90 عاماً على "رحيل" كفافيس شاعر الفضاء الشرقي
تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT
قسطنطين كفافيس (1863 - 1933) الشاعر الأكثر شهرة في اليونان المعاصرة، لم يهتم كثيراً بأثينا قلب الحضارة اليونانية، ولا بفلاسفتها ولا بشعرائها بمن في ذلك هوميروس، بل اهتم بالفضاء الشرقي لتلك الحضارة والذي يمتد إلى البحر الأسود، وإلى آسيا الصغرى، وإلى الضفاف الجنوبية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط.
كان كفافيس يرفض النظر إلى بيزنطة من زاوية واحدة، زاوية انهيار الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ممجداً الدور الحضاري للقسطنطينية، ومستحضراً من لمعوا في تاريخها سواء كانوا من النخبة العالمة والمثقفة، أم من الشخصيات السياسية، وفي قصيدة له، يفتخر أهالي الإسكندرية وأنطاكية ومصر وسوريا بانتسابهم للفضاء الهيلليني الذي اتسع شرقاً ليصل إلى بلاد فارس.
ولم يهتم أثناء مسيرته الشعرية بالأحداث العالمية الكبيرة، فلا نجد في أشعاره أية إشارة إلى حروب البلقان التي اندلعت سنة 1912، ولا الحرب الكونية الأولى، ولا إلى الفواجع التي عرفتها آسيا الصغرى والتي دفعت أعداداً كبيرة من اليونانيين إلى مغادرة تركيا بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، وقيام الجمهورية التركية، لكأنه عاش كل تلك الأحداث وهو خارج الفضاء والزمن معاً، إذ أن ما كان يشغله حقاً هو العالم الهيلليني، والبيزنطي القديم، أما الحاضر فلا ينظر إليه إلا من خلال أحاسيسه ورغباته وأحلامه ومشاغله اليومية، أو من خلال ما يلتقطه من تلك المشاهد الصغيرة التي لا يعبأ الناس بها.. وهذا ما تعكسه قصيدته "رجل عجوز" التي فيها يقول: "رجل عجوز يجلس في القاعة الخلفية للمقهى الصاخب مُنحنياً على الطاولة وأمامه جريدة، رفيقته الوحيدة/ من أعماق شيخوخته الحزينة، والمنفّرة يفكر أنه تمتع قليلاً بالسنوات التي كان فيها شاباً قوياً/ وكان جميلاً وبليغاً في الكلام/ وهو يعلم أنه شاخ كثيراً/ وهو يحس بذلك ويراه".
الفضاء الشرقييحضر الفضاء الشرقي للحضارة اليونانية في الكثير من قصائد، كفافيس، ومنها قصيدة "ملوك إسكندرانيون" كما يأخذنا كفافيس إلى قبر النحوي الشهير ليسياس في بيروت، ويكتب: "قريباً من هنا، على يمين المدخل، في مكتبة بيروت، دفنّا العالم النحوي ليسياس، المكان مختار جيداً: وضعناه بالقرب من حواشيه وتعليقاته ونصوصه ودفاتره المليئة بالتفاسير وبالأشكال اللغوية العامية التي قد لا يزال يتذكرها حيث هو، وهكذا سيُنظر إلى قبره ويُكرم عند المرور إلى رفوف الكتب".
توفي والد كفافيس وهو من أصول بيزنطية، وكان حضور الأم الأرملة طاغياً، فهي التي ترى ابنها أخيل يذبح وهو في زهرة الشباب، وهي ألكسندرا الملتاعة والمفجوعة بعد أن قتل ابنها أريستوبولوس غدراً، وكأنها تلك الأم الحزينة التي فقدت ابنها البحار في عاصفة هوجاء: حيث يقول "الأمواج أغرقت بحاراً في الأعماق، والأم التي تحلم بذلك تشعل شمعة أمام صورة مريم العذراء، مبتهلة لله أن يعود ابنها سالماً، وأن يكون الطقس جميلاً، متوجسة تمد سمعها للريح، إلا أن الأيقونة الحزينة الوقورة تنصت إلى صلاتها عالمة أن الابنَ الذي تنتظره لن يعود".
وكان كفافيس عند عودته للتاريخ يستمتع بفضح أكاذيب التاريخ، ورسم صورة دقيقة ومكثفة لانهيار الإمبراطوريات، وتسرب العفن والفساد والشيخوخة إلى الشعوب والمجتمعات في مرحلة ما من تاريخها، خصوصاً حين تقترب من الذوبان والفناء فاقدة حضارتها وترفها وأخلاقها الرفيعة لتغرق في الهمجية والفوضى، ومن كل هذا ابتكر كفافيس أساليب جمالية فريدة من نوعها، لا نعثر على ما يماثلها لدى شعراء عصره، وكان الفن بالنسبة له، نظاماً ثقافياً وأخلاقياً، وسعياً لا ينقطع بهدف النفاذ إلى خفايا الذاكرة الفردية والجماعية سواء عبر المشاعر والأحاسيس، أو عبر الأخلاق، أو عبر الدين، أو عبر الفلسفة.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني
إقرأ أيضاً: