه "الاعترافات" هو "أي غنى لي خارج الله هو الفقر"، فتلك هي تماما "الآية" التي تسعى "الديانة التوحيدية" للسوق إلى قلبها، يقول فوزارو، مؤكدا أن التراث الرمزي والأخلاقي للديانات السماوية كامن في التوحيد المسيحي والإسلامي الحامل لحس المجتمع التضامني المرتبط بالمقدس، عكس ما تبشر به عدمية التبادل التي تسعى حضارة التجارة لتكريسها.
ويقول المؤلف إن "النتيجة من خسوف المقدس وموت الإله تؤدي إلى بطلان معنى الحياة لدى الإنسان الغربي، الذي لم يعد وجوده محميا بأي أفق للمعنى ولم يعد موجها لأي هدف نهائي يتعين عليه تحقيقه. ليصبح المعنى الوحيد من عالم منزوع الآلهة يرتبط بنمو خارج الذات يمثله التقدم التكنولوجي ومؤشرات السوق المالية".
ويواصل فوزارو -وهو أحد أكثر مفكري إيطاليا تأثيرا في الوقت الحالي- أن "الدين والفلسفة من حيث إنهما أداتان للبحث عن الحقيقة من الداخل، لم يعد لهما مكان ضمن حضارة اتخذت شكل سلعة، كل شيء داخل حدودها لا يمكن سوى أن يكون له ثمن".
في السياق ذاته، وفي الفصل المعنون "عالم لا يسكنه إله"، يشدد فوزارو على أن الإسلام هو حاليا الديانة الأكثر تنافرا مع روح الرأسمالية، فعلاوة على أنه لا يزال يحتفظ بمعنى المقدس، فهو يتمتع باستقلال سياسي وروحي على غرار الكنسية في روما.
الأمر الذي سهل لأصحاب الفكر المادي اختلاق عداء بين الديانتين تحت مسمى "حرب الأديان" من أجل تصفية الديانات السماوية على اعتبار أنها ديانات تميل للتعصب.
يواصل فوزارو أننا نعيش في الحقيقة "حربا على الأديان"، لأن عدم التوافق الحقيقي يكمن بين الدياناتين السماويتن (الإسلام والمسيحية) من جهة، وما يطلق عليه فوزارو اسم الديانة الإلحادية للسوق، وبين المسيحية والرأسمالية والتعصب الاقتصادي.
وأما التعصب الديني فقد خصص له فوزارو فصلا مثيرا عنونه "الإرهاب بوصفه صورة عن التقنية وموت الإله"، اعتمد فيه مقاربة خلص من خلالها إلى أن ما يطلق عليه "الإرهاب الإسلاموي" و"الحضارة الغربية السامة" ليسا في الحقيقة سوى وجهين لعملة واحدة يتوجب مواجهتهما بالحزم ذاته، دون أن يغيب عن ذهننا أن الصورة المفهوماتية للإرهاب تتوافق مع مبادئ العدمية الغربية للمجتمع التكنولوجي أكثر من توافقها مع روح الديانة الإسلامية.
الإرهاب والعولمةويشدد فوزارو على أن "الإرهاب الإسلاموي" المعولم ليس عدوا للعولمة الإلحادية، بل رديفا لها وعاكسا للعدمية الرأسمالية وتعصب السوق الحر المنخلع كليا عن أسس الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية الرومانية والإغريقية سواء بسواء.
"فالإرهابي تظهر إلحاديته وعدميته من خلال التوفيق بين فكرة الإله والموت. بهذا المعنى من يتوهم أنه يقتل باسم الله هو أيضا يقتل الله مرادف الأزلية، ويعتنق العدمية مرادف اللاشيء"، بحسب المؤلف.
التوافق الكامل بين العدمية الليبرالية والإرهاب يظهر، بحسب فوزارو، بين التطابق التام بين شعار الإلحاد النيتشوي "موت الإله" مع شعار الإرهاب "الإله موت".
والواقع أن المعنى العدمي الوحيد الذي تمنحه حضارة السلع في زمننا الحالي للإنسان هي ما تمنحه للإرهابي من خلال تمثّله الكامل لجوهرها.
فأن يكون الإرهاب ابن العدمية التقنية أكثر من كونه ابن الإسلام، يواصل فوزارو، يتجلى من خلال تبنيه منهج إعدام الحضارة ورموزها على غرار تحطيم تماثيل بوذا في أفغانستان على النحو الذي تريده ثقافة الإلغاء في الغرب، والتي تطالب بتحطيم كل رموز الحضارة والتقاليد والتماثيل والصور التي لا تتوافق مع رؤى "الووك".
وإذ يشير فوزارو إلى أن "ثقافة الإلغاء" والصوابية السياسية ومعهما "العلمانوية المتطرفة" تنهل من منبع العدمية ذاته الذي ينهل منه الإرهاب، فكلاهما تحركه رغبة في القتل، وإن كان بشكل مخاتل (مخادع)، تماما كما أن الاستعراضية الهوليودية للرعب والإرهاب "الدعائي" على طريقة داعش (تنيظم الدولة الإسلامية) وبن لادن (تنظيم القاعدة)، تجعلنا ندرك أننا أمام خرائط مفهوماتية مشتركة بين الإرهاب الإسلاموي والحضارة العدمية التكنورأسمالية، بحسب المؤلف.
ويخصص فوزارو في كتابه، الذي يقع في 396 صفحة، فصلا عن الإسلام عنونه "الحرب على الدين.. الإسلام والرأسمالية"، أكد فيه أستاذ تاريخ الفلسفة في معهد العلوم الإستراتيجية والسياسية بميلانو أن صمود الإسلام أمام محاولات تفكيكه يعود كما يؤكد (الفيلسوف الإيطالي) أنطونيو غرامشي إلى محاولة ضربه من المجتمع الرأسمالي دفعة واحدة عكس المجتمع المسيحي، الذي مر بمراحل تدريجية للتطبيع مع الحداثة التكنورأسمالية، وحيث إن غرامشي لم يستبعد أن يقع للإسلام ما وقع للمسيحية إن تم اتباع الأسلوب التدريجي نفسه لاستعماره.
ويذهب فوزارو في الفصل ذاته للتأكيد أن "الاحترام الزائف" الذي تظهره بعض الأوساط الغربية للإسلام اليوم ليس سوى أداة لخلع المسيحية أكثر عن الغرب، ولا يعبّر البتة عن تسامح حقيقي مع ديانة فشلت إلى الآن كل عمليات تدجينها بالأساليب التقليدية.
لتظهر هنا تحديدا أهمية الاستقلالية والموضوعية والصرامة المنهجية لمفكرين كدييغو فوزارو لتقديم رؤية واضحة عن الإسلام للقارئ الغربي، وربطها بديناميكيات الاستعمار الجديد بعيدا عن الأجندات الأيديولوجية لدوائر الاستشراق الجديد في أوروبا.
بتعبير آخر، يقول فوزارو، "إن الكتلة الأوليغارشية النيوليبرالية نفسها التي تحارب الإسلام خارج أوروبا من خلال كهنوتها الفكري المكّمل، وتربطه لأسباب أيديولوجية بحتة بالإرهاب، (والحقيقة تعود لتعارضه الجوهري مع حضارة السوق)، هي من يحتفي به (الإسلام) في أوروبا وتدّعي تقبّله لغرض واحد ووحيد هو تسهيل عمليات إزالة المسيحية من الغرب بشكل كلي.
إن الأثرياء الليبراليين ومحتكري الخطاب يتظاهرون بالترحيب بالإسلام في أوروبا، لكنهم يقاتلونه في أماكن أخرى، فقط لتحقيق تحييد أكبر للمسيحية داخل أوروبا، منطقة هيمنتها التاريخية".
وهذا لا يرمي لاستبدال المسيحية بالإسلام، كما ينظر لذلك من أطلق عليهم فوزارو اسم أصحاب "العمق الفارغ" على غرار الصحفية أوريانا فالاتشي، ولكن من أجل ضرب الديانتين ببعضهما.
ويصبح بذلك النظام التكنورأسمالي هو "النظام الرمزي الجديد" الذي من شأن الإنسان الغربي أن يتحرك داخله.
ولهذا السبب، وفقا لتحليل بازوليني، فإن الروح الجديدة للسلطة التي أظهرت في البداية أنها "منافسة للسلطة الدينية" سيكون مقدرا لها "أخذ مكان الدين في تزويد الإنسان برؤية شاملة ووحيدة للحياة"، رؤية مجردة من كل قداسة تنقطع فيها الروح عن كل اتصال مع الأبدية.
يذكر أن دييغو فوزارو أستاذ تاريخ الفلسفة في المعهد العالي للدراسات الإستراتيجية والسياسية بميلانو، هو من مواليد تورينو عام 1983. ويعد من أبرز الأصوات النقدية المستقلة في الفكر الفلسفي المعاصر، وأكثرها جماهيرية في إيطاليا، وهو مختص في الفكر الهيغلي والماركسي، صدر له عشرات الكتب عن كبريات دور النشر الإيطالية، وترجم إلى العديد من اللغات الأوروبية، ويقدم حاليا برنامج "ضد التيار" على محطة "بيوبلو" الفضائية.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ن الإسلام من خلال
إقرأ أيضاً:
الرجل والمرأة في الإسلام.. بين تساؤلات الماضي والحاضر
تُقرع في الآونة الأخيرة أجراس خطر حقيقي في ميدان الأسرة، الذي تعدُّ أهمّ مؤسسة في البنية الاجتماعية التركية، وأقواها تقليديًا. وليست المسألة ضربا من المبالغة، فنحن نُستهدَف ونتلقى ضربة موجعة في أقوى ركائزنا التي تميّزنا عن غيرنا من المجتمعات.
فارتفاع معدلات الطلاق، وكذلك سنّ الزواج، وتحطيم أرقام قياسية في عدد الأفراد الذين يعيشون بمفردهم، وأخيرا الانخفاض الحاد في معدلات الخصوبة وما يستتبعه من شيخوخة ديموغرافية، كلها مؤشرات تُنذر بأن مسار التحوّلات الاجتماعية في تركيا لا يسير في اتجاه إيجابي.
وفي سبيل تسليط الضوء على هذا المسار، وتعزيز الوعي العام بشأن بنية الأسرة، والتفكير الجادّ في اتخاذ تدابير وقائية، أعلنت رئاسة الجمهورية، بناءً على مقترح من وزارة الأسرة، عام 2025 عامًا للأسرة. غير أن الاعتقاد بأن الحوافز المادية لتشجيع الإنجاب كافية وحدها لمواجهة هذه الأزمة يُعد تسطيحا مفرطا للمشكلة. فالتغيير الحاصل نتاج لتحوّل سوسيولوجي أعمق بكثير.
ولا شك أن لهذا التحول علاقة وثيقة بارتفاع مستوى الرفاه المعيشي. وخلافًا للاعتقاد السائد، فإن التحديات الاقتصادية لا تؤدي إلى تراجع في معدلات الخصوبة، بل العكس، فإن الشرائح التي شهدت زيادة أكبر في مستوى الرفاهية هي التي انخفضت فيها الخصوبة. أما من يُرجعون قلة الإنجاب لدى الأثرياء إلى "الوعي" فهم ينظرون إلى الحياة من منظور مادي ضيق وسطحي للغاية. وفي المقابل، فإن ارتفاع مستوى الرفاه يُحدث تحوّلًا في العقلية والتفكير، وهذا أمر صحيح. فمع اتباع نهج أكثر أنانية ودنيوية والرغبة في الراحة، بات يُنظر إلى الطفل على أنه مجرد شيء من ملذات الحياة، ولا يُعتبر مفضلًا على غيره من الملذات أخرى.
لا يقتصر الأمر على قضايا الهوية الجنسية فحسب، بل يشمل علاقتنا العامة بالنصوص والتعاليم الدينية
وإلى جانب ارتفاع مستويات الرفاه، فإن ارتفاع معدل الالتحاق بالجامعات، وتأخر الدخول إلى سوق العمل، والأهم من ذلك كله، الابتعاد المتزايد عن الأدوار التقليدية للرجل والمرأة، كلها عوامل تلعب دورًا مؤثرًا في تشكيل ثقافة جديدة تجاه الأسرة والإنجاب. وهنا ينبغي التوقف مليًّا عند هذا التحول الأخير على وجه الخصوص. وقد خصصت مجلة تذكرة في عددها الأخير ملفًا لرصد ردود فعل الأوساط المسلمة تجاه تغيّر هذه الأدوار. وربما كرد على من يطرحون هذه القضايا تحت عنوان "النسوية الإسلامية"، فضّلت المجلة أن تجمع الملف تحت عنوان: "المسلمون والمسلمات.. بين تساؤلات الماضي والحاضر". فالتغيير لا يقتصر على المرأة وحدها، بل يشهد الرجل أيضًا تغييرًا كبيرًا في تحديد موقعه في دوره الجنسي، وبالطبع، تبعًا للتحوّلات التي طرأت على المرأة.
وفي العدد الذي تولّت سعادة بايزيد تحريره، اختير عنوان يسلّط الضوء على القضايا الموروثة من التاريخ، والأسئلة الجديدة التي تطرحها هذه القضايا في العالم المعاصر، كما يعكس في الوقت ذاته مساعي العصر الحديث إلى إعادة تعريف مفاهيم الجنس والدين والثقافة. فالعالم المعاصر يمرّ بمرحلة يعاد فيها النظر جذريًا في أدوار الهوية والجنس، وهي عملية لا تزعزع القيم والتقاليد الراسخة وحسب، بل تخضع رموزنا الدينية والثقافية لقراءة جديدة.
وقد ساهم في هذا الملف عدد من الكتّاب البارزين بمقالات قيّمة. على سبيل المثال، تتناول بيرسان بانو أوكوتان في دراستها التحوّل الاقتصادي والثقافي للطبقة الوسطى المحافظة الجديدة، مقدّمة تحليلًا لافتًا لهويات الرجال المتدينين من خلال ممارساتهم الاستهلاكية. أما مصطفى شفيق، فيعالج النقاشات المستمرة حول طبيعة الجنس من خلال مقاربة تدمج بين الحتمية البيولوجية والبناء الاجتماعي.
وتتناول هاجر أياز الكيفية التي تشكّلت بها هويات الرجال المسلمين في العالم الحديث تحت تأثير القيم الأبوية والدينية والعولمة. وفي مقالة أخرى، تحلل غونول يونار شيشمان أصول التمييز القائم على النوع الاجتماعي من خلال الروايات الأسطورية، حيث تُخضع مفهومي الأنوثة والذكورة لمساءلة تاريخية، متوقفة عند سردية خلق باندورا في الأساطير اليونانية، وحكاية الطرد من الجنة في الكتاب المقدس، منتقدة المعاني السلبية التي أُلصقت بالمرأة في هاتين الروايتين.
وتدرس زهرة إيشيق تصورات الجماعتين الدينيتين "إسماعيل آغا" و"الجراحي" في إسطنبول تجاه المرأة والرجل والتحولات التي طرأت على هذه التصورات. أما حسين يلماز، فيتطرق إلى النقاشات المعاصرة حول الهوية الجنسية من منظور التقاليد والأعراف المجتمعية، محللًا تأثيرات التحولات الاجتماعية التي تؤدي إلى تآكل المعنى. وتقدّم الفيلسوفة الألمانية بيرجيت روميلسباخر مقالة بعنوان: "النسوية والهيمنة الثقافية.. مناقشات حول تحرر النساء المسلمات"، تتناول فيها مسألة تحرر المرأة المسلمة من منظور الحركات النسوية، منتقدة سعي النسوية الغربية فرض معاييرها على النساء المسلمات باسم التحرر، ومسلطةً الضوء على التناقضات الأيديولوجية النسوية لهذا النهج.
وفي أطول وأشمل مقالات الملف، يتناول نجدت سوباشي مفهومي "الذكورة" و"الأنوثة" في السياق الإسلامي، محللًا تطورهما ضمن الأطر التاريخية واللاهوتية والحداثية، ومسلطًا الضوء على تحوّلات المرجعيات الدينية التقليدية في العالم المعاصر. ويشير سوباشي إلى أن أدوار المرأة والرجل في القرآن والسنة تقوم على مبدأ التكامل، إلا أنها عبر المسار التاريخي تحوّلت تدريجيًا إلى بنية أبوية.
ويولي سوباشي اهتمامًا خاصًا بمفهوم "النسوية الإسلامية"، متناولًا الحركات التي تطالب بإعادة تأويل النصوص الدينية في سياق نضال المرأة من أجل التحرر. ويناقش في مقالته التوترات المستمرة بين المفاهيم التقليدية والحديثة، ويقدم إطارا نقديا حول كيفية إعادة تناول رسالة المساواة الدينية في السياقات الحديثة. ويؤكد على أن هذا التحوّل المفاهيمي لا يؤثر فقط في سعي الأفراد المسلمين نحو تشكيل هويتهم، بل يمتلك أيضًا القدرة على التأثير في مستقبل البنى الاجتماعية نفسها. ويرى أن قضايا الهوية الجنسية في العالم الإسلامي انتقلت من مقاربة تقليدية قائمة على مفهومي "الحكمة" و"التسليم"، إلى ساحة حوار حديثة تطغى فيها أسئلة من قبيل "لماذا؟" و"كيف؟".
في الواقع، لا يقتصر الأمر على قضايا الهوية الجنسية فحسب، بل يشمل علاقتنا العامة بالنصوص والتعاليم الدينية، إذ لم نعد نتلقّى النص بوصفه خطابًا يحتوي على أمر أو موعظة أو حكمة، وإنما بتوجه استهلاكي علماني تغلب عليه الأسئلة المُجرّدة والوظيفية من قبيل "لماذا؟" و"كيف؟". ومن هذا المنطلق، أعتقد أن مساهمة سوباشي يمكن أن تشكل نموذجًا صالحًا لقراءات أوسع للنصوص الدينية.
ويضم الملف أيضًا حوارًا خاصًا مع نظيفة شيشمان، حيث تدور المقابلة حول قضايا الهوية الجنسية من خلال مفاهيم الفطرة، و"أحسن تقويم"، والتقسيم الحديث للعمل الاجتماعي. كما أجرت فاطمة نايت، المحررة الرقمية لمجلة "رينوفاتيو"، مقابلة مع الأستاذة بجامعة برمنغهام هيفاء جواد، ناقشت فيها التناقضات الجوهرية التي تعاني منها النسوية الإسلامية. وفي جانب من الملف، تسهم غونجا ديدم أوغلو بتقديم عرضٍ لكتاب.
إن العدد التسعين من مجلة "تذكرة" التي يرأس تحريرها يونس باديم، لا يقتصر على عرضه ملفا عن النسوية الإسلامية، بل نجح في تقديم عمل متميز يواجه التساؤلات القديمة والجديدة حول الرجال والنساء المسلمين.
المصدر: يني شفق