موقع 24:
2025-03-12@23:54:44 GMT

هل مازال الطبوبي قادراً على المناورة؟

تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT

هل مازال الطبوبي قادراً على المناورة؟

من الثابت أن تحرك الاتحاد لو تم سيكون محدوداً.. مضى الزمن الذي كان فيه الاتحاد قادراً على شن إضرابات عامة أو قطاعية وبنسق تصاعدي تنتهي بأن يفرض على الحكومات القبول بشروطه.

قد يحمل موقف الطبوبي إشارات عن التصعيد وقد يحمل عكس ذلك تماماً

مضى الزمن الذي كان فيه الاتحاد قادراً على شن إضرابات عامة أو قطاعية

قيس سعيد نجح في شق الاتحاد إلى شقين كبيرين من دون أن يقصد

لوّح الأمين العام لـ الاتحاد العام التونسي للشغل نورالدين الطبوبي بالتصعيد مع بداية الموسم السياسي الجديد، معلنا أنه سيسلك مسار "النضال السلمي والمدني"، وأنه "لن يكون شاهد زور"، حاثاً على "الحوار الوطني".

قد يحمل موقف الطبوبي إشارات عن التصعيد، وقد يحمل عكس ذلك تماماً.. قيادات الاتحاد خلال الأشهر الماضية كانت تطلق بين الفينة والأخرى تصريحات توحي بالتصعيد، لكن يتضح أنها تخفي رسائل موجهة إلى السلطة السياسية، وفيها لفت نظر إلى أن الاتحاد موجود، ويفتح يديه للحوار، وأنه يمتلك المرونة الكافية للاقتراب من الحكومة، فقط يحتاج إلى إشارات من الطرف المقابل، وخاصة من الرئيس قيس سعيد، الذي أوصد باب الحوار مع المنظمة بعد ما بدا له من رغبة لدى قادتها في لعب أدوار ليست من مهامهم.

وسواء أكان كلام الطبوبي الأحد هادفاً إلى التصعيد أو إلى لفت نظر الرئيس سعيد، من الواضح أن النتيجة واحدة.. السلطة لديها ما يكفي من المشاكل والمهمات المستعصية ما يجعلها في غنى عن ملاعبة اتحاد الشغل والرد على مناوراته، أو حتى الالتفات إليه.

ولا يسمح لها وضعها بأن تفتح باب المناكفة مع الاتحاد وإعادته إلى الواجهة من جديد ثم مجاراته في الردود، وهي تعرف أن الاتحاد يبحث عن مشروعية تمهد له العودة إلى الواجهة.. وقد يكون الجدل معه والرد على وعيده هو ما يبحث عنه.

قال الطبوبي إن "الاتحاد سيعود إلى الساحة، بعد انقضاء الموسم الصيفي، بلحمة واحدة وإستراتيجية واضحة في الخيارات وفي النضال السلمي والمدني، لتحقيق الأهداف وتعديل المقدرة الشرائية".

ورغم المصطلحات الكبيرة التي حواها كلام الطبوبي، إلا أن الرسالة من ورائه أن الاتحاد ينوي الدفاع عن القدرة الشرائية للمواطنين كمدخل لعودته إلى الواجهة، ربما من خلال دعوات استعراضية إلى التظاهر أو تجمعات أمام مقره المركزي بالعاصمة، أو اللجوء إلى إضرابات محدودة، معتقداً أن الملف الاجتماعي يقلق السلطة.

وبقطع النظر عن خلفية التحركات الاحتجاجية، والرسائل التي تقف وراءها، فإن الاتحاد سيبدو موضوعياً في صف الكارتلات التي يعلن قيس سعيد باستمرار أنه سيحاربها ويقضي عليها، متهماً إياها بالتخطيط لإثارة غضب الناس من بوابة أزمة الخبز وارتفاع الأسعار.

هل سيرضى الطبوبي بأن يُنظر إلى الاتحاد على أنه جزء من الكارتلات، أو أنه يقدم نفسه كمدافع عن مصالحها وإرباك الحرب عليها.. أو يضع نفسه في خدمة أجندة جبهة الإصلاح وحركة النهضة وتمكينهما من قشة النجاة بعد أن فقدا الحماس للاحتجاج وتضاءلت أعداد الداعمين لهما.

من الثابت أن تحرك الاتحاد لو تم سيكون محدوداً.. مضى الزمن الذي كان فيه الاتحاد قادراً على شن إضرابات عامة أو قطاعية وبنسق تصاعدي تنتهي بأن يفرض من خلالها على الحكومات تقديم التنازلات والقبول بشروطه ما تعلق منها بزيادة الرواتب أو إقرار علاوات للموظفين الذين استمرأوا اللعبة ورفعوا شعار "الاتحاد أقوى قوة في البلاد".

كان الاتحاد هو الحزب الحاكم والمعارض في الوقت نفسه.. أشرف على الحوار الوطني في 2013 الذي أفضى إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية برئاسة مهدي جمعة، ومن وقتها كان حاضراً في التفاهمات التي تسبق أو تلي تشكيل أيّ حكومة.. حصل على كوتا في الوظائف الكبرى بالدولة، وساهم في تحديد السياسات الاجتماعية للحكومات، وهو بشكل من الأشكال كان مسؤولاً في حكومات العشرية الماضية التي بات مسؤولوه يصفونها بالعشرية السوداء.

هل مازال الاتحاد قادراً على تحريك المشهد السياسي والاجتماعي، والبدء بالتصعيد قياساً بقدراته الذاتية وليس على ضعف الجهة الحاكمة التي تقابله.. الوضع تغير كلياً، فلا الاتحاد ما زال "أكبر قوة في البلاد"، ولا السلطة ضعيفة أو مهادنة.

من المهم التساؤل حول قدرات الاتحاد الذاتية، فخلال العشرية الماضية، كانت المنظمة النقابية الأكثر تمثيلاً في البلاد أشبه بحزب سياسي كبير يجمع بداخله فسيفساء مختلفة، منها النقابيون، ومنها أحزاب قومية ويسارية لم تكن قادرة على التأثير في المشهد السياسي ككيانات سياسية منفردة، ومنها مجموعات سياسية أخرى بهويات متشابهة أو متنافرة تلتقي على أرضية الوقوف بوجه الإسلاميين ومنعهم من احتكار السلطة واختراق الدولة والسيطرة عليها.

ذاك الزمن مضى مع مسار يوليو 2021، وخرجت أغلب الأحزاب من داخل القاطرة الكبيرة، وبقي الاتحاد واجهة لعدد محدود من الجماعات السياسية، ولأفراد داخله كانوا يعتقدون أن التصعيد وحده هو ما يجلب المكاسب.

في المواقف، الاتحاد صار اتحادات، وصار نقابات.. فنقابة التعليم الأساسي التي يسيطر عليها فصيل يميل إلى المعارضة، ليست نقابة التعليم الثانوي التي يهيمن عليها نقابيون أحزابهم متحالفة موضوعياً مع الرئيس سعيد، ولو فكر الطبوبي بالضغط لتوحيد النقابات من خلفه، فستتسع دائرة الشقوق، وقد يصبح الاتحاد اتحادات.

ويتوقع أن يحافظ الأمين العام للاتحاد على شعرة معاوية، وأن يكتفي بتصريحات عامة تصعيدية لحسابه الشخصي من دون أن ينزل بها إلى أرض الواقع، فهو لن يجد من ينفذها، وإذا نفذت فستظهر الاتحاد في موقع ضعيف ومحدود التأثير، وهو ما لا يريده الطبوبي.

قيس سعيد نجح في شق الاتحاد إلى شقين كبيرين من دون أن يقصد، وذلك باختياره محمد علي البوغديري وزيراً للتربية.. والبوغديري هو الوجه الأول من وجوه العناصر النقابية المعارضة لتيار الطبوبي في اتحاد الشغل.

والنتيجة، أن المناورة محدودة من داخل الاتحاد، وأن الطبوبي لم يعد قادراً على قيادة الشقوق المتناقضة كما كان يحصل في السابق.

والأهم أن الجمهور الكبير الذي كان ينفذ الدعوات إلى الإضراب بسرعة ونسب عالية لا تقل عن الـ90 في المئة، لم يعد موجوداً، بما في ذلك جمهور الموظفين الذي ركبوا قاطرة الاتحاد ليراكموا المكاسب، لكن الوضع الآن اختلف، فالإضرابات والاعتصامات لم تعد مجانية، وهي بدل أن تجلب المكاسب قد تقود إلى الخسارة، بما في ذلك خسارة الوظيفة المريحة في القطاع العام، وقد تقود صاحبها إلى القضاء، في ظل مرسوم 54 الذي بات يحد من الاستعراضات الكلامية للموظفين على مواقع التواصل.

يضاف إلى هذه العوامل أن الاتحاد لم يعد قادراً على بناء جبهة معارضة للسلطة بالتحالف مع أحزاب بعينها، السبب الأول أن الأحزاب التي كان يتحالف معها إما أنها اختفت تماماً، أو أنها وضعت نفسها في صف قيس سعيد حتى وإن لم يتحالف معها، أو يطلب منها ذلك، وهي تراه الأكثر قدرة على تخليصها من خصمها الأول حركة النهضة.

ماذا بقي للطبوبي ليتحالف معه غير جبهة الإخلاص والتي تمثل حركة النهضة القوة الرئيسية فيها.. هذا تحالف محفوف بالمخاطر بالنسبة إلى الطبوبي خاصة أن أمين عام اتحاد الشغل كان يسعى دائماً إلى إظهار اختلافه مع الحركة ويتعمد انتقادها بمناسبة وغير مناسبة لترضية الشقوق الداخلية للاتحاد التي اتفقت على تصعيده للقيادة في دورة أولى وثانية.

وحتى لو قبل الطبوبي بالتحالف اضطرارياً مع النهضة وجبهة الخلاص فلن يحقق المكاسب التي يبحث عنها، وعلى رأسها دفع السلطة إلى الحوار معه وفتح الباب أمام عودة المنظمة للعب دور مستشكل يقوم على وضع ساق في الحكم وأخرى في المعارضة.. يد تجلب المنافع وأخرى ترفع الشعارات الحماسية.

النهضة نفسها بدأت بالتراجع وفهمت أن الوضع في غير صالحها، وأن حرب تطهير الإدارة قد تجرفها، ولذلك جاءت تدوينة القيادي سامي الطريقي منذ أيام على فيس بوك، والتي تتبرأ من الحرب على الدولة/السلطة، وتقول إن الحركة ليست ضد الدولة.. والرسالة واضحة أن النهضة لا تريد أن توضع في سلة الكارتلات التي يواجهها قيس سعيد.

من بقي للطبوبي ليتحالف معه ويناور من خلاله لاستعادة بريق سابق تغيرت كل الشروط التي خلقته؟

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني أن الاتحاد الذی کان قیس سعید

إقرأ أيضاً:

شرود في حضرة السيد سعيد

تركنا المقبرة السلطانية واتجهنا صوب «الحصن القديم»، المعروف أيضًا بأسماء أخرى من ضمنها «حصن العرب»، وهو أحد المعالم الرئيسية في «المدينة الحجرية» ولا يبعد كثيرًا عن بيت العجائب، ويُعَدُّ أقدم مبنى في زنجبار وموقعًا سياحيًّا رئيسيًّا لجذب السياح في «المدينة الحجرية»، أخبرَنا دليلنا محمد أنّ البرتغاليين هم الذين بنوه قبل وصول العُمانيين وأنّ العُمانيين رفعوا جداره بعد طردهم للبرتغاليين؛ لذا فلا حرج أن يُسمَّى «قلعة البرتغاليين» أو «قلعة العرب» لأنّ كليهما اشترك في بنائه؛ غير أنّ هناك رأيًا آخر يقول إنّ العُمانيين هم الذين بنوه في أواخر القرن السابع عشر، بعد أن طردوا البرتغاليين من زنجبار. ومن ينتصر لفرضية أنّ البرتغاليين هم الذين بنوا الحصن يُدلِّل على ذلك بوجود آثار كنيسة برتغالية داخل الحصن قبل وصول العُمانيين إليه، الذين بعد أن طردوا البرتغاليين أضافوا للحصن تحصينات في عام 1699، واستُخدم كحامية للجنود وسجن في القرن التاسع عشر. والحصنُ عبارة عن مربع عالي الجدران وبه ثغرات تحمي الفناء الداخلي ويتميّز عمومًا بطراز عربي إسلامي يجسِّد بنحو جلي التأثير العُماني الطاغي على معظم المعالم بالجزيرة، وحاليًّا هناك بعض التصليحات والترميمات تُجرى على الحصن من الداخل، لكن لا تمنع من الدخول إليه، على عكس ما هو حاصل في «بيت العجائب» و«بيت الساحل». وهناك مجموعة من الدكاكين يبيع أصحابها بعض المنتجات الزنجبارية من ملابس وزيوت وتحف وغيرها. ويُستخدم الحصن حاليًّا كمركز ثقافي حيث يوجد به مسرح غنائي، وتقام فيه عروض الرقص والموسيقى والمهرجانات السينمائية وغيرها من الفعاليات الثقافية.

هذا ما استطعتُ تذكُّرَه من شرح دليلنا عن تاريخ الحصن، لأنني ساعتها كنتُ مشغولًا الفكر بشخصية نادرة في التاريخ العُماني، هي شخصية السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي الذي غادرْنا ضريحه قبل دخولنا الحصن بدقائق؛ وأخالني لا أقول شيئًا جديدًا إذا قلتُ إنّ السيد سعيد كان واحدًا من أعظم سلاطين الدولة البوسعيدية والحكام العرب في النصف الأول من القرن التاسع عشر. ومن قرأ تاريخ ذلك العصر يعرف أنه أقام علاقات تجارية مميزة مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، كما اهتم بتعزيز الأسطول البحري وتوسيع التجارة الدولية مع العديد من الدول، فضلًا عن خصاله الحميدة التي تميّز بها واستطاع عبرها أن يقود دفة الحكم بحكمة وحنكة واقتدار طوال نصف قرن من الزمان، جعل خلالها زنجبار مركزًا عالميًّا لتجارة القرنفل والعاج والتوابل، الأمر الذي أدى لازدهار التجارة في عهده، رغم أنها فترة تاريخية صعبة شهد العالم فيها بروز بريطانيا وفرنسا كقوتين عُظميين تتنافسان على فرض النفوذ والسيطرة على المزيد من الدول الأفريقية، وفي إطار تنافس محموم لا تزال آثاره السلبية واضحة للعيان في عموم القارة الأفريقية. استطاع الرجل أن يشق طريقه بكلِّ اقتدار وسط الكثير من العقبات التي اعترضت طريقه كصاحب رؤية وهدف. وفي ظني أنّ شخصيةً كشخصية السيد سعيد بن سلطان لم تنل حظها بعد من الدراسة والاهتمام والتركيز عند الأجيال العربية المتعاقبة؛ فكلّ المراجع الغربية تؤكد أنّ العصر الذهبي للتأثير الحضاري العُماني في شرق أفريقيا كان في عهده، ‏حيث كان لقوة شخصيته ودبلوماسيته ورؤيته الشاملة وبُعد نظره، أكبر الأثر في ‏ترسيخ ملامح الحضارة العُمانية في شرق أفريقيا، والتي شكلت في مجملها ركائز ‏حضارية كانت بمثابة إشعاع ثقافي وحضاري. وكان من أسباب نجاح السيد سعيد تطبيقه لمبدأ «التسامح وقبول الآخر» مهما كانت خلفيتُه العرقية أو الدينية أو المذهبية، وهي ميزة تميّز بها العُمانيون عمومًا، ولا يزالون يحتفظون بهذه الخصال الحميدة حتى اليوم بفضل الله وتوفيقه. وكان حكامُهم القدوة في ذلك منذ تلك الحقب وحتى عصرنا الحديث الذي تموج فيه الدول بالفتن والتناحر والتذابح بسبب الخلفيات التاريخية والمذهبية والعرقية؛ لذا نجد أنّ حادثة مثل «حادثة الوادي الكبير»- التي حدثت في مسقط في 15 من يوليو 2024 - استنكرها العُمانيون بكافة مذاهبهم، لأنّ ما حدث لا يمت لنا بصلة لا من بعيد ولا من قريب، وعلموا يقينًا أنّ تلك الحادثة وذلك الفكر غريبان عن المجتمع العُماني ولا ينتميان إلى الأخلاق العُمانية الفاضلة.

خص السيد سعيد مواطنيه بمعاملة كريمة، ‏وساوى بين كافة السكان بصرف النظر عن أصولهم العرقية. ومما ذكره الراحل الشيخ علي بن محسن البرواني في كتابه «الصراعات والوئام في زنجبار» أنّ زنجبار عَرفت في التقويم الرسمي مناسبتين تخصّان الأقلية الشيعية توصد المصالح الحكومية أبوابها فيهما، وهما يوما الحادي والعشرين من رمضان ذكرى استشهاد الإمام علي، ويوم عاشوراء ذكرى استشهاد الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما. ويذكر في مكان آخر من الكتاب أنّ السيد سعيد أصدر مرسومًا منع فيه المواطنين من ذبح الأبقار والأضاحي في الأحياء التي يقطنها الهنود احترامًا لمعتقداتهم، وكان من نتيجة هذه السياسة أن ساد جوٌّ من الألفة والتجانس بين كافة مكونات سكان الجزيرة، وتوثقت العلاقات الاجتماعية بينهم، وانعكس ذلك بشكل لافت على فقهاء المذاهب المختلفة، لدرجة أنّ القضاة ‏الشرعيين في عهد السيد سعيد كانوا من الإباضية والسُنّة، وكان لقضاة السُنّة مطلق ‏الحرية في عقد محاكمهم في منازلهم أو في المساجد العامة وفي أيّ وقت شاءوا، إلّا أنّ القضايا الكبيرة ذات الطابع العام كان يتم الفصل فيها في «بيت الساحل»؛ المقر ‏الرسمي للحكومة.‏

عن تسامح السيد سعيد يقول الباحث المصري الدكتور محمد صابر عرب في فصل «عصر من التسامح» من كتابه «قضايا لها تاريخ»: «اللافت أنّ السيد سعيد لم يفرض عقيدةً بذاتها ولا مذهبًا بعينه على الأفارقة، ولم يستهدف طمس ثقافتهم، ولم يعمل على تفضيل عرق على آخر؛ وإنما راح يزرع الحب والخير في نفوسٍ أرهقها الفقر والشقاء، وهو ما يفسّر دخول الأفارقة في الإسلام زرافات ووحدانًا، ودعْمَ مشروعه الحضاري الكبير، وهي ظاهرة استلفتت نظر الرحالة الأجانب»، ويرى صابر عرب أنّ الرجل «كان سابقًا عصره؛ بسيطًا في فهمه للإسلام، بقدر عُمق الإسلام وبساطته؛ فهو لا يقنع بأن يُكره الناس على اعتناق الإسلام، وإنما بفطرته السليمة كان على ثقة بأنّ الإسلام يدعو لنفسه من خلال سلوك المسلمين الذين يُترجمون الإسلام عملًا وبناءً وحضارة».

إذن؛ فقد أقام السيد سعيد بن سلطان دولة سياستها التسامح، فلا فرق بين مذهب وآخر أو عقيدة وأخرى؛ فالناس جميعًا متساوون عربًا وأفارقة، هنودًا وأوروبيين. ومن يزر زنجبار الآن يدرك يقينًا أنّ سياسة التسامح تلك التي طبّقها السيد سعيد بن سلطان لا تزال تنفّذ بحذافيرها؛ ففقهاء المذاهب الإسلامية في شرق أفريقيا نحُّوا الخلافات المذهبية جانبًا، وقدّموا الإسلام عقيدةً وشريعةً خاليًا من التعقيدات الفلسفية ولم يتورطوا في فتنة، وظلت العلاقة بين الإنسان وربه علاقة مباشرة وخالية من التعقيدات، حتى بدأت بعض الظواهر السلبية عندما تحوّلت أو تسللت مشكلات الجزيرة العربية إليهم، لكنها - ولله الحمد - لم تدم، وفي فترة وجودنا القصير في زنجبار صلينا في أكثر من مسجد؛ فهناك مساجد بناها الإباضيون ويؤمّها الشوافع، وهناك مساجد يؤمّها الإباضيون ويصلي فيها الشوافع، وكلهم في انسجام تام، وهناك مساجد وحسينيات للشيعة، وهكذا أصبحت زنجبار واحة للتعايش والانسجام.

وبينما أنا سارحٌ في فكري مع السيد سعيد بن سلطان - النائم على بُعد خطوات مني في هذه اللحظات - تذكرتُ ما كتبه الشيخ سعيد بن علي المغيري من أنّ عمارة مدينة زنجبار من قصورها ومساجدها ومدارسها، إنما هي عمارة العرب العُمانيين، حيث زاد هذا العمران منذ أمر السيد سعيد بزرع القرنفل. ومن ذلك الوقت بدأت هجرة العُمانيين والحضارم والهنود تفد إلى الجزيرة ومن جميع الاتجاهات بإفريقيا.

حكى لنا مرافقنا أنّ السيد سعيد عندما عزم على زراعة القرنفل عارضه «أهل العزم» الأوروبيون الموجودون في زنجبار ذلك الوقت، مثل همرتن القنصل الإنجليزي بزنجبار وبعض الأمريكيين، مشيرين إليه بزراعة قصب السكر، لكنه لم يعر هذه الأقوال اهتمامًا ولم يتحول عن عزمه، وصمّم على زراعة القرنفل وجلب البذور من جزيرة موريشيوس. وفي هذا الشأن يذكر صاحب «جهينة الأخبار» أنّ السيد ألزم الناس بزراعة ثلاث أشجار قرنفل مقابل شجرة جوز هند واحدة.

كانت الرطوبة عالية لدرجة أن يتمنى الواحد منا العودة إلى الفندق بسرعة، لكن محمدًا سألنا: هل تعرفون هذين المبنيين؟! ولمّا أجبنا بالنفي قال: «هذا هو بيت السيدة سالمة بنت سعيد، والبيتُ المقابل هو بيت الرجل الألماني الذي هربت معه وتزوجته فيما بعد».

وإذن؛ فقد حان الوقت للحديث عن السيدة سالمة، وهو ما سأفعله في المقال القادم إن شاء الله.

مقالات مشابهة

  • حبس إبراهيم سعيد بسبب قضية نفقة
  • سعيد المغيري
  • السيسي: دماء الشهداء الطاهرة أبقت الوطن آمنا مستقرا قادرا على التقدم والبناء
  • العريس الذي كان يتجهز لزفافه لكنه زُفّ إلى الجنة
  • رئيس السلطة القضائية ووزير الكهرباء يبحثان دعاوى الوزارة
  • دوران: سعيد بالتأهل والدوري السعودي صعب
  • حماس والجهاد تعقبان على استشهاد أبو منى
  • “اتحاد المناورة” يقيم فعالية رمضانية في جامعة الأميرة نورة
  • الشيخ عمر بن سعيد
  • شرود في حضرة السيد سعيد