منطقة الحصن ببَهلا.. وسياحة المستقبل
تاريخ النشر: 28th, August 2023 GMT
الحديث عن السياحة في سلطنة عمان ليس أمرًا جديدًا، ولا الفعل السياحي غريبًا عنها، وقد أحرزت الدولة الكثير من المنجزات السياحية خلال 53 سنة الماضية، والعديد من مشاريع البُنية الأساسية التي تخدم السياحة منجزة، ومن أهمها الطرق التي تربط مناطق السلطنة، والحصون والمباني التراثية التي رُمِمَت، والمواقع الآثارية المُنقَب عنها، وتأهيل كثير من الأماكن لاستقبال السائح؛ من داخل عمان وخارجها.
للتفاعل مع هذه المرحلة؛ والاستفادة منها بأفضل ما يمكن.. يقترح المقال تطوير «منطقة الحصن» ببَهلا، وهذا ليس اسمها، وإنما توصيف لمكان يحتل قلب المدينة العريقة التي يطوقها السور الشهير، وتتضمخ بعبق جامعها العتيق، وتشمخ بحصنها المهيب، وتسكنها أساطير الأولين، وتحيي الأفلاج بساتينها الخضراء. فهي مدينة مكتملة منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، ذات نظام سياسي قائم بنفسه «مدينة الدولة»، والحياة الحضارية فيها لم تنقطع منذ تلك الآماد. ويكفي ما وصلنا من تاريخ العهد الإسلامي المجيد، وما أثّله فيه أعلامها، وما شهد من نشوء مدارس فكرية وحلقات فقهية. بالإضافة إلى اعتبار بَهلا -بحسب الروايات الكلاسيكية- منطلق التاريخ السياسي لعمان؛ بما يروى من أحداث وقعت بين العرب والفرس فيما عرف بـ«يوم سلوت»، ومع أن تلك الأحداث تحوطها الأسطرة، إلا أنها توفر مادة مهمة للدعاية السياحية، فيما لو أحسن الاستفادة منها.
في قلب مدينة بَهلا.. يقع الحصن، وفي زاويته الجنوبية الشرقية تقف القلعة شامخة. وعلى نفس الجهة؛ المقابلة للقلعة ينتصب الجامع العتيق كصوفي منصبّ في تبتله لله، وقد عثر المنقبون تحت أرضه على ما يدل أنه معبد قديم. وتتمتع الولاية؛ بالعديد من المشاهد التي تستقطب السائح كالمواقع الأثرية والرسمات الصخرية. والكتابات القديمة المدونة على صخور الجبال المحيطة ببَهلا، والتي تنتمي إلى خط المسند، والقبور البرجية؛ بمراحلها الثلاث: فوق الجبال، وعلى سطح الأرض، وفي باطنها. والأسماء الموغلة في القدم، التي ما زالت مستعملة، كاسم المدينة «بَهلا»، واسم حارة «ني صلت».. الذي يعني بيت الصلاة، واسم «سكة كدم»؛ وكدم.. يعني الطائر الذي يرفع الأرواح والأعمال، و«كيد».. الأرض المطمورة. بالإضافة إلى قلعة جبرين؛ أعجوبة الزمن اليعربي، وموقع سلوت الأزلي. كل هذا ينبغي أن يستغل في بناء مشروع سياحي.. يبدأ في الحاضر، وينطلق نحو المستقبل.
«منطقة الحصن».. يشقها الطريق العام؛ كل جانب يأسرك؛ حضارةً وجمالًا. تبدأ من مقبرة مساجد العُبّاد؛ التي تبعد شمالًا عن الحصن بحوالي نصف كيلومتر، ويمكن أن تهيأ مزارًا للسياحة الدينية، [انظر: مقالي «مقبرة مساجد العُبَّاد ببَهلا.. أنثروبولوجيًا»، جريدة «عمان»، 21/ 3/ 2021م]، والمقبرة.. يمر بجانبها السور، الذي يرمم الآن، وأرجو أن يمتد ترميمه ليشمل «منطقة الحصن». في وسط المنطقة وعلى يسار الطريق؛ وأنت متجه نحو الجنوب، يقع الحصن والجامع العتيق، وهما من الشهرة ما يغني الحديث عنهما هنا. وحارة الغزيلي.. وفي مسجدها افتتح أول معهد إسلامي حديث ببَهلا. وحارة العقر.. المعروفة بأُسَرها العلمية ومكتباتها، وبها مسجد المعدّ؛ الذي أقيمت فيه صلاة الجمعة لأول مرة في زماننا، بعد أن تبنت الدولة الرأي الفقهي بتعدد إقامتها. وبالمنطقة أيضًا: المستشفى ومكتب البريد، اللذان أصبحا من معالم الولاية.
وعلى يمين الطريق العام يقع السوق القديم، وقد رُمِّم جانب منه، وبدأ التجار يفتحون فيه محلاتهم. وجامع السوق.. الذي أعيد بناؤه بمواصفات فخمة تتناسب مع عراقة البلاد. ثم يصلك الطريق بالسور مرة أخرى. فجسر الوادي.. وهو من أوائل الجسور الكبيرة التي أقيمت في شبكة الطرق الحديثة بعمان، في سبعينات القرن الميلادي المنصرم. بعد الجسر على جهة اليسار يأتي مركز الندوة الثقافي، الذي تطور عن مكتبة الندوة العريقة، التي افتتحت رسميًا عام 1996م، وهي المكتبة الأهلية الأولى بعمان. وبجوارها مسجد عائشة؛ من أوائل المساجد الحديثة التي أقيمت ببَهلا، وبقربهما في حي المستغفر موقع مصلى العيد القديم. ثم بوابة بَهلا التي بنيت أواخر عهد السلطان قابوس بن سعيد (ت:2020م) -طيّب الله ثراه- التي يراد لها أن تكون ملمحًا حضاريًا فخمًا للولاية. بالإضافة إلى كل هذا المشهد الثري؛ فإن المنطقة تكتسي ببساتين النخيل، ويرويها فلجان: المحدث والميتا.
إن تحويل «منطقة الحصن» إلى استثمار سياحي حان وقته، فهي تجمع من التنوع الحضاري ما يعزُّ نظيره. وكانت من أهم أسباب ضم مدينة بَهلا إلى قائمة التراث العالمي باليونسكو عام 1987م. وهذا الاعتراف الدولي هو أول القواعد التي ينبغي أن يشاد عليها صرح السياحة ببَهلا، فاستغلاله مكسب لا ينبغي التفريط فيه، لعمقه الحضاري والسياسي. وقد بذلت الدولة كثيرا لترميم الحصن والجامع العتيق، مدةً استغرقت 20 عامًا. وبذلك؛ أصبحت المنطقة مؤهلة لتكون من أهم مناطق الجذب السياحي، ولا يكفي تطويرها جزئيًا، بل ينبغي رسم استراتيجية شاملة لنقلها نقلة نوعية، بمعنى؛ تبني مشروع وطني ينهض بها.
لا يمكنني هنا وضع تصور كامل للمشروع، فهذا فوق حجم المقال، ولكن أضع بعض المؤشرات له:
- تشكيل لجنة وطنية تضم: خبراء في بناء المشاريع السياحية القائمة على البُعدين الحضاري والتاريخي، ومختصين في التاريخ العماني؛ لاسيما تاريخ بَهلا، ومهندسين مدنيين وعمرانيين، ورجال أعمال، ومهندسي تقنية المعلومات، يعملون على دراسة المشروع، ووضع مخطط له يرنو إلى المستقبل.
- تطوير الطريق العام، وتحويله إلى شارع تجاري، يضم المقاهي الثقافية والمطاعم الاجتماعية، وأسواق الهدايا، وسينما للأفلام العلمية والوثائقية، خاصةً.. التي ينتجها العمانيون، أو تحكي قصة عمان وثقافتها، مبرزة دور أعلام بَهلا في المسيرة الدينية والحضارية والسياسية.
- عمل ممرات زجاجية مغلقة ومكيفة، درجة حرارتها حوالي 25مْ، تربط بين أهم المعالم: المستشفى والبريد ومسجد الغزيلي والحصن والجامع العتيق والسوق وجامع السوق وحارتي العقر والحوية. مع توفير تقنية عرض رقمية محمولة، بلغات مختلفة، تعطي نبذة عن هذه المعالم.
- استغلال بساتين المنطقة بتحويلها إلى متنزهات واستراحات خضراء، دون المساس بالنخيل، بإسناد مشاريعها إلى أصحاب المنطقة ومالكي البساتين، مع وضع الضوابط للحفاظ عليها.
- إقامة مهرجان ثقافي ترفيهي شتوي سنويًا، يبرز الحضارة العمانية، بالعروض السينمائية والفلكلور الوطني، وعقد الندوات والمؤتمرات الدولية التي تستقطب كبار المفكرين والعلماء على المستويين العربي والعالمي، وعقد ملتقى دولي لعلماء الحضارات والآثار.
- استعمال التقنية الرقمية في تطوير هذه المشاريع، وعمل برامج إلكترونية تركز على الإبهار والجذب السياحي وتقديم المعلومات الحضارية والتاريخية.
- ترويج إعلامي على مستوى العالم، وتقديم تسهيلات في تذاكر السفر والإقامة بالسلطنة، بل إقامة صناعة كاملة للاستقطاب السياحي، عبر مكاتب يديرها الشباب العماني.
في حال تبني الدولة هذا المشروع الوطني، وتطويره باستمرار، بما يبرز موقع بَهلا على خارطة الحضارة الإنسانية، وهذا ما نرجوه، فإنه سيشكل مركز جذب لعمان كلها، كما أنه سيعرّف بالثقافة العمانية، ويوفر فرص عمل كثيرة، بالإضافة إلى كونه مصدر دخل لميزانية الدولة واستثمارا للشركات العاملة. أرجو أن ينظر المسؤولون عن الثقافة والسياحة بالسلطنة إلى المشروع بعين مبصرة للمتغيرات التي يشهدها العالم، وأن يعملوا بيد لا تكل ونفس لا تمل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: بالإضافة إلى
إقرأ أيضاً:
كسر في أرضية معبد جبل النور .. آثار بني سويف توضح الحقيقة
أكدت منطقة آثار بني سويف أنه لا صحة لما تم تداوله بشأن تعرض معبد جبل النور لأي أعمال تعدٍ، موضحة أن اللجنة المختصة التي كُلفت بمعاينة الموقع كشفت أن الكسر المحدود الذي تم رصده في قاعدة أرضية المعبد ناتج عن هبوط طفيف بسبب تأثير المياه الجوفية، نظرًا لقرب المعبد من الأراضي الزراعية.
وأوضح الدكتور محمد إبراهيم، مدير عام منطقة آثار بني سويف، أن معبد جبل النور يُعد من البقايا الأثرية التي تعرضت عبر العصور لاستخدامات متعددة، مما أدى إلى فقدانه بعض مكوناته الأصلية، مشيرًا إلى أن المنطقة تتخذ كافة الإجراءات الوقائية لضمان حماية الموقع من أي تأثيرات بيئية قد تؤثر على حالته الإنشائية.
وأضاف أن اللجنة التي تم تكليفها بالمعاينة ضمت عددًا من الأثريين والمتخصصين في أعمال الترميم، حيث تبين أن الكسر المكتشف لا يمثل تهديدًا على سلامة المعبد، لكنه يخضع للمراقبة الدورية ضمن خطط الحماية التي تعتمدها المنطقة للحفاظ على المواقع الأثرية.
وأكد "إبراهيم" أن جميع المواقع الأثرية المفتوحة، ومن بينها معبد جبل النور، تخضع لإشراف مستمر من قبل لجان التفتيش الأثري، والتي تقوم برصد أي متغيرات قد تطرأ عليها، مشددًا على أنه يتم اتخاذ الإجراءات الفورية عند ملاحظة أي تأثيرات سلبية، سواء كانت بيئية أو إنشائية.
وأشار إلى أن منطقة آثار بني سويف تعمل على التنسيق الدائم مع الجهات المعنية لضمان الحفاظ على المواقع الأثرية، موضحًا أن هناك خططًا دورية لأعمال الصيانة والترميم وفقًا لأولويات كل موقع أثري، مع الالتزام بتطبيق معايير الحفاظ الدولية.
كما ناشد مدير عام المنطقة المهتمين بالشأن الأثري ووسائل الإعلام تحري الدقة قبل نشر أي أخبار تتعلق بالمواقع الأثرية، مؤكدًا أن المنطقة تتبنى سياسة الشفافية في التعامل مع أي مستجدات تخص الآثار، وأنها على استعداد دائم لتوضيح الحقائق والرد على أي استفسارات تتعلق بالمواقع الأثرية ببني سويف.