إعداد: طاهر هاني إعلان اقرأ المزيد

أثار لقاء وزيرة خارجية حكومة الوحدة الوطنية الليبية نجلاء المنقوش بنظيرها الإسرائيلي إيلي كوهين الأسبوع الماضي في روما زوبعة سياسية داخلية سارع على إثرها رئيس الحكومة عبد الحميد دبيبة إلى إقالتها.

فور الإعلان عن هذا اللقاء، تظاهر محتجون ليبيون بالعاصمة طرابلس تنديدا بالخبر وأضرموا النار أمام مبنى رئاسة مجلس وزراء حكومة الوحدة الوطنية ورددوا هتافات داعمة للقضية الفلسطينية، ورافضة لأي تواصل ليبي مع الحكومة الإسرائيلية.

مظاهرات مماثلة نظمت في مدينة الزاوية بغرب طرابلس وزليتن بشرقها ومصراتة بشمال غربها.

من ناحيتها، نقلت الخارجية الإسرائيلية عن وزير الخارجية إيلي كوهين قوله إنه "تحدث مع وزيرة الخارجية الليبية عن الإمكانات الكبيرة للعلاقات بين البلدين، فضلا عن أهمية الحفاظ على تراث اليهود الليبيين، بما يشمل تجديد المعابد والمقابر اليهودية في البلاد".

أسئلة كثيرة تطرح: هل كان هذا اللقاء تلقائيا أم مخططا له، فإسرائيل تؤكد أنه تم الاتفاق عليه مسبقا وهو ما تنفيه طرابلس؟ وما هو الدور الذي لعبته روما لتنظيمه وكيف تنظر الولايات المتحدة إلى احتمال وقوع مصالحة بين ليبيا وإسرائيل؟

تجيب عنها روميانا أوغراتشنسكا، وهي أستاذة جامعية متخصصة في الشأن الليبي وصاحبة عدة كتب حول ليبيا على غرار "من أجل بشرة القذافي، حرب سرية وأكاذيب، القصة الأخرى" من دار النشر "فيار 2013".

والتي أكدت لفرانس24 أن اللقاء بين الوزيرين لم يكن مجرد صدفة بل خطط له من قبل روما وبطلب من الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل من أجل أن يتم التطبيع بين إسرائيل وجميع الدول العربية.

فرانس24: قرر رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد دبيبة إقالة وزيرة الخارجية نجلاء المنقوش بعد أن التقت بوزير خارجية إسرائيل بروما. ما هي تداعيات هذا اللقاء وكيف تنظرين إليه؟

روميانا أوغراتشنسكا: تجدر الإشارة إلى أن وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، بلقائها وزير خارجية إسرائيل، قد خرقت قانونا قديما سن في عهد الرئيس الراحل معمر القذافي. هذا القانون يمنع أي اتصال أو لقاء مع مسؤول إسرائيلي.

فبعدما نشرت الحكومة الليبية بيانا أرادت من خلاله إنكار هذا اللقاء أو على الأقل القول بأنه حدث بالصدفة، جاءت معلومات أخرى لا سيما من الجانب الإسرائيلي أكدت وقوعه تحت إشراف إيطاليا. فالطريقة التي تعاملت بها حكومة دبيبة مع الخبر تؤكد وجود توترات وخلافات داخلية حادة بين الحكومة نفسها من جهة وداخل وزارة الخارجية من جهة أخرى.

ما هي نوع هذه الخلافات والتوترات؟

التوترات ظهرت بين المجلس الرئاسي الليبي (وهي هيئة تنفيذية تم تشكيلها بموجب بنود الاتفاق السياسي الليبي التي تم توقيعه في 17 ديسمبر 2015 تحت رعاية الأمم المتحدة بهدف وضع حد للحرب الأهلية) ووزارة الخارجية في بداية تشكيل حكومة دبيبة.

اقرأ أيضاروميانا أوغراتشنسكا: عدم حلحلة الملف الليبي سيؤدي إلى حرب أهلية

والسبب يعود إلى وجود غموض في توزيع الأدوار فيما يتعلق بتسيير السياسة الخارجية الليبية. وكان رئيس المجلس الرئاسي الليبي محمد المنفي سبق وأن طالب بتنحية نجلاء المنقوش من منصبها بحجة أنها تجاوزت الحدود السياسية التي يمنحها لها القانون وكونها أيضا في اعتقادي امرأة غير متحجبة درست في الخارج ولها رؤية انفتاحية على العالم.

02:15

كما أن المنقوش اتخذت في البداية مواقف شجاعة قبل أن تدخل في نهاية المطاف في الصف وتقترب أكثر من دبيبة الذي عينها عدة مرات ممثلة له في قمم ومؤتمرات هامة بالنسبة لليبيا.

أما فيما يتعلق باللقاء الذي جمعها بوزير الخارجية الإسرائيلي، فيجب التوضيح بأنها ذهبت إلى روما برفقة إبراهيم دبيبة ابن أخ رئيس الوزراء ووليد اللافي مسؤول الإعلام في الحكومة الليبية. ونظرا لأهمية هذين الرجلين، فالقول بأن لقاءها مع وزير خارجية إسرائيل كان بالصدفة أمر لا يمكن أن نصدقه.

فحسب المعلومات التي في حوزتي، لقد تم التباحث بشأن هذا اللقاء في الزيارة الأخيرة التي قامت بها المنقوش إلى روما التي اقترحت على ليبيا تطوير علاقاتها مع إسرائيل وذلك تحت الضغط التي مارسته واشنطن على ليبيا.

نحن نعلم بأن هناك ضغط كبير من قبل الولايات المتحدة الأمريكية من أجل إقناع الدول العربية بتطبيع العلاقات مع تل أبيب في إطار اتفاقيات أبراهام. وهذا ما يحدث في الحقيقة مع السعودية وليبيا أيضا.

من جهة أخرى، ورغم إقالة نجلاء المنقوش من منصبها من قبل دبيبة بهدف تهدئة الأوضاع، إلا أن الجميع يعلم بأنه هو الذي أرسلها إلى روما.

أكثر من ذلك، فمسألة تحسين العلاقات بين إسرائيل وليبيا كان موضوع نقاش بين وليام بيرنز رئيس وكالة الاستخبارات الأمريكية ورئيس الحكومة عبد الحميد دبيبة خلال الزيارة التي قام بها المسؤول الأمريكي إلى طرابلس في شهر يناير 2023.

01:25

 

دبيبة وافق على المطلب الأمريكي لكنه طلب من ضيفه منحه بعض الوقت لأسباب تتعلق بالرأي العام الليبي المناهض لإسرائيل.

فاللقاء الذي جمع نجلاء المنقوش مع إيلي كوهين يفترض أنه مرحلة من مراحل المحادثات. لكن السؤال الذي يمكن أن نطرحه هو لماذا كشف وزير الخارجية الإسرائيلي عن محتوى اللقاء، علما بأنه من الممكن أن يؤثر هذا الأمر سلبا على دبيبة.

ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد دبيبة يحاول استغلال هذه الورقة وأوراق أخرى من أجل الحصول على دعم دولي لكي يبقى أكثر في الحكم ولكي يظهر على أنه الرجل الذي لا غنى عنه.

لماذا تحاول إسرائيل منذ عدة سنوات تطبيع علاقاتها مع ليبيا. هل لأسباب اقتصادية أم لغيرها؟

هناك قصة قديمة بين ليبيا واليهود. فهؤلاء كانوا متواجدين في جبل نافوسة وفي المنطقة السريانية قبل وصول العرب والمسلمين.

كانوا يملكون عدة معابد دينية ومتاجر وبقوا في ليبيا رغم المشاكل التي عانوا منها خلال الحقبة الإيطالية. لكن عرفوا ازدهارا كبيرا في العصر العثماني، إذ كانوا يتمتعون بحقوق أكثر وبحماية أكبر. عددهم كان يتراوح ما بين 50 إلى 60 ألف شخص. لكن في العام 1945 تعرضوا إلى مذبحة في طرابلس بالرغم من أن ليبيا كانت تحت سيطرة بريطانيا التي لم تستطيع أن تمنع وقوع هذه المذبحة.

عدد كبير من اليهود فروا إلى إسرائيل وإيطاليا. أما بعض المئات منهم الذين بقيوا فلقد قام معمر القذافي بترحيلهم عندما وصل إلى الحكم في سبتمبر/أيلول 1969. 

كما قام بمصادرة كل ممتلكاتهم وحوّل معابدهم الدينية إلى مساجد. وكان ذلك بمثابة مأساة بالنسبة لليهود. ولا تزال جمعيات يهودية بإسرائيل وإيطاليا تناضل من أجل استرجاع الممتلكات والمعابد. وهذا المطلب القديم تم الحديث عنه في روما الأسبوع الماضي بين نجلاء المنقوش ووزير خارجية إسرائيل إيلي كوهين.

طبعا، يمكن أن نرى وراء كل هذه المطالب رغبة تل أبيب في تطبيع علاقاتها مع جميع الدول العربية بشكل عام وليبيا بشكل خاص.

العلاقات بين إسرائيل وليبيا تدهورت بسبب القضية الفلسطينية ولا يزال الليبيون يعادون بشكل كبير إسرائيل والدليل على ذلك خروج متظاهرين للتنديد باللقاء الذي جمع بين المنقوش وكوهين.

من جهة أخرى، تبحث إسرائيل على أسواق جديدة لها. فلقد تمكنوا من الدخول إلى تشاد ثم مالي حيث تقوم شركات إسرائيلية بتصليح العتاد العسكري للجيش المالي.

نعم إسرائيل طورت علاقات كثيرة مع دول أفريقية. أما في ليبيا، فهناك بعض الناس، ليس كلهم طبعا، مثل أولئك الذين يقطنون في الجبال ولم يتأثروا بإيديولوجية القذافي، لا يعتبرون إسرائيل كعدو لهم بل بالعكس كانوا يعيشون مع التجار اليهود وكانوا يعملون معا خاصة في منطقة الصحراء.

في الحقيقة، الليبيون منقسمون بين رفضهم لإسرائيل بسبب سياستها إزاء الفلسطينيين وبين علاقاتهم القديمة مع اليهود. ضف إلى ذلك العدد الكبير من اليهود الليبيين الذي هاجروا إلى إسرائيل للعيش هناك. هؤلاء الناس سبقوا وأن التقوا بمعمر القذافي في 2006 ولا يزالون يملكون علاقة وطيدة مع هذا البلد ويريدون العودة إليه.

في 2021، قام صدام حفتر، نجل المشير حفتر قائد الجيش الوطني الليبي والذي يدعم حكومة الشرق، بزيارة "سرية" إلى إسرائيل بطلب من والده. هل يمكن أن نستنتج أن شرق ليبيا مع فكرة تطبيع العلاقات مع تل أبيب والغرب الليبي مناهض لذلك؟

لا أعتقد ذلك. فبعض أفراد النخبة سواء كانت في الشرق الليبي الذي يؤثر فيه حفتر أو دبيبة في الغرب لا تنظر إلى فكرة التطبيع مع إسرائيل بشكل إيجابي كونها لا تزال تساند القضية الفلسطينية. والدليل أن حتى المشير حفتر كان محل انتقادات في الشرق الليبي عندما أرسل نجله إلى إسرائيل للقاء بعض المسؤولين هناك.

لكن على مستوى الحكومتين، هناك رغبة خفية في تطبيع العلاقات مع إسرائيل بضغط أمريكي. فكلا الجانبين نظم لقاءات سرية مع مسؤولين إسرائيلين. ووقع ذلك حتى في عهد حكومة السراج.

الفرق الوحيد هو أن سلطات شرق ليبيا لم ترسل مسؤول رسمي إلى تل أبيب ولم تعقد مباحثات رسمية. عكس معسكر دبيبة الذي لم يتمكن من إبقاء المشاورات مع إسرائيل سرية. والسؤال الذي أفكر فيه شخصيا لماذا تحدث وزير الخارجية الإسرائيلي عن المقابلة التي أجراها مع نظيرته الليبية وماذا وراء إفصاحه عن محتوى هذا اللقاء؟

طاهر هاني

المصدر: فرانس24

كلمات دلالية: النيجر ليبيا ريبورتاج الليبية ليبيا إسرائيل التطبيع مع إسرائيل إيطاليا للمزيد وزير الخارجية وزیر الخارجیة الإسرائیلی حکومة الوحدة الوطنیة وزیر خارجیة إسرائیل نجلاء المنقوش إلى إسرائیل مع إسرائیل هذا اللقاء إیلی کوهین إلى روما تل أبیب یمکن أن من جهة من أجل

إقرأ أيضاً:

هذا هو البابا الفقير الذي تكرهه إسرائيل

في السادسة من فجر يوم 21 أبريل/نيسان 2025، صدر البيان من دار الصحافة الفاتيكانية ليعلن وفاة خورخيه ماريو بيرغوليو، الذي يعرفه العالم باسم البابا فرنسيس، بابا الفاتيكان. دقّت أجراس كاتدرائية القديس بطرس، لكن صداها تردد في كل العالم، خاصة في الأرجنتين التي عاش وقاد الكنيسة الكاثوليكية فيها حتى غادرها إلى أوروبا مع توليه بابويته عام 2013.

ومع انتشار نبأ وفاة البابا عن عمر ناهز 88 عاما، احتشد الأرجنتينيون في العاصمة بوينس آيرس لوداع الرجل الذي خدم كنيستهم يوما ما. وفي كاتدرائية المدينة التي كان يرعاها سابقا كرئيس للأساقفة، قال رئيس أساقفة بوينس آيرس، خلال قدّاس التأبين: "لقد توفي والد الجميع، والد البشرية كلها، الذي أصر دائما على أن الكنيسة يجب أن تكون مكانا للجميع.. لقد رحل بابا الفقراء". بهذا اللقب "بابا الفقراء" اشتهر فرنسيس بين البسطاء والمهمشين حول العالم​، فقد اكتسب موقعا استثنائيا كزعيم كنسي ذي رحلة فيها تحولات عميقة وملهمة، لكنه في الوقت ذاته خلّف وراءه إرثا مثقلا بالجدل داخل الكنيسة الكاثوليكية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ماذا تعرف عن عصابة "تران دي أراغوا" التي يهاجمها ترامب بشراسة؟list 2 of 2هل تفعلها إيران وتفكك النووي والصواريخ وشبكة الحلفاء لتفادي الحرب؟end of list

نشأ فرنسيس في أسرة مهاجرة متواضعة من أصول إيطالية عام 1936. عمل والده محاسبا، وكانت جدته روزا ذات تأثير كبير عليه بحكم تديّنها وانخراطها في حركة العمل الكاثوليكي​. عُرف الفتى فرنسيس بخجله وورعه، لكنه أحب أيضا الحياة الصاخبة في شوارع العاصمة. تعلّم لهجة أهلها الشعبية، بل بعض كلمات السباب التي لم يتردد لاحقا -وهو الحبر الأعظم- في استخدامها بطرافة أثناء نقاشاته مع مخالفيه.

إعلان

انضم فرنسيس إلى الرهبنة اليسوعية المعروفة بانضباطها الصارم وأحب نهج الرهبنة التي تُعرف باسم "الجزويت" لأنه يجمع بين التأمل الصوفي والعمل الاجتماعي. لاحقا، سيم فرنسيس كاهنا عام 1969، ولمع نجمه سريعا بين اليسوعيين حتى صار رئيسا للرهبنة اليسوعية في الأرجنتين مطلع السبعينيات.

بابا الفاتيكان مع أحد الحراس (رويترز) الاختبار الأول

بيد أن الشاب فرنسيس واجه امتحانا قاسيا مع دخول بلاده إحدى أحلك فصول تاريخها. ففي عام 1976، وقع انقلاب عسكري يميني بقيادة الجنرال خورخيه فيديلا، معلنا ما عُرف بالحرب القذرة في الأرجنتين. وشرع النظام الجديد في حملة قمع دموية طالت الآلاف من المعارضين، بينهم العديد من الكهنة الكاثوليك المنخرطين في حركة لاهوت التحرير ذات التوجه الاشتراكي.

ووجد فرنسيس نفسه آنذاك في مفترق طرق خطير: هل يتصدى للديكتاتورية دفاعا عن كهنة اختاروا الانحياز للفقراء، مخاطرا بصدام مع السلطة قد يكلفه منصبه أو أكثر؟ أم يلتزم الصمت والحذر، مسايرا موقف الفاتيكان الرسمي المناهض للاهوت التحرير الذي يتهمه بتبني أفكار ماركسية؟​

ككل مراحل حياة فرنسيس، كان يحاول دوما أن يكون في الوسط. اختار فرنسيس حينها منهجا تمثل في محاولة المساعدة الفردية دون الاشتباك السياسي. فقال الرجل وقال شهود إنه حاول مد يد العون سرا لبعض المطارَدين، وقام بتهريب أو إخفاء عدد منهم في مباني اليسوعيين. لكنه في المقابل، وبحكم موقعه الديني الرسمي، حافظ على قنوات حوار عميقة مع السلطة العسكرية.

وأثار موقفه هذا استياء كثيرين من الكهنة التقدميين الذين لُقّبوا آنذاك بالرهبان الحمر، ورأوا فيه تواطؤا مع الطغاة​. وبالفعل وُجّهت إليه انتقادات شديدة لعدم اتخاذه موقفا أكثر حزما ضد الحكم العسكري والاكتفاء بمسايرة نهج الكنيسة الحذر​ أو حتى المؤيد للديكتاتورية. ووصلت التهم إلى حد نشر صحيفة أرجنتينية وثائق تزعم تورط فرنسيس في اعتقال وتعذيب اثنين من الكهنة اليسوعيين المعارضين عام 1976​. ورغم نفيه القاطع لأي تواطؤ​، لم يشفع له ذلك، فعُزل من رئاسة اليسوعيين في الأرجنتين عام 1979 قبل انتهاء ولايته.

إعلان

وبعد زوال الديكتاتورية، سعى فرنسيس إلى تصفية الأحقاد المريرة لتلك الحقبة. ففي عام 2000، عندما أصبح رئيسا لأساقفة بوينس آيرس، التقى بعض رفاقه القدامى من الكهنة اليساريين وتصالح معهم حول ذلك الماضي المربك​. وفي حوار لاحق اعترف بأن أسلوب إدارته حينها شابه العديد من الأخطاء "فقد كنت في الـ36، وكنت مندفعا وسلطويا، لكني لم أكن يمينيا، غير أن أسلوبي المتسلط تسبب في أزمات عديدة".

وهذا الندم الضمني ترافق مع تحول ملموس في نهجه الفكري، إذ بدأ فرنسيس يدرك إمكانية التصالح مع الأفكار التي كان يعارضها في شبابه. ومع مرور السنوات، تزايد ميله إلى قضايا العدالة الاجتماعية وانحيازه للفقراء، مبتعدا عن ظلال الحقبة الفاشية. وعندما اختاره الكرادلة بابا للفاتيكان في 13 مارس/آذار 2013، كان واضحا أنه بات رجلا مختلفا عن ذلك اليسوعي المحافظ أيام الحرب القذرة.

وورث فرنسيس كرسيا رسوليا مثقلا: كنيسة تتعرض للهجوم بسبب فضائح الاعتداء الجنسي على الأطفال، وممزقة بصراعات داخلية بين الإصلاحيين والمحافظين. إلا أن ليلة انتخابه لم تكد تمضي حتى لاحقته أشباح الماضي: ففي بوينس آيرس، ظهر على جدار كاتدرائية العاصمة رسمٌ جداري كبير كُتب عليه بالخط العريض: "البابا صديق فيديلا- ديكتاتور الأرجنتين". لقد ذكّرته بلاده فورا بأن وراءه تاريخا جدليا في أفضل الأحوال.

دعوة للسلام من غير إغضاب المعتدين

منذ لحظة اعتلائه سدة البابوية، رسم فرنسيس لنفسه صورة البابا القريب من معاناة الشعوب، الساعي إلى السلام في عالم تمزقه الحروب. ففي مايو/أيار 2014، قام البابا بزيارة إلى الأراضي المقدسة. وفي مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، خرج عن البروتوكول بشكل مفاجئ حين ترجّل من سيارته أمام جدار الفصل العنصري الذي شيّدته إسرائيل، مقتربا من الخرسانة الباردة التي تفصل بين بيت لحم والقدس، ووضع يده عليها بخشوع. هناك تلا صلاة صامتة دامعة لعدة دقائق.

إعلان

وصف فرنسيس جدار الفصل العنصري بأنه "جدار الألم". لم يلق البابا باللوم على المحتل الإسرائيلي بشكل مباشر، وإن كان قد تحدّى بهذا المشهد السلطات في تل أبيب، والتي حاولت تخطيط الزيارة بحيث لا يقترب من الجدار.

دعم البابا حل الدولتين، مؤكدا مرارا أنه لا بديل عن تسوية النزاع عبر إقامة دولة فلسطينية إلى جانب إسرائيل. وفي لقاءاته المتكررة مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، دعا فرنسيس إلى وقف الاستيطان، ووصف الحصار الإسرائيلي على غزة بأنه "مشين". وفي عام 2015 اعترف دبلوماسيا بدولة فلسطين.

ومع اندلاع حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، قام البابا بدور أغضب الإسرائيليين إلى حد بعيد. فمنذ وقت مبكر، بدأ في إجراء اتصالات مكثفة للاطلاع على الأوضاع الميدانية​ بشكل يومي. وتوسعت محاولاته للتهدئة فهاتف الرئيس الأميركي جو بايدن طالبا التدخل، ثم تواصل مرارا مع رؤساء الكنيسة الكاثوليكية في فلسطين، مثل الكاردينال بيتسابالا بطريرك القدس​، وكان يتواصل بشكل يومي مع رعية الكنيسة في غزة.

ولم ترق مواقف البابا هذه للجانب الإسرائيلي. ففي إحدى خطبه الأخيرة قبل وفاته، وصف فرنسيس ما يحدث في غزة بأنه "إبادة جماعية" ينبغي أن تخضع للتحقيق والمساءلة. لذلك، ما إن أُعلن عن رحيله حتى ارتبك الإسرائيليون ووقعت حادثة دبلوماسية غريبة: فقد حذفت وزارة الخارجية الإسرائيلية بيان النعي الرسمي الذي نشرته في وفاته، ووجّهت سفراءها بإزالة أي تعازٍ له من حساباتهم. ونقل إعلاميون إسرائيليون أن السبب المباشر هو موقف البابا من حرب غزة، رغم علم الإسرائيليين لحساسية ذلك لملايين الكاثوليك في العالم.

وعُرف عن البابا فرنسيس أيضا أنه عارض بشدة التدخل العسكري الغربي في سوريا عام 2013، ونظّم أيام صلاة من أجل السلام في سوريا. وفي العراق، كان فرنسيس أول زعيم للكنيسة الكاثوليكية يزور البلاد عام 2021 بعد سنوات الاحتلال والحرب. هناك أيضا التقى آية الله العظمى علي السيستاني في النجف في لقاء فريد من نوعه.

إعلان حوار الأديان برعاية بابوية

بخلاف سلفه بنديكت الـ16 الذي عُرف بمواقفه الجدلية تجاه الإسلام -إلى حد إلقائه محاضرة اعتُبرت مسيئة للنبي محمد عام 2006​- اتخذ فرنسيس نهجا مغايرا تماما، واضعا نصب عينيه رأب الصدع.

فقد بادر فورا إلى استئناف الحوار مع الأزهر الشريف في مصر، والذي كان قد جُمّد إثر تصريحات بنديكت. وفي مارس/آذار 2013، في الشهر نفسه الذي تولى فيه منصبه، بعث برسالة ودية إلى شيخ الأزهر أحمد الطيب. وبحلول عام 2016، شهد الفاتيكان احتفاء كبيرا باستقبال الإمام الأكبر في روما. ثم ردّ البابا الزيارة في 2017 متوجها إلى القاهرة لحضور مؤتمر للتسامح نظمه الأزهر.

وفي عام 2019، زار فرنسيس الإمارات لحضور مؤتمر "الأخوة الإنسانية" في أبو ظبي. هناك، وإلى جانب شيخ الأزهر، وقّع البابا "وثيقة الأخوّة الإنسانية". وشددت الوثيقة على قيم السلام والحوار والمواطنة، ورفضت بوضوح التطرف والعنف باسم الدين.

وكانت الوثيقة حدثا، إذ لم يسبق لرأس الكنيسة الكاثوليكية أن صاغ إعلانا مشتركا بهذا المستوى مع قامة إسلامية عليا. لذلك لم يكن مستغربا أن يشيد شيخ الأزهر أحمد الطيب بفرنسيس عند وفاته بدوره في تعزيز الحوار الإسلامي المسيحي، واصفا إيّاه بالأخ والصديق.

على الجانب الآخر، اهتم فرنسيس باللاجئين والمهاجرين هربا من الحروب والبؤس الذي غالبا ما تسببت فيه القوى الكبرى. فبدأ منذ عام 2013، زيارة مراكز إيواء اللاجئين في جزيرة لامبيدوزا بإيطاليا، وانتقد لامبالاة أوروبا وحذر من تحول البحر المتوسط إلى مقبرة كبرى.

واحتفى العالم بالرجل حين اصطحب معه على متن طائرته عند عودته من زيارة إلى اليونان عام 2016 ثلاث عائلات سورية مسلمة لاجئة ليعيد توطينها في روما​. أيضا، هاجم فرنسيس دعاة التفوق الأبيض وحمل على عاتقه مهمة مناهضة العنصرية. ففي أعقاب مقتل المواطن الأميركي الأسود جورج فلويد 2020 على يد الشرطة، ندّد بـ"خطيئة العنصرية" ودعا للراحل وطالب بتحقيق العدل والمساواة.

(الجزيرة) البابا يحب المساكين

لم يكن لقب "بابا الفقراء" الذي أطلق على فرنسيس مجرد تسمية إعلامية، بل كان ترجمة لنهجه. فالبابا القادم من أحياء بوينس آيرس المتواضعة حمل هموم الفقراء بالفعل إلى أروقة الفاتيكان الفخمة، وسعى لتجريد الكنيسة من مظاهر البذخ والسلطة.

إعلان

فضّل فرنسيس الإقامة في بيت ضيافة متواضع داخل الفاتيكان على السكن في القصر الرسولي الفخم، في سابقة لم يعهدها الفاتيكان من قبل. وفي عظته الأولى بعد انتخابه، صرّح تصريحه الشهير: "أريد كنيسة فقيرة.. للفقراء".

ولم يكن هذا مجرد شعار فارغ، فالرجل الذي كان يطهو طعامه بنفسه حين كان كاردينالا، واعتاد التنقل بوسائل عامة في بوينس آيرس، حرص بعد تتويجه بابا على أن تستمر ملامح التواضع تلك، فأصبح يُشاهَد وهو يغسل أقدام السجناء والمهاجرين، وطارت صورته في الآفاق حين انحنى مقبّلا قدم لاجئ مسلم في أحد مخيمات اللاجئين عام 2016.

فكريا، خاض فرنسيس معركة شرسة ضد ما سماه "ثقافة الإقصاء" في الاقتصاد العالمي منتقدا استئثار أقلية ضئيلة بالثروة والموارد. وفي رسالة أصدرها عام 2013 هاجم بشدة عقيدة السوق المنفلتة، قائلا إن "هذه الاقتصاديات تقتل" حين تجعل الفقراء على الهامش وتعبد المال. لقد اعتبر البابا أن النظام الاقتصادي الحالي القائم على الجشع وإقصاء الضعفاء هو خطيئة بنيوية ينبغي التكفير عنها بإصلاحات جذرية.

وفي عهده، استضاف الفاتيكان مؤتمرا دوليا بعنوان "اقتصاد فرنسيس" لجمع رواد الأعمال الشباب وعلماء الاقتصاد لابتكار نماذج اقتصادية عادلة. كما أيّد بقوة الحملات العالمية لتخفيف ديون الدول الفقيرة، وانتقد المؤسسات المالية الدولية حين تفرض إجراءات تقشف قاسية تزيد معاناة الشعوب. وفي إحدى المناسبات وبّخ المجتمع الدولي متسائلا: "كيف لا يكون موت إنسان جائع خبرا، بينما يهتز العالم لهبوط البورصة بضع نقاط؟".

المفارقة أن البابا استعار العديد من هذه الأفكار من تراث لاهوت التحرير الذي كانت الكنيسة قد خاصمته زمنا، وكان البابا أحد أهم الأصوات الرافضة له باعتباره "أيديولوجيا" يرفضها كما يرفض كل الأيديولوجيات. وصار البابا بعد توليه منصبه يندد بالرأسمالية المتوحشة مؤكدا أنها ليست اقتصادا إنسانيا، كما رفض بشدة النزعة اليمينية الشعبوية التي تعادي المهاجرين والفقراء، ورأى فيها خيانة للقيم المسيحية الحقة.

إعلان الجدل بدأ قبل بابويته وسيستمر بعد وفاته

على الرغم من شعبية فرنسيس عالميا، فإن سياسته الإصلاحية أثارت انقساما حادا في الكنيسة الكاثوليكية بين جناح تقدمي مؤيد له وجناح محافظ يراه هادما للأصول التي بُنيت عليها الكنيسة.

فمنذ بدايات حبريته، رحّب بعض الكاثوليك بنبرة فرنسيس تجاه قضايا شائكة. فعلى سبيل المثال، فاجأ البابا منتقدي الكنيسة وأتباعها على حد سواء خلال مقابلة صحفية في يوليو/تموز 2013 حين سُئل عن نظرته إلى المثليين جنسيا، فأجاب بكلمات السيد المسيح: "من أنا حتى أدينهم؟" قوبلت عبارته بإعجاب كبير في الأوساط الليبرالية وحتى خارج الكنيسة، لكنها في المقابل أثارت قلق المحافظين الذين اعتبروها تساهلا غير مقبول مع خطيئة مهلكة.

وسرعان ما تراكمت الانتقادات من داخل الفاتيكان ضد نهج فرنسيس. فقد رأى التيار التقليدي فيه تهديدا لتراث كنسي عمره قرون. وفي عام 2014، عندما دعا فرنسيس إلى عقد مجمع في الفاتيكان لبحث قضايا الأسرة، بما في ذلك مسألة الطلاق والزواج الثاني، ارتفعت أصوات كرادلة نافذين محذرة من أي تغيير يمس تعاليم الكاثوليكية وأسرار الكنيسة. وبعد إصدار البابا لوثيقة فسّرت بفتح بعض الباب أمام طقس المناولة للمطلقين والمتزوجين مدنيا، قام 4 كرادلة محافظين بتوجيه ما عُرف بـ"رسالة الشكوك" يحذرونه من “الانحراف” عن العقيدة. ورغم أن البابا تجاهل الرد على تلك الرسالة علنا، لكن كشف إرسالها عن عمق المعارضة داخل المؤسسة البابوية.

وقد أثار فرنسيس امتعاض رموز التيارات القومية الشعبوية الغربية بدعوته أوروبا لاستقبال اللاجئين ورفضه خطاب كراهية الأجانب الذي أحيانا ما يتبنى سرديات دينية. حتى إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب دخل في سجال كلامي معه في ولايته الأولى عام 2016، بعدما صرّح فرنسيس أن من يفكر فقط في بناء الجدران لا الجسور "ليس مسيحيا خالصا" في إشارة إلى مشروع الجدار الذي أراد ترامب بناءه على الحدود الأميركية مع المكسيك.

إعلان

ولم تأت الانتقادات من اليمين الديني فقط، بل كذلك من التيار الليبرالي، ولكن لأسباب مغايرة. فنشطاء تحرير المرأة داخل الكنيسة أخذوا على فرنسيس استمرار حرمان النساء من سرّ الكهنوت، إذ جدد التأكيد على منع سيامة المرأة قسا، متمسكا بالتقليد الكاثوليكي بهذا الشأن. وقد صرّحت منظمات كاثوليكية نسائية أن البابا "رجل تقدمي في كل شيء إلا حين يتعلق الأمر بالمرأة".

أيضا، تعرض فرنسيس لانتقادات بسبب بطء التحرك ضد المتورطين في قضايا اعتداءات جنسية داخل الكنيسة. فقد رأى منتقدوه أن تحركاته ضد التحرش الجنسي داخل الكنيسة كانت محدودة وغير فعالة. واستشهدوا بحوادث تأخر فيها البابا في معاقبة مسؤولين اتهموا بالاعتداء أو بالتستر على المعتدين، كما حدث في تشيلي 2018 حين دافع بداية عن أسقف متهم قبل أن يعدل عن موقفه تحت ضغط الغضب الشعبي ويقبل استقالته.

ورغم ذلك، استطاع فرنسيس الحفاظ على وحدة الكنيسة الكاثوليكية في حدها الأدنى.

وبعد 12 سنة تقريبا على كرسي القديس بطرس، رحل البابا فرنسيس تاركا وراءه كنيسة مختلفة عما كانت عليه يوم استلمها. لقد خلّف إرثا من التوتر داخل المؤسسة الكنسية​ لكنه أيضا خلّف إرثا من الحيوية والصدق. لقد غيّر فرنسيس صورة البابا في أعين العالم: من أمير متوج في الفاتيكان إلى شخص متواضع يجول بين الناس، يلعب معهم كرة القدم، ويرقص معهم التانغو.

ومع ذلك، فإن مستقبل الإرث الذي خلّفه يظل غامضا. فالتحديات التي واجهها فرنسيس -من إصلاح الكنيسة، والاشتباك مع انعدام المساواة والتطرف والعنصرية، إلى معالجة فضائح الكنيسة الماضية وتحقيق المصالحة الداخلية بين أطرافها- ستبقى حاضرة في المستقبل القريب للفاتيكان.

مقالات مشابهة

  • ديكود39: 3 مكاسب إستراتيجية ستحققها روما من عودة واشنطن للانخراط في ليبيا
  • ماتيو زوبي كاهن الحزب الاشتراكي الذي يرأس مجلس أساقفة إيطاليا
  • وزير الخارجية الإيراني: محاولات إسرائيل لحرف مسار الدبلوماسية باتت واضحة تمامًا للعيان
  • وزير الخارجية اليمني يدعو إلى مواصلة التحرك العربي ضد العدوان الإسرائيلي
  • هذا هو البابا الفقير الذي تكرهه إسرائيل
  • أبو الغيط يستقبل وزير الخارجية المكلف بدولة ليبيا
  • الاحتلال الإسرائيلي يستهدف مدرسة يافا التي تؤوي نازحين بحي التفاح
  • روما بدل الرياض.. تغيير في جدول زيارات ترامب الخارجية بسبب جنازة البابا فرنسيس
  • عاجل| وزير الخارجية: اتصالاتنا مستمرة مع كل الأطراف لوقف انتهاك إسرائيل لسيادة الدول العربية
  • وزير الخارجية: نطالب إسرائيل بالانسحاب الكامل من الأراضي اللبنانية