الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي لـ “أثير”: رسائلي إلى غادة السمّان!
تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT
أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي
كتابات غادة السمّان هي البوابة التي دخلتُ منها فتى في مقتبل العمر والحبر إلى عالم الحداثة الأدبية. سحرتني غادة بأسلوبها غير التقليدي، بجرأتها ومغايرتها، وبخروجها على كل ما يكبَّل الكاتبة أو يحد من حريتها وحقها في البوح والتعبير.
روايات غادة السمّان ونصوصها الشعرية والنثرية كانت مدخلي لاكتشاف عالم مختلف عن عالم القراءات الكلاسيكية التقليدية التي نشأت عليها مذ كنت يافعًا أحاول فكّ أبجدية العمر المكتوب آنذاك بالشغف والحماسة.
أول ما لفتني، من حيث الشكل، في كتب غادة السمّان اختيارها لوحات الرسّام السريالي البلجيكي رينيه ماغريت أغلفةً لكتبها، واعتمادها البومة التي نتشائم منها في الشرق العربي رمزًا لها، متفائلةً بها على مذهب شعوبٍ أخرى كثيرة، وعناوينها المختلفة مثل: القبيلة تستجوب القتيلة، البحر يحاكم سمكة، الجسد حقيبة سفر، السباحة في بحيرة الشيطان، لا بحرَ في بيروت، كوابيس بيروت، حب من الوريد إلى الوريد، أعلنتُ عليك الحب، وعبارة “الأعمال غير الكاملة” تسطّرها على جميع منشوراتها. فيما درجت العادة لدى الكتّاب الذين ينشرون مؤلفاتهم مجتمعةً كتابة عبارة “الأعمال الكاملة”، لكن غادة ارتأت إضافة كلمة غير التي غيّرت المعنى تمامًا، وفي عرفها أن الأعمال الكاملة لا تكتمل إلا بموت صاحبها أو باعتزاله المطلق للكتابة. طالما الكاتب على قيد الحياة والكتابة فإن أعماله لم ولن تكتمل.
الأعمال غير الكاملة، عبارة تستدعي التوقف عندها مليًا. إذ مَن ذا الذي يستطيع الادعاء أنه أنجز أعماله كاملةً في حياة لا تكتمل إلّا بالموت. جميعنا نسعى إلى الكمال والاكتمال، لكن هل من أحد قادر على القول أنه عمل كل ما كان يودّ عمله؟ كثيرون ينجزون أعمالًا رائعة علمًا وفكرًا وأدبًا. إلّا أن الإنجاز شيء والكمال شيء آخر. مَن ينجز أمرًا فورًا يبدأ التفكير بسواه. حتى على المستوى الاجتماعي كلما تقدّم الإنسان درجة سعى للصعود درجة أخرى وهكذا دواليك. صحيح القناعة كنز لا يفنى، إنما ليس على مستوى الإنجازات. الإنجاز أفضل وسيلة للحثّ على تحقيق إنجاز آخر.
ما علينا، كانت كتابات غادة محرِّضة على المغايَرة والاختلاف، مثلما كانت مدخلًا لمعرفة بيروت أخرى غير تلك التي كنا نراها على الشاشة (زمن التلفزيون المحلي)، وفي البطاقات البريدية. مرةً كتبتُ لها رسالةً طويلة منها: “…أول ما عرفته في كتبكِ، قبل أن أعرفه في الواقع، هو بيروت. عرفتها فاتنة، ماجنة، مارقة وجامعة لكل الأضداد في رائعتك “بيروت ٧٥” الكتاب الذي رصدتِ فيه غليان ما قبل الانفجار الكبير، وإرهاصات التناقض التي كانت تعصف بمدينة حَدَسَتْ أن المنية قد توافيها عمّا قريب فأقبلت على الحياة بنهم وشراهة وشبق وجنون. فكانت عشية العام ١٩٧٥ كمن يودِّع آخر أمنياته، وكانت على فوهة البركان.
“في كتابك الآخر “كوابيس بيروت” عشتُ التحوَّل الكبير الذي أصاب المدينة التي لا تنام من الفرح والسهر والبهجة، وأمست لا تنام من الخوف والقلق والترقب، وعشتُ الانفعالات التي يعيشها الكائن حين يُحشَر في ذاك الممر الضيق بين الحياة والموت، وذلك من خلال اليوميات البديعة التي سطّرتِها في كتابك أو في كوابيسك النابعة، كما كل أعمالك، من تجربتك المعاشة…
“…في بيروت يا غادة، تمرّ أوقات يصير فيها الرماد هو “الموضة”، يصير كل شيء، أحيانًا، رماديًا. السياسة والثقافة والنقد، والموالاة والمعارضة والسلطة والأحزاب والجمهورية، وكلها مصطلحات فضفاضة، أو مسميات لأشياء لا معنى لها، أو لأشياء مجازة لاعتبار أننا نعيش زمن المجاز. كل شيء هو مجاز، السلطة ومعارضوها، المثقفون وما يسطّرون، الانتخابات والإعلام، وكل ما هو مرئي ومسموع يبدو في الواقع غير مرئي ومسموع. فهل تتخيلين الحياة حين تدخل في المجاز. وتصبح حياة هي دائمًا في مكان آخر”.
رسالتي المطولة إلى غادة نُشرِت قبل نحو ربع قرن على صفحات جريدة النهار. فوفّرت عليها مشقة نشرها، رغم أنها ليست رسالة عاشق، بل رسالة شاعرٍ كانت نصوص غادة السمّان بوابته إلى دنيا الحداثة، قبل أن يتعرّف إلى شعراء الحداثة، أولًا عبر نصوصهم الشعرية، ولاحقًا عبر العمل إلى جانب كبيرَيْن منهم هما شوقي أبي شقرا وأنسي الحاج، فضلًا عن محاوراته التلفزيونية المتكررة مع أدونيس وسواه من كبار الأدباء العرب.
مَرَّ زمن طويل يا غادة، ولا يزال ما سطّرته في تلك الرسالة صالحًا لوصف واقع الحال الذي يزداد قسوة وشراسة بفعل الساسة أنفسهم الذين ارتكبوا ما ارتكبوا، فيما بيروت على عهدكِ بها، تارة لا تنام من فرط السهر وشراهة الحياة والتعويض عن الخسارات بالرقص والغناء، وطورًا لا تنام من فرط القلق على الغد وما يخفيه قابل الأيام.
لم ألتق غادة السمّان يومًا إلا على صفحات كتاب أو بين أسطر صحيفة. كتبتُ عنها وكتبت عنّي ما أعتز به وأفخر. ناصرتها يوم نشرت رسائل غسان كنفاني إليها فاكتشفنا وجهًا آخر لذاك المناضل الاستثنائي والعاشق الاستثنائي، وآزرتني يوم وفاة أمي بكلمات كفكفت بعض دمعي. وما هذه الكلمات الآن سوى تحية لمبدعة عربية طليعية اختارت الاحتجاب عن الأضواء والابتعاد عن المناسبات الاجتماعية والعلاقات العامة، لكنها تبقى حاضرة في وجدان كل مَن قرأها وغرف من بحرِ حبرٍ رحبٍ مداده الشغف والجموح وملحه الجرأة والشجاعة وموجه لا يكلّ ولا يملّ من ملاقحة اليابسة كي يجعلها أكثر طراوة وليونة وأكثر رحابة وحرية.
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
ترامب: المروحية العسكرية التي اصطدمت بطائرة الركاب كانت تحلق على ارتفاع عالٍ جدا
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
قال الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إن المروحية العسكرية التي اصطدمت بطائرة ركاب في واشنطن كانت تحلق على ارتفاع عالٍ جدا.
وكتب ترامب على منصة "تروث سوشال" الخاصة به مساء اليوم الجمعة إن "مروحية بلاك هوك كانت تحلق على ارتفاع عالٍ جدا، وبفارق كبير".
وأضاف ترامب أن ارتفاعها "المروحية"، كان أعلى بكثير من الحد الأقصى المسموح به وهو 200 قدم. هذا ليس معقدا للغاية لفهمه، أليس كذلك؟".
وكانت وسائل إعلام أمريكية قالت - في وقت سابق - إنها انتشلت 40 جثة مساء أمس، بعد حوالى 24 ساعة من الكارثة، التي لم يسلم منها أي من ركاب الطائرة وعددهم 67 راكبا، وتعد الحادثة الأسوأ في الولايات المتحدة منذ أكثر من 20 عاما.
وعثر على الصندوقين الأسودين للطائرة، وهي من طراز "بومباردييه"، في المياه المتجمدة لنهر بوتومك في واشنطن.
ويعمل المحققون على كشف ملابسات الحادثة، حيث تتولى الوكالة الأمريكية لأمن المواصلات "إن تي إس بي" تحليل محتوى الصندوقين، على أمل إصدار تقرير أوّلي عن أسباب الحادث "خلال الأيام الثلاثين" المقبلة.