حين كنت في المرحلة الثانوية، ذهبت أنا وأحد الأصدقاء إلى مدرس الرياضيات بمعضلة هندسية من بنات أفكارنا الشيطانية، كان الرسم مفبركا والمعطيات اعتباطية والمطلوب مستحيلا، وبعد شرود دام أكثر من دقيقتين، وعدنا المعلم أن يأتينا بحل لهذه الأحجية في اليوم التالي. وفي اليوم التالي، غاب المعلم كما توقعنا، وحين عاد بعد يومين لم تكن الورقة معه، أذكر أنه تعلل بأنه قد نسيها فوق إحدى الطاولات وأنه لم يجدها حين عاد للبحث عنها، وأذكر أيضا أنه لم يطل الحديث معنا حتى لا نفاجئه بنسخة منها.
يرتفع ستار «الباب» فنرى رجلا حاد الملامح يرتدي زي الحرب. تدخل أمه لتسأله عن سبب استيقاظه على غير عادته في ذلك الوقت المبكر، فيطلعها على نواياه المخيفة، حيث قرر أن يتحدى إلهه وإله آبائه الأولين، وأن يذهب بنفسه لمنازلته والقضاء عليه. ويخبرنا كنفاني أن هذا الرجل العنيد هو حفيد عاد، وأنه قد أمر أتباعه ببناء جنة في إرم بها غرف من فوقها غرف معبدة بالزبرجد والياقوت، الجوهر حصاها والماء الزلال يجري من تحتها تحديا للإله، حتى يثبت له أن جنة دنياه (دنيا شديد) خير من جنة آخرته (جنة هبا)، ورغم ذلك، نراه يعترف في لحظة صدق، أنه حين اطلع على جنته من عل، لم يجد فيها ما يستحق عناء الخضوع وذل الطاعة. تذكره أمه بتحذير الكاهن الأعظم، ويحاول ولده أن يثنيه بما لديه من منطق عن الخروج، لكنه أبدا لا يلين.
يخرج شديد كما خرج أبوه من قبل ليمارس نفس الحماقة الأولى التي أثارت غضب "هبا"، لا لأنه يدرك في أعماقه أنه سينتصر في معركة محسومة سلفا، ولكن لأنه يؤمن أن الموت هو التمرد الوحيد الممكن لكائن فرضت عليه الحياة، ولأن الحياة مملة جدا ولا خير فيها، فقد أكل شديد من متع الحياة حتى شبع وشرب من مسكراتها حتى ثمل، ولم يعد يغريه كأس ولا طاس ولا حسناء، ولا حتى جنة بربوة. الوسيلة الوحيدة إذن لرجل أجبر على ممارسة حياة تافهة أن يتمرد على "هبا" بأن يسعى إلى الموت بقدميه. وكما هو متوقع، خرج شديد ثائرا في وجه الإله لكنه لم يعد، وبعد انتظار لم يدم أكثر من يومين، ارتدى "مرثد" الابن ثياب أبيه، وبدأ في إعداد خطبة عصماء حول فساد والده الملحد إرضاء لكبير الكهنة.
وفي مشهد لاحق، نرى شديد جالسا في حالة إعياء في غرفة منمقة مضاءة بشكل متوهج وهو لا يحمل سيفه، ونعلم فيما بعد أنه قد مات وأن رفيقيه في تلك الغرفة الوثيرة كانا عاشقين لفتاة واحدة، وأن أحدهما قد قتل على يد صاحبه بعد اكتشاف خيانته. كما نرى الرجلين يمارسان روتينا مملا، حيث ينهمك أحدهما في حياكة ثوب أحمر للمرأة التي خانته ليفوز بها هنا في دار البقاء، بينما يحاول الآخر إحصاء غرز الثوب ليفوز بوصالها بدلا من صاحبه، ونعرف أن من شرع لهما هذا السباق البليد هو "هبا" لا غيره. وهنا تثور عدة أسئلة وجودية عن جدوى أن يحرم المرء هنا بأمر الإله ما سيناله هناك برضاه. ويتمنى شديد لو يلتقي وجها لوجه بهبا. وبالفعل، يحدث ما تمنى، لكن إجابات هبا التي كنا نتوقع أن تأتي لتخمد عاصفة الأسئلة التي أثارها شديد لم تكن عند مستوى توقعاتنا. وهو ما يدل على أن كنفاني لم يحسم حتى وقت كتابة المسرحية موقفه تجاه الكثير من القضايا الوجودية، حيث أتت معظم الإجابات غامضة وملغزة.
من الأسئلة التي بادر شديد بطرحها على هبا قوله: "من أين أتيت؟" ليجيبه هبا: لن تفهم الأمر، لقد حدثت القصة منذ وقت طويل. ثم يعترف شديد أنه لم يكن يريد الانتحار بقدر ما كان يريد أن ينازل الإله حتى يتيقن من وجوده. ثم ينتقل كنفاتي إلى قضية فلسفية معقدة، وهي أن الكون لا وجود له إلا في عقل الإنسان، وأنه بمجرد موت الإنسان، تموت كل الموجودات، ولهذا، فنيت إرم بفناء شديد وليس العكس. وحين يعترض شديد على إملاءات هبا، يؤكد له أنه لا يفرض شيئا على أحد بل يقترح فقط وهو بالضبط ما فعله مع رفيقيه في السجن. وفي النهاية يتهم شديد هبا بالعبث وأنه يتسلى بمآسي الناس. وأخيرا، نصل إلى مأساة الباب أو البرزخ الذي يفصل عالم الأحياء عن المقبورين، وأن الموتى الذين يستطيعون العودة للحياة بكامل وعيهم وإرادتهم هم الذين يستطيعون كسر الحاجز بين الناسوت واللاهوت، حيث يمثل الميلاد بداية الإنسان، بينما يمثل الموت بداية الإله التي يجهلها الجميع. وقد أجاد كنفاني إدارة الحوار بين شديد وهبا (الأنا والآخر) والتي قد تكون مغلوطة ويشوبها الكثير من الخلط في كثير من الأحيان.
كثيرة هي الأسئلة التي يطرحها كنفاني، وقليلة وغير مقنعة في كثير من الأحيان هي الأجوبة. وكأن غسان الخارج للتو من عباءة القمع إلى باحة منظم التحرير كان يتعمد ترك الفراغات بين سطور المسرحية التي خلت إلى حد مخيف من الفعل ومن الحبكة، وكأن غسان الذي كان حديث عهد بالعمل المسرحي قد أراد أن يحول أفكاره إلى صيحات غير مغلفة يقذفها الممثلون في أوجه النظارة ليشاركوه الأرق الوجودي والقلق الفلسفي الذي كان يعتريه. [email protected]
غسان كنفانيالمصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: المرحلة الإعدادية المرحلة الثانوية مرحلة الجامعة مقال
إقرأ أيضاً:
تطبيق نظام البوكلت فى إمتحانات الفصل الدراسى الأول بإعدادية البحيرة
أعلن يوسف الديب - وكيل وزارة التربية والتعليم بالبحيرة، عن تطبيق نظام البوكلت فى إمتحانات الفصل الدراسى الأول للشهادة الإعدادية، للعام الدراسي الحالى، وذلك وفقا للضوابط التى حددتها الوزارة، وإتخاذ كافة الإجراءات لضمان تحقيق اعلى معدلات الجودة
يأتي ذلك فى إطار إستعدادات مديرية التربية والتعليم بمحافظة البحيرة، لإمتحانات الفصل الدراسي الأول ٢٠٢٤ / ٢٠٢٥ للشهادة الإعدادية، ووفقا للقرارات الوزارية المنظمة لأعمال الإمتحانات
ووفقا لمواعيد الإمتحانات وتوقيتاتها الزمنية التى أقرتها الدكتورة جاكلين عازر محافظ البحيرة، إعتبارا من يوم السبت الموافق ١٨ يناير حتى الخميس ٢٣ يناير ٢٠٢٤
وأشار وكيل وزارة التربية والتعليم بالبحيرة ، إلى أن نظام البوكلت ليست له علاقة بطبيعة او محتوى الإمتحانات والاسئلة، وهو عبارة عن كراسة صغيرة تكون ورقة الأسئلة الخاصة بالإمتحانات هى نفسها ورقة الإجابة، من خلال توزيع الأسئلة على عدد كبير من الصفحات يصعب نقلها أو تصويرها، لتداولها على مواقع التواصل الإجتماعي، مما يحد ويمنع من ظاهرة الغش بين الطلاب.
علي جانب آخر عقد يوسف الديب - وكيل وزارة التربية والتعليم بالبحيرة ، إجتماعاً مع مديرى المرحلة الثانوية بجميع الإدارات التعليمية، وذلك بقاعة الإجتماعات بمدرسة عمر كامل الوكيل الثانوية بإدارة بندر دمنهور التعليمية، بحضور عماد حجاب مدير إدارة التعليم الثانوى بالمركزية.
وذلك لمناقشة كافة التفاصيل المتعلقة بإمتحانات الفصل الدراسي الأول، للصفين الأول والثانى الثانوى المقرر إنطلاقها وفقا للجدول المعد إعتبارا من يوم السبت الموافق ١١ يناير حتى الخميس الموافق ١٦ يناير ٢٠٢٤ ،وتنفيذ القرارات والتعليمات الوزارية بشانها ،وإتخاذ كافة الإجراءات اللازمة لضمان سير الإمتحانات بسهولة ويسر، وذلك من خلال التخطيط الدقيق وتوفير كافة الإمكانيات وتحقيق اعلى معدلات الجودة بجميع مراحلها .
حيث اكد وكيل الوزارة، على إتباع كافة الإجراءات والقواعد المنظمة لأعمال سير الإمتحانات بكافة اللجان ،وإتخاذ كافة الإجراءات لضمان سرية الإمتحانات ومراعاة الدقة فى وضع الاسئلة ،ومراعاة المستوى التحصيلى لجميع الطلاب ومواجهة الغش داخل اللجان ،مع الإلتزام بالمنهج الدراسى أثناء وضع الأسئلة ،بحيث تتوزع الاسئلة على جميع جزيئات ومقررات الفصل الدراسى الأول ،ووفقا للمواصفات الفنية للورقة الإمتحانية ومتدرجة من حيث الصعوبة، وأن تكون الأسئلة فى حدود المقرر الدراسى المستهدف ،وموزعة على نواتج التعلم تكون محددة وواضحة فى صياغتها اللغوية.
مشددا على سرية الأسئلة حتى وصولها للطلاب فى اللجان ،وتأمين جميع مراحل الأسئلة منذ إختيارها ومرحلة الطباعة ،والتوزيع على الإدارات التعليمية ،مع ضرورة الإختيار الجيد لرؤساء اللجان والملاحظين من خلال مديرى الإدارات التعليمية.
كما شدد على تحقيق الإنضباط داخل اللجان، ومنع إصطحاب الهواتف المحمولة ،مع مراعاة الإلتزام بالدقة فى التصحيح والرصد ،والإلتزام بنموذج الإجابة المعتمد.