هل العلم الذي حث الشرع على تحصيله الديني أم الدنيوي؟ دار الإفتاء تجيب
تاريخ النشر: 28th, August 2023 GMT
ورد إلى دار الإفتاء المصرية، سؤال يقول "نرجو منكم بيان فضل العلم؟ وهل العلوم التي يحث الشرع على تحصيلها هي العلوم الدينية أو أنها تشمل العلوم الدنيوية النافعة أيضًا؟
وقالت دار الإفتاء في إجابتها على السؤال، إن الإسلام قد حثَّ على طلب العلم ورغَّب فيه؛ فقال تعالى: ﴿يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ﴾ [المجادلة: 11].
هل يجب أن تعلم المرأة بالطلاق الأول ليقع الثاني؟.. رد علي جمعة مفاجأة «احجز فتوتك».. تفاصيل إطلاق خدمة الحصول على الفتاوى والآراء الشرعية
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (29/ 494، ط. دار إحياء التراث العربي): [ثم في المراد من هذه الرفعة قولان:.. والثاني: وهو القول المشهور: المراد منه الرفعة في درجات الثواب، ومراتب الرضوان] اهـ.
وذكرت دار الإفتاء، أنه لم يطلب الله عزَّ وجلَّ من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم طلب المزيد من شيءٍ إلا من العلم؛ فقال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114].
قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب" (2/ 407): [فيه أدلُّ دليل على نفاسة العلم وعلو مرتبته وفرط محبة الله تعالى إيَّاه؛ حيث أمر نبيه بالازدياد منه خاصَّة دون غيره] اهـ.
وعَنْ أَبِي أُمَامَةَ البَاهِلِيِّ رضي الله عنه، قَالَ: ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا عَابِدٌ وَالآخَرُ عَالِمٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «فَضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ» أخرجه الإمام الترمذي في "جامعه".
قال الإمام المناوي في "التيسير بشرح الجامع الصغير" (2/ 170، ط. مكتبة الإمام الشافعي): [أي: نسبة شرف العالم إلى شرف العابد كنسبة شرف الرسول إلى أدنى شرف الصحابة] اهـ.
تجدر الإشارة إلى أنَّ الفضل الوارد في طلب العلم لا يقتصر على العلوم الدينية، بل يشمل العلوم الكونية وغيرها أيضًا، فعندما وصف الله تعالى في كتابه العلماء بأنهم هُم أهل خشيته مِن خَلْقِه جاء ذلك في سياق الكلام على دورة الحياة في الطبيعة، وتنوع ألوان الثمار (علم النبات)، واختلاف أشكال الجبال (علم الجيولوجيا)، ومظاهر اختلاف الكائنات الحية (التنوع البيولوجي)، وكلها من العلوم الدنيوية؛ قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر: 27-28].
العلم هو السبيل الصحيح لرقي الأمم وتقدمها، ودراسة العلوم الدنيوية لا تنافي دراسة العلوم الشرعية، بل يكمل كلٌّ منهما الآخرَ ولا استغناء للمسلم عن أحدهما، وهذا واضحٌ في دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث كان يقول: «اللهُمَّ أَصْلِحْ لِي دِينِي الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِي، وَأَصْلِحْ لِي دُنْيَايَ الَّتِي فِيهَا مَعَاشِي، وَأَصْلِحْ لِي آخِرَتِي الَّتِي فِيهَا مَعَادِي، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لِي فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ» أخرجه الإمام مسلم.
قال الإمام الغزالي في "إحياء علوم الدين" (1/ 16، ط. دار المعرفة): [اعلم أنَّ الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الغرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى: شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية: ما استُفيد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ولا يرشد العقل إليه؛ مثل: الحساب، ولا التجربة؛ مثل: الطب، ولا السماع؛ مثل: اللغة، فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود، وإلى ما هو مذموم، وإلى ما هو مباح، فالمحمود: ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا؛ كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية، وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة؛ أما فرض الكفاية: فهو علمٌ لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا؛ كالطب؛ إذ هو ضروريٌّ في حاجة بقاء الأبدان، وكالحساب؛ فإنه ضروريٌّ في المعاملات وقسمة الوصايا والمواريث وغيرهما، وهذه هي العلوم التي لو خَلَا البلدُ عمَّن يقوم بها حَرِجَ أهل البلد، وإذا قام بها واحدٌ كفى وسقط الفرض عن الآخرين، فلا يتعجب من قولنا: إنَّ الطب والحساب من فروض الكفايات؛ فإن أصول الصناعات أيضًا من فروض الكفايات؛ كالفلاحة والحياكة والسياسة، بل الحجامة والخياطة؛ فإنه لو خَلَا البلدُ من الحَجَّام تَسَارَعَ الهلاكُ إليهم وحرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك] اهـ. وقوله: "حَرِجَ أهل البلد" يعني: دخل عليهم الحرج والمشقة.
وقال الإمام العز بن عبد السلام في "قواعد الأحكام" (1/ 6، ط. مكتبة الكليات الأزهرية): [فإن الطب كالشرع؛ وُضِعَ لِجَلْبِ مصالح السلامة والعافية، ولدرء مفاسد المعاطب والأسقام، ولدرء ما أمكن دَرْؤُهُ من ذلك، ولِجَلْبِ ما أمكن جَلْبُهُ من ذلك، فإن تعذَّر دَرْءُ الجميع أو جَلْبُ الجميع؛ فإن تساوت الرُّتَبُ تُخُيِّر، وإن تفاوتت استُعمل الترجيحُ عند عِرفانه، والتوقفُ عند الجهل به، والذي وضع الشرع هو الذي وضع الطب؛ فإن كل واحدٍ منهما موضوعٌ لِجَلْبِ مصالح العباد ودرء مفاسدهم] اهـ.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: دار الإفتاء العلم العلوم دار الإفتاء قال الإمام إلى ما هو
إقرأ أيضاً:
الإيمان والعلم
الإيمان والعلم يتكاملان ولا يتناقضان، وصحيح العقل لا يتناقض مع صحيح فهم الشرع، فبالعلم نصل للإيمان، حيث يقول الحق سبحانه: «فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ»، ويقول سبحانه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ»، والإيمان يحثنا على طلب العلم، حيث يقول الحق سبحانه: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ»، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «مَن سلَكَ طريقًا يلتَمِسُ فيهِ علمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طريقًا إلى الجنَّةِ، وإنَّ الملائِكَةَ لتَضعُ أجنحتَها لطالِبِ العلمِ رضًا بما يصنعُ وإنَّ العالم ليستغفِرُ لَهُ مَن فى السَّمواتِ ومن فى الأرضِ، حتَّى الحيتانِ فى الماءِ، وفضلَ العالمِ على العابدِ كفَضلِ القمرِ على سائرِ الكواكبِ، وإنَّ العُلَماءَ ورثةُ الأنبياءِ إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا إنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَهُ أخذَ بحظٍّ وافرٍ».
كما أنه لا تناقض بين الإيمان والعلم على الإطلاق، فالعلم قائم على الأخذ بالأسباب، والإيمان يدعونا إلى الأخذ بأقصى الأسباب، وكان سيدنا عمر بن الخطاب (رضى الله عنه) يقول: «لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق» ويقول: اللهم ارزقنى، وقد علمتم أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة، وحتى فى حديث نبينا (صلى الله عليه وسلم): «لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى الله حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصًا وَتَرُوْحُ بِطَانًا»، قال أهل العلم وشراح الحديث: إن الطير تأخذ بالأسباب، فتغدو وتروح، ولا تقعد فى مكانها وتقول: اللهم ارزقنى.
ونقل بعض الرواة أن أحد الناس خرج فى تجارة فلجأ إلى حائط بستان للاستراحة فيه، فوجد طائرًا كسير الجناح، فقال: يا سبحان الله ما لهذا الطائر الكسير كيف يأكل؟ وكيف يشرب؟ وبينما هو على هذه الحال إذا بطائر آخر يأتى بشىء يسير من الطعام فيضعه أمام الطائر كسير الجناح، فقال: يا سبحان الله، سيأتينى ما قسمه الله لى، فقال له صاحبه: كيف رضيت لنفسك أن تكون الطائر المسكين الكسير مهيض الجناح؟ ولم تسع لأن تكون الطائر الآخر القوى الذى يسعى على رزقه ويساعد الآخرين من بنى جنسه، وقد قال أحد الحكماء: لا تسأل الله أن يخفف حملك، ولكن اسأله سبحانه أن يقوى ظهرك.
ويقول الحق سبحانه: «فَامْشُوا فِى مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور»، ولم يقل اقعدوا وسيأتيكم الرزق حيث كنتم، ويقول نبينا (صلى الله عليه وسلم): «تَدَاوَوْا فَإِنَّ الله عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلاَّ وَضَعَ لَهُ دَوَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ الْهَرَمُ»، ولم يقل أحد على الإطلاق إن الدعاء بديل الدواء، إنما هو تضرع إلى الله (عز وجل) بإعمال الأسباب التى أمرنا سبحانه وتعالى بالأخذ بها لنتائجها.
ولم يقل أحد على الإطلاق من أهل العلم إن الفقه بديل الطب بل إن الفقه الصحيح يؤكد أن تعلم الطب من فروض الكفايات، وقد يرقى فى بعض الأحوال إلى درجة فرض العين على البعض.
ونؤكد أن ثواب تعلم الطب لا يقل عن ثواب تعلم الفقه، وأن الأولوية لأحدهما ترتبط بمدى الحاجة الملحة إليه، فحيث تكون حاجة الأمة يكون الثواب أعلى وأفضل ما صدقت النية لله (عز وجل).
وعلينا ونحن نأخذ بأقصى الأسباب ألا ننسى خالق الأسباب والمسببات، مَنْ أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون، فنجمع بين أسباب العلم وأسباب الإيمان معًا، مؤكدين أنه لا تناقض بينهما بل الخير كل الخير والنجاء كل النجاء أن نحسن الجمع بينهما والأخذ بهما معًا.
الأستاذ بجامعة الأزهر