عربي21:
2024-07-06@06:15:50 GMT

مصر من أصول البيع إلى بيع الأصول!

تاريخ النشر: 29th, August 2023 GMT

فيلم "العتبة الخضرا" وقصة الرجل الذي اشترى "التروماي"! كانا دليلا على السذاجة المفرطة، ومثالا على ضياع الأموال في صفقات مستحيلة، لكنهما في جانب مهم يوضحان أن الأمر المستقر وقتها في أفهام الناس هو حرمة مقار الحكومة ومبانيها الرسمية كونها ملكية عامة لا يجوز المساس بها، مع استحالة بيعها بالإجراءات العادية، لكن الأمر -بعد ستة عقود- من إنتاج فيلم "العتبة الخضرا" لم يعد مثالا على السذاجة، كما أن الطرح أصبح ممكنا، فإن أملاك الدولة ومقارها الرسمية في وسط البلد، تباع بطرق غريبة ومستهجنة!

أصول البيع

نجحت البيروقراطية المصرية في إنجاز أصول إجرائية لحماية أصول وأملاك الدولة، يصعب تجاوزها، تنظم عمليات بيع وشراء الأصول والثروات، وتمر بسلسلة طويلة من الإجراءات القانونية التي تصونها من الإهمال والفساد أو الاستغلال والتربح.



يمكننا إطلاق مصطلح "أصول البيع" على تلك الإجراءات، فتشريعات "المناقصات والمزايدات" و"تأسيس أجهزة مستقلة" كالجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية، بالإضافة لآليات رقابية عليا، تنفيذية وبرلمانية وقضائية، وضعت أصولا لعمليات التصرف في أملاك الدولة وثرواتها، قبل أن تنقلب دولة يوليو 1952 على تلك المنظومة، وتضعفها بشكل متعمد، كونها ركزت السلطات في يد الرئيس، وحولت منظومة الحكم من راعي لمصالح الشعب إلى قيِّم أو وصي عليه، أو بالأحرى "مالك حقيقي" لا يعقب على أمره أحد، حتى وصلت الأمور قبيل ثوة يناير لذروتها في ملف الخصخصة وبيع الأصول، ولم تخفف من خطورتها الأحكام الشهيرة لمجلس الدولة ببطلان بعض عقود الخصخصة.

بيع الأصول

عقب انقلاب 2013، تحولت مصر من دولة تراعي "أصول البيع" إلى كيان يبالغ في "بيع الأصول"، يوقع اتفاقية تنازل عن حقوق مصر التاريخية بنهر النيل، ثم يفرط في جزيرتي تيران وصنافير، ثم يجرم الحديث حول فضيحة الغاز الطبيعي الإسرائيلي التي تفجرت قبيل ثورة يناير.

كيف تحولت الأمور من منظومة معقدة تبالغ في حماية أصول الدولة إلى منظومة تبيع الأصول بكل أريحية وتساهل؟ الإجابة تكمن في معرفة "السياسات التشريعية" التي اعتمدها نظام يوليو 2013 في هذا الشأن، والتي ترتبت عليها منظومة من التشريعات والقرارات سهلت عملية بيع أصول الدولة، ومن ثم حصنتها من الطعن
لكن، كيف تحولت الأمور من منظومة معقدة تبالغ في حماية أصول الدولة إلى منظومة تبيع الأصول بكل أريحية وتساهل؟ الإجابة تكمن في معرفة "السياسات التشريعية" التي اعتمدها نظام يوليو 2013 في هذا الشأن، والتي ترتبت عليها منظومة من التشريعات والقرارات سهلت عملية بيع أصول الدولة، ومن ثم حصنتها من الطعن.

على رأس تلك المنظومة، قانون عجيب في جرأته على إهدار مبدأ المواطنة، وتقييد سلطة القضاء، أصدره "عدلي منصور" قبل ترك منصبه بأقل من خمسين يوما، ما يضع علامات استفهام عن مدى العجلة في إصداره! هو القرار بقانون رقم 32 لسنة 2014 بشأن "تنظيم بعض إجراءات الطعن على عقود الدولة"، والذي منع الطعن على عقود الدولة وقراراتها ببيع الأصول، وحرم المواطنين من التقاضي وفق مبدأي "الصفة والمصلحة" المستقرين في قضاء مجلس الدولة، كما أوجب على المحكمة رفض الطعون المرفوعة على العقود والقرارات من تلقاء نفسها، ما أسبغ على قرارات الحكومة حصانة من الطعون القضائية. ولم يكتف بذلك، بل امتد التحصين بأثر رجعي للطعون التي أقيمت قبل تاريخ العمل بهذا القانون ما يعني إسقاط كافة طعون الخصخصة والبيع التي أقيمت قبل الثورة وأثنائها!

الأمر الأعجب أن المحكمة الدستورية أقرت هذا القانون رغم وضوح العوار الدستوري الذي يحيطه من كل جوانبه، بل اعتبرته في حيثيات حكمها ضروريا لاستعادة الثقة في العقود التي تبرمها الدولة عبر طمأنة المستثمرين والممولين وغيرهم من الراغبين في التعاقد مع الدولة. وأضافت أن التشريع المطعون فيه قد توخّى تحقيق اعتبارات الأمان القانوني للتصرفات التي تبرمها الدولة.. وبهذا تم تحصينه من الطعن بعدم الدستورية، وأصبحت عقود بيع الأصول مشروعة والطعن عليها ممنوع.

قانون "صندوق مصر السيادي" برقم 177 لسنة 2018 هو الآخر منح حصانة لتصرفات النظام المفرّطة في الأصول، حيث منح رئيس الجمهورية حقا منفردا بإصدار قرارات إزالة صفة النفع العام ونقل أي أصل من أصول الدولة "المستغلة وغير المستغلة" للصندوق، ثم منح الصندوق الحق في بيعها أو تأجيرها، والتصرف فيها بكافة الأشكال، مع اعتبار تلك القرارات بنقل الأصول للصندوق أو بيعها فيما بعد "محصنة من الطعن" وعلى المحكمة أن تقضي من تلقاء نفسها برفض الطعن عليها.

لم ينقضِ العجب بعد! فإن الصندوق الذي يستلم "أصول مصر" لا يديره جهاز حكومي أو وزارة، إنما يديره مجلس إدارة معين من قبل رئيس الجمهورية على غرار مجالس إدارات الشركات، ولا يخضع في ذات الوقت لأيٍ من أجهزة الرقابة، وفي مقدمتها الجهاز المركزي للمحاسبات، كما أنه يدير الأموال التي آلت إليه بذاته، أو يعهد بها للغير وفق قراره المنفرد. والأخطر على الإطلاق أنه في حال خسارة 50 في المئة من رأس المال يُصفي الصندوق وفق إجراءات يتخذها مجلس إدارته وجمعيته العمومية، وهو ما يخالف أبسط بديهيات العمل الإداري التي تمنع الجهة الإدارية التي حققت الخسائر من التستر على وقائع الفساد أو التربح.

الصندوق الذي يستلم "أصول مصر" لا يديره جهاز حكومي أو وزارة، إنما يديره مجلس إدارة معين من قبل رئيس الجمهورية على غرار مجالس إدارات الشركات، ولا يخضع في ذات الوقت لأيٍ من أجهزة الرقابة، وفي مقدمتها الجهاز المركزي للمحاسبات، كما أنه يدير الأموال التي آلت إليه بذاته، أو يعهد بها للغير وفق قراره المنفرد
طبيعة الأصول التي تباع عبر الصندوق السيادي، تضم مباني ذات طبيعة تاريخية خاصة، فمقار الحكومة القديمة في القاهرة والمحافظات والتي تقدر بمئات المليارات تُزال عنها صفة النفع العام وتؤول تباعا للصندوق، على غرار قرار السيسي 459 لسنة 2020 والذي نقل للصندوق بمقتضاه "مبنى مجمع التحرير، ومقر وزارة الداخلية في لاظوغلي، ومقر الحزب الوطني على نيل القاهرة، ومباني كل من القرية التعليمية الاستكشافية والقرية الكونية بمدينة السادس من أكتوبر، ومباني ملحق معهد ناصر في كورنيش شبرا مصر، وأرض حديقة الأندلس في طنطا، وجميعها أراض ذات قيمة اقتصادية واستثمارية كبيرة. انضمت مؤخرا إلى صندوق مصر السيادي شركة مصر القابضة للتأمين، وهي شركة ضخمة تمتلك مئات الأصول العقارية ذات القيمة التاريخية والمواقع المتميزة استثماريا في القاهرة والمحافظات وتديرها عبر شركة مصر لإدارة الأصول العقارية.

وفق هذه التشريعات أصبح النظام ممثلا في شخص رئيسه، أو الأجهزة التي أنشأها لبيع الأصول، مطلق اليد، لا يراجعه برلمان، ولا يوقفه قضاء، ولا يحق لمواطن الطعن على قراراته.

ضمانات ملغاة

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد ألغى النظام ضمانات تحصين أصول الدولة وأملاكها وثرواتها، فألغى قانون المناقصات والمزايدات، وحل محله قانون التعاقدات الحكومية الذي يتوسع في التعاقد بالإسناد المباشر، وقيّد اختصاص مجلس الدولة بمراجعة العقود التي تبرمها الدولة، كما شُكلت لجان عليا لحصر أملاك الدولة الخاصة، وثروات وزارة الأوقاف، وعقارات وأملاك وزارة النقل والزراعة والحكم المحلي.

طرق بيع أصول الدولة تعد دلالة واضحة على استخدام النظام للسياسات التشريعية والوظيفة القانونية في خدمة أهدافه، وتحصين أعماله، وإصدار قوانين وقرارات من شأنها تهريب الثروة والتفريط في الأصول، دون معقب أو رقيب، والمحصلة كما نرى هدم التاريخ، وطمس الهوية، وحرمان مصر من أملاكها وأصولها وثرواتها.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه أصول المصرية الأصول صندوق مصر السيادي مصر الأصول أصول صندوق مصر السيادي مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة أصول الدولة من الطعن

إقرأ أيضاً:

الأصول التاريخية للجنسية السودانية

إعادة نشر بناءً على طلب القراء

الأصول التاريخية للجنسية السودانية

دكتور فيصل عبدالرحمن علي طه

ftaha39@gmail.com

في حين أن المادة الأولى من اتفاقية الحكم الثنائي لعام 1899 عرفت جزئياً إقليم الحكم الثنائي، إلا أن الاتفاقية خلت من أي تعريف لمن هم سودانيون. وكانت الحاجة لاصدار قانون جنسية في السودان قد طُرحت لأول مرة في رسائل جرى تبادلها في عام 1923 بين الحاكم العام والمندوب السامي البريطاني في مصر. وتم الاتفاق على أن وجود جنسية سودانية موضع شك، ومصدر لغط محتمل.
جاءت أول إشارة للسودانيين كفئة من الناس في المادة الحادية عشرة من معاهدة سنة 1936 التي نصت على أن الطرفين إتفقا على أن الغاية الأولى لإدارتهما في السودان يجب أن تكون رفاهية «السودانيين»، كما اتفقا أيضاً في الفقرة 2 من المادة الحادية عشرة من المعاهدة على تفضيل «السودانيين» الأكفاء عند التعيين في الوظائف الحكومية.
تولى مؤتمر الخريجين مسألة الجنسية بعد وقت قصير من تكوينه في عام 1938. وفي 3 ابريل 1942 كشف المؤتمر القناع عن وجهه السياسي فقدم رئيسه إبراهيم أحمد إلى الحاكم العام نيابة عن الشعب السوداني مذكرة إحتوت على اثني عشر مطلباً كان سادسها إصدار تشريع للجنسية السودانية. لم يجد ذلك المطلب إستجابة بسبب رفض الحكومة القاطع للمذكرة برمتها على أساس أن مؤتمر الخريجين لا يمكن له الادعاء بأنه الناطق بإسم البلاد بأسرها.
وفي عام 1944 إلتمس خمسة من أعضاء المجلس الاستشاري لشمال السودان* موافقة الحاكم العام لإدراج مسألة الجنسية كبند في جدول أعمال المجلس حتى يتمكن الأعضاء من إبداء وجهات نظرهم بشأنها. وبالنظر إلى المضامين الدستورية لذلك الطلب، فيبدو أنه قد وضع حكومة السودان أمام معضلة صعبة. ذلك لأن الاستجابة للطلب ستقلق دولتي الحكم الثنائي وبوجه خاص مصر التي كان تساورها الشكوك وقتئذ بأن حكومة السودان كانت تشجع حركة انفصالية في السودان. ومن الجهة الأخرى فإن رفض السماح بمناقشة تلك المسألة سيكون بمثابة صد لرأي السودانيين المستنيرين. وقد أوجز سير دوقلاس نيوبولد، السكرتير الإداري لحكومة السودان، ذلك الرأي في الآتي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مؤتمر الخريجين والأحزاب الاتحادية كانت تقاطع المجلس الاستشاري. شارك فيه حزب الأمة وأحزاب استقلالية صغيرة. وكان من أعضائه أحمد السيد الفيل وميرغني حمزة.
«السودانيون المستنيرون الطموحون يبغضون بغضاً شديداً ألا تكون لهم جنسية. والحكم الثنائي يحول دون أن يكونوا رعايا بريطانيين أو مصريين.كما أن أغلبهم لا يريد أن يكون أياً من ذلك. فهم يعتبرون أنفسهم في طور الخروج من الوضع الاستعماري ويودون أن تكون لهم ثمة هوية قانونية».
ولدى صدور الإذن بإدراج مسألة الجنسية السودانية في جدول أعمال المجلس الاستشاري تقرر أن النهج الأمثل هو أن يسبق المداولة تقديم بيان للمجلس حول حقائق المسألة. وكان المأمول أن يفضي ذلك إلى تحقيق غرضين: تنوير أعضاء المجلس حول المسألة وتصحيح مفاهيم السودانيين بشأن الجنسية. وبعد استيعاب البيان، يكون أعضاء المجلس في وضع أفضل للتعبير عن آرائهم.
قدم السكرتير القضائي البيان المقترح للمجلس في ديسمبر 1944 حيث ركز على أن إصدار قانون للجنسية يستلزم وجود ثلاثة عناصر وهي: إقليم محدد وحكومة ذات سيادة تباشر سلطات السيادة على الإقليم ومعترف بها كذلك دولياً، وجماعة من الناس تدين بالولاء لتلك الحكومة. وأوضح أن العنصر الثاني غير متوفر في حالة السودان لأنها تمارس سلطاتها بمقتضى اتفاقية سنة 1899 ومعاهدة سنة 1936 بين الحكومتين البريطانية والمصرية. وللتغلب على هذه العقبة، إقترح السكرتير القضائي إصدار قانون مواطنة يكون في عدة جوانب مشابهاً لقانون الجنسية ويحقق نفس الغرض. واستند في ذلك إلى سابقة فلسطين عندما كانت تحت الانتداب البريطاني. فقد تم التغلب على غياب السيادة في الدولة المنتدبة أو السلطة الحاكمة هناك باصدار أمر مواطنة في عام 1925 بدلاً عن قانون جنسية.
وعند تداول المجلس الاستشاري لاحقاً لمسألة الجنسية، شدد السكرتير القضائي منذ البداية على أن السودانيين ليسوا أهلاً لجنسية دولتي الحكم الثنائي. كما نصح المجلس بقوة على أن يتناول مسألة الجنسية كأمر إداري وعملي ويتجنب الجوانب السياسية للمسألة. على أية حال، كانت محصلة المداولة أن بعض أعضاء المجلس كانوا يفضلون إصدار قانون جنسية، ولكن أغلبية الأعضاء رأت أن إصدار قانون يعرّف من هو السوداني أفضل من أن لا يصدر قانون إطلاقاً .
(1) تصنيف الأشخاص كسوداني ومستوطن في السودان Denizen
تبنت المسودة الأولى للقانون التي قُدمت للمجلس الاستشاري في دورته السابعة كتعريف للأشخاص الذين ينطبق عليهم تعبير «سوداني»، نفس قواعد الأهلية للحصول على جوازات سفر حكومة السودان. ففي أغسطس 1925 تقرر إصدار نوع خاص من جوازات السفر التي تحمل ختم الحاكم العام. يتلقى حملة هذه الجوازات نفس المعاملة كالتي يتلقاها الاشخاص الذين تحت الحماية البريطانية. كما أنه لم يكن مطلوباً منهم الحصول على تأشيرة بريطانية للسفر إلى إقليم بريطاني. غير أن ذلك لا يمنحهم أي حق للدخول إلى إقليم بريطاني أو يعفيهم من ضرورة الحصول على إذن بالنزول على الأرض.
كانت جوازات سفر حكومة السودان تعطى للفئات التالية:
1. (أ) أي شخص مولود في السودان وينتمي إلى قبائل السودان وأعراقه الأصلية.
(ب) أي شخص مولود من زواج شرعي سواء في السودان أو خارجه من أب سوداني بالمعنى المنصوص عليه في الفقرة 1 (أ) ولم يحصل بعد بلوغه سن الرشد قانوناً وبطوعه واختياره على جنسية دولة أخرى.
2. أي شخص من أصل مصري مولود في السودان ومقيم فيه بصفة مستديمة وأطفاله القصر بشرط أن يكون ذلك الشخص أو أسلافه قد أقاموا في السودان بصفة مستديمة قبل المهدية (1882).
3. أي شخص غير مشمول في 1و2 أعلاه (وكذلك أطفاله القصر) مولود في السودان لأب مولود في السودان ومقيم فيه بصفة مستديمة ولم يكن حائزاً على جنسية أي دولة أخرى.
4. زوجة أي شخص من المشمولين بأحكام أي من البنود 1و2 أو 3 بشرط ألا تكون حائزة على جنسية دولة أخرى.
وجه المجلس الاستشاري النقد للمسودة الأولى للقانون المؤسسة على قواعد الأهلية للحصول على جوازات سفر حكومة السودان من عدة وجوه. أما النقد الرئيسي فقد كان أنها فضفاضة أكثر مما ينبغي. وذلك أن:
«شخصاً ليس له سوى صلة قريبة العهد بالسودان لا تعدو السنوات العشر بكثير، وهو من عنصر يختلف تماماً عن أغلبية السودانيين كمثل شخص من العنصر اليوناني. فهذا الشخص يجوز منحه جواز سفر سوداني إذا لم تكن له جنسية وكان مقيماً في السودان بصفة دائمة. إنه من الصائب منحه جواز سفر سوداني عندما يسافر، ولكن لماذا يكون مستحقاً لأن يسمى سودانياً وهو مختلف تماماً عن أهل السودان الحقيقيين إلى درجة أنه لا يدور بخلد أحد أن يناديه كسوداني في معرض الحديث العادي».
ولمعالجة هذا الوضع، قدم السكرتير القضائي في عام 1948 في الدورة الثامنة للمجلس الاستشاري، مسودة قانون جديدة صنفت الأشخاص «كسوداني ومستوطن في السودان». وعند شرح مبررات ذلك التصنيف لوزارة الخارجية البريطانية، ذكر السكرتير الإداري لحكومة السودان أن الغرض من ذلك تعريف السوداني الحقيقي ليس لأغراض منح جواز السفر فحسب، إنما لأغراض أخرى مثل حقوق وواجبات المواطنه كالتصويت والأسبقية في العمل في الدوائر الحكومية. وأضاف السكرتير الإداري أن حكومة السودان مستعدة عبر دولتي الحكم الثنائي لتقديم الحماية إلى السودانيين من غير الأهالي الأصليين عند سفرهم خارج البلاد. ولكن ذلك ليس سبباً في حد ذاته لمنحهم جميع إمتيازات أهالي السودان الأصليين. من أجل ذلك فإن مسودة القانون الجديدة عرفت كسوادنيين أهالي السودان الحقيقيين وحدهم وعرفت غيرهم كمستوطنين في السودان.
أثار ذلك التصنيف انتقادات قاسية من قبل وزارة الخارجية البريطانية. فقد لاحظت أن حكومة السودان كانت بصدد خلق فئة من الأشخاص هم رعايا سودانيون ولكنهم لا يتمتعون بحقوق المواطنة. وتخوفت من أن أعداء السودان لن يتوانوا في أن يروا في التصنيف المقترح سابقة معاملة هتلر لليهود. فإذا كانت الحقوق السياسية في السودان ستظل قاصرة إلى الأبد على سلالات أعراق الأهالي الأصليين، فإن تلك ستكون خطوة سيئة ورجعية وبخاصة بالنظر إلى الجهود المبذولة في إطار ميثاق الأمم المتحدة لإزالة كل التمييز على أساس العنصر أو الدين أو اللغة أو الجنس. لذلك حثت وزارة الخارجية البريطانية حكومة السودان لإعادة النظر في الفكرة برمتها أو أن تأتي بأسباب جديدة وأكثر وجاهة إذا قررت أن تمضي قدماً في الأمر.
إمتثلت حكومة السودان إلى نصح وزارة الخارجية وأعدت مسودة قانون منقحة أسقطت منها تصنيف سودانيين ومستوطنين في السودان. وبدلاً عن ذلك تبنت مفهوم التوطن Domicil كمعيار أساسي لتعريف تعبير «سوداني». لم تجد وزارة الخارجية البريطانية وجهاً سياسياً للاعتراض على مسودة القانون المنقحة ولكنها لاحظت اعتماد المسودة على مبدأين برهنت التجربة في بلدان عديدة على أنهما غير عمليين وهما التوطن Domicil وغياب إزدواج الجنسية. ومع ذلك فقد شجعت وزارة الخارجية البريطانية حكومة السودان على المضي قدماً في إصدار القانون. لأن صدور قانون ما يعرّف من هو السوداني أهم بكثير من الانتظار بلا نهاية حتى يكون بالوسع صياغة قانون بلا عيوب.

(2) قانون تعريف من هو السوداني لعام 1948
عند صدور قانون تعريف من هو السوداني لعام 1948 تم إسقاط تصنيف الأشخاص كسودانيين ومستوطنيين في السودان. كما أن شرط رابطة الدم أي ان يكون الشخص منتمياً إلى أهالي السودان الأصليين قد تم التخلي عنه ليحل محله شرط وحيد يقوم على طول الإقامة في السودان بالتوطن Domicil. وفي مذكرة تفسيرية أوضح السكرتير القضائي أن التخلي عن شرط رابطة الدم يعود إلي أنه غير دقيق وأن العديد من السودانيين المرموقين لا يمكن وصفهم بأنهم ينتمون إلى أهالي السودان الأصليين Indigenous.
بمقتضى قانون تعريف من هو السوداني لعام 1948 يعتبر الشخص سودانياً كحق إذا لم تكن لديه جنسية أخرى، وكان متوطناً في السودان Domicled منذ 31 ديسمبر 1897 أو أن أسلافه من جهة الأب مباشرة كانوا متوطنين هناك منذ ذلك التاريخ. قصد باختيار هذا التاريخ أن يشمل جميع الأشخاص المقيمين بصفة دائمة قبل إعادة إحتلال السودان، ويستبعد كل الأشخاص الذين جاءوا إلى السودان بعد ذلك التاريخ رغم أنهم يقيمون فيه بصفة دائمة.
وبموجب المادة الرابعة من القانون فإن مركز السوداني يمكن أن يكتسب ليس كحق ولكن كمنحة شبيهة بالتجنس. غير أن هذه المنحة تتوقف على تقدير السكرتير الإداري واستيفاء شروط معينة.
عند مخاطبة مجلس الأمن في عام 1947، إستشهد النقراشي باشا بمحاولة خلق جنسية سودانية كدليل على سياسة حكومة السودان الرامية إلى فصل السودان عن مصر. ورغم أن حكومة السودان حاولت إقناع النقراشي باشا بأن الغرض من إصدار قانون يُعرّف تعبير «سوداني» هو غرض إداري محض، إلا أن النقراشي باشا ظل مصراً على أن القانون المقترح لا ينبغي أن يصدر بدون الموافقة المسبقة للحكومة المصرية. وكان من رأي حكومة السودان أن الحكومة المصرية لا يحق لها أن تتدخل في الأمر لأن القانون المقترح خالٍ من أي أثر دستوري حيث أنه مجرد تشريع إداري ويقع ضمن إختصاص الحاكم العام. لذلك لم يُسع إلى الحصول على الموافقة المسبقة للحكومة المصرية على القانون ولكنها أُبلغت لاحقاً بصدوره.
وخلال المفاوضات الانجليزية - المصرية بشأن الاصلاحات الدستورية في السودان في الفترة 1947-1948، حصلت الحكومة المصرية على موافقة الحكومة البريطانية لإدراج جنسية السودانيين ضمن المسائل المتحفظ عليها والتــي ليــس للجمعيــة التشريعية أي اختصاص تشريعي بشأنها. لذا لم يصدر قانون جنسية إلا بعد استقلال السودان وكان ذلك في عام 1957.  

مقالات مشابهة

  • ياسمين علي تطلق أحدث أعمالها الغنائية بعنوان "حلوة الدنيا"
  • البيتكوين تهبط لأدنى مستوياتها في أربعة أشهر .. التفاصيل
  • الأصول التاريخية للجنسية السودانية
  • رئيس خطة النواب يطالب الحكومة الجديدة بإعادة النظر في منظومة الخبز المدعم
  • عاجل.. حركة حماس تصدر بيانا بشأن عملية الطعن في مستوطنة كرمئيل
  • أولويات عمل «التعليم العالي» الفترة المقبلة.. بينها تطوير منظومة الطلاب الوافدين
  • فصائل المقاومة الفلسطينية تبارك عملية كرمئيل وتعتبرها رد طبيعي على جرائم العدو
  • ‏هيئة البث الإسرائيلية: الإعلان عن مقتل أحد المصابين في عملية الطعن بكرمئيل في الجليل
  • ياسين: يجب أنّ يكون هناك خطة للتعافي
  • استمرار ارتفاع أسعار صرف الدولار