نشوب أزمة عميقة في الصين سيفرض خيارات على القوتين الكبيرتين
تاريخ النشر: 28th, August 2023 GMT
ترجمة: قاسم مكي
تباطؤ النمو الاقتصادي العالمي لَحِقَ بالصين التي تواجه في نفس الوقت انخفاض الأسعار وتدني الطلب الاستهلاكي وارتفاع بطالة الشباب وتباطؤ الصادرات وتراخي نمو الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع الدَّين الحكومي وتحديات في القطاع العقاري وشيخوخة السكان مع عدم وجود شبكة أمان اجتماعي كافية. وتزيد الطين بلّة التوتراتُ الجيوسياسية خصوصا في أكبر أسواق صادرات الصين.
مع ذلك، على كل أولئك الذين يمكنهم أن يفرحوا بالتحديات القاسية التي تواجه الصين التفكير مَلِيَّا في المخاطر الناشئة التي تقترن بها والحذر فيما يتمَّنونه.
إذا حلَّت أزمة عميقة في الصين ستفرض خيارا على القوتين الرئيسيتين في العالم. هل يمكن أن تتخلى الصين عن المسار الذي أوصلها إلى ما وصلت إليه؟ وهل تستطيع الولايات المتحدة الاستمرار في الوثوق بالأشياء التي تجعلها بهذا القدر من المرونة؟
اقتصاد الصين بالطبع شديد الاقتران باقتصاد العالم. فهي أكبر شريك تجاري لأكثر من 120 بلدا. وهي المحرك الأكبر لنمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي. إنها الماكينة الاقتصادية لمنطقة المحيط الهادي الآسيوية والتي من المتوقع أن تساهم بحوالي 67% من الزيادة المتوقعة في الناتج المحلي للعالم هذا العام.
لم يحن الوقت بعد للرهان ضد اقتصاد الصين. لكن إذا سقطت في جُبِّ أزمة اقتصادية طويلة الأمد سيتردد أثر ذلك في الأسواق الدولية حول العالم اقتصاديا وجيو- سياسيا. ويمكن الإحساس بتداعياتها الفورية في أسواق رأس المال على نطاق العالم.
تذكروا أن انهيارا في السوق الصينية للأسهم في عام 2015 دفع بكل مؤشرات الأسهم الأمريكية إلى نطاق التصحيحات السعرية (هبوط قيمتها من آخر ذروة سعرية لها). وفي مجال التجارة يمكن أن يشهد العالم فيضانا من الصادرات الصينية الرخيصة فيما يمكن أن تتلاشى الصادرات العالمية للصين. بشكل عام إخفاق الصين يمكن أن يشكل خطورة على نمو وازدهار العالم. وتذكروا أن الصين في هذه الحال لن تكون لديها القدرة أو يتوافر لها الاستعداد للمساعدة في التلطيف من وطأة أية أزمة مالية عالمية مثلما فعلت في عام 2008.
الولايات المتحدة أبعد من أن تكون محصَّنة. وعلى الرغم من أن تجارتها مع الصين تشكل حوالي 2% فقط من الاقتصاد الأمريكي إلا أن أثر تباطؤ الاقتصاد الصيني على عدد كبير من البلدان سيؤثر حتما على الولايات المتحدة وعلى علاقاتها الجيوسياسية.
إلى ذلك الولايات المتحدة لاتزال معتمدة على الصين في بعض الواردات المفتاحية وروابط سلسلة التوريد على الرغم من اتخاذها إجراءات حماية لقطاعات معينة لأسباب تتعلق بالأمن الوطني. ولاتزال الصين مستثمرا رئيسيا في أوراق الخزانة الأمريكية وفي ديون أخرى.
نظرا إلى مدى الأضرار المحتملة التي يمكن أن تنشأ عن حدوث أزمة في الاقتصاد الصيني على نطاق العالم سيكون من الخطأ الحديث عنها باعتبارها فرصة. لكن من المؤكد أن مثل هذه الأزمة تشكل اختبارا لنظامين اقتصاديين وسياسيين مختلفين اختلافا شاسعا. والقرارات التي يمكن أن يتخذها القادة الصينيون والأمريكيون في الشهور القادمة قد تترتب عنها نتائج ضخمة بالنسبة للاقتصاد الدولي وأمن العالم وقطاع الأعمال ومستقبل المنافسة الأمريكية الصينية.
لنتناول أولا الصين التي تواجه امتحانا لقدرتها على التكيّف. هل نحن نشهد تقلَّبا قصير الأمد أم بداية ركود طويل الأجل لاقتصاد الصين؟ سيعتمد ذلك في نهاية المطاف على الخيارات التي يتخذها المسئولون في بيجينج.
تحت قيادة الرئيس شي جينبينج ضاعفت الصين رهانها على دور الحزب الشيوعي كوسيلة للإشراف على الاقتصاد. ومع هذا التركيز المتجدد على الآيديولوجيا أكدت القيادة الصينية على الأمن والاستقرار على حساب التوسع الاقتصادي. وهذا أثَّر بشدة على روح ريادة الأعمال لدى الشعب الصيني والتي كانت القوة الدافعة وراء النمو في العقود الماضية.
سيفرض تراجعٌ اقتصادي متطاول وقاسٍ في حال حدوثه خيارا على الصين. فهي يمكنها الاستمرار في مسار انخراط الحزب الشيوعي بقدر أكبر في قطاع الأعمال وتخصيص الموارد الاقتصادية والحد من الحصول على البيانات الاقتصادية والتطبيق العشوائي لتشريعات غامضة مثل قانون الأمن القومي. أو يمكنها بدلا عن ذلك تغيير وجهتها وإجراء التغييرات الضرورية والاعتماد أكثر على الأسواق والقطاع الخاص والمنافسة والانفتاح.
الخيار الذي تتخذه الصين بالغ الأهمية لأمن العالم. فالاقتصاد الفاشل أو المنخفض النمو يمكن أن يفاقم التوتر الجيوسياسي إذا فضّلت الصين إذكاء النزعة القومية واتهام القوى الخارجية بأنها السبب وراء تحدياتها الداخلية. وإذا كانت النتيجة هياج المشاعر القومية يمكن أن تتجه العلاقة الأمريكية الصينية نحو الصراع.
بَيَّن قادة الصين أن في مقدورهم تغيير المسار كما اتضح من قبل بتراجعهم الفجائي عن سياسات "صفر كوفيد". لكن حتى إذا حدث ذلك لن يكون السير يسيرا. وعلى واضعي السياسات في الولايات المتحدة الاستعداد لنطاق واسع من المآلات التي يمكن أن ينتهي إليها الاقتصاد الصيني.
الاختبار بالنسبة للولايات المتحدة يتعلق بالثقة. ففي حين كشفت التحديات الاقتصادية التي تواجه الصين عن عيوبها الهيكلية إلا أن أساس النظام الاقتصادي الأمريكي وتنافسية شركاتها يتّصِفان بالقوة والمرونة بحيث صار في مقدورنا حتى الآن تحمّل عجز حكومتنا وتحدياتنا المهمة الأخرى بما في ذلك كوفيد-19. لكن أوضاعا غير مألوفة ومتقلِّبة ستواجهنا مع الانتخابات الرئاسية القادمة.
اختبار واضعي السياسة الأمريكيين هو: هل نفقد الثقة في نظامنا بالاستمرار في محاولة هزيمة الصين في لعبتها أم نضع ثقتنا في المبادئ الاقتصادية التي جعلت اقتصادنا يقود العالم. نحن في مركز قوة بميزات هيكلية ومؤسسية كبيرة. فشركاتنا وجامعاتنا تقود العالم. ونحن مستقلون باحتياجاتنا من الطاقة ونقود في التقنيات المتقدمة. ونحن نوجَد في جوار جيوسياسي مُواتٍ لنا.
يجب أن تُنهي التحديات الاقتصادية للصين مرة واحدة وإلى الأبد الاعتقاد بأن واشنطن لكي تنافس عليها تبني المزيد من السياسات الاقتصادية والصناعية الحكومية. بدلا عن ذلك على واضعي سياسات الولايات المتحدة بذل المزيد لخفض ديننا الوطني ومعالجة أزمتنا المالية الوشيكة والتي هي المهدد الرئيسي لأمننا الاقتصادي والوطني. إلى ذلك، نحن بحاجة لمقاومة نزعة تبني المزيد من المقاربات التي يطبقها الجهاز البيروقراطي من أعلى إلى أسفل وتجنب التحرش الشعبوي بالشركات الخاصة.
من أجل النمو العالمي والأمن الجيوسياسي واستمرار ازدهارنا علينا أن نأمل في تحول الصين نحو سياسات تشجع على التنافس والانفتاح.
وفي الولايات المتحدة علينا تذكر أن أمننا الوطني يعتمد على قوَّتنا الاقتصادية والاستمرار في التركيز على ما جعل ويجعل بلدنا قويا.
• هنري بولسون رئيس مجلس إدارة معهد بولسون ووزير خزانة أمريكي سابق والرئيس التنفيذي لبنك جولدمان ساكس (1999-2006).
** عن واشنطن بوست
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة التی تواجه یمکن أن
إقرأ أيضاً:
كيف يمكن للرسوم الجمركية أن تساعد أمريكا؟
بقلم: مايكل بيتيس
ترجمة: د. هيثم مزاحم
استخلص خبراء الاقتصاد الدروس الخاطئة من إخفاقات ثلاثينيات القرن العشرين
كتب مايكل بيتيس، وهو زميل أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، مقالة في مجلة فورين أفيرز الأمريكية نشرت في أواخر الشهر الماضي، تناول فيها تأثير رفع الرسوم الجمركية على الواردات الأجنبية على الاقتصاد الأمريكي، وهي الخطة التي يريد اللائيسس المنتخب دونالد ترامب تنفيذها تجاه الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
والآتي ترجمة كاملة لنص المقالة:
وعد الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب بتنفيذ مجموعة من الرسوم الجمركية العدوانية على الشركاء التجاريين لأمريكا، بما في ذلك فرض ضريبة شاملة بنسبة 20% على السلع الواردة من الخارج. ورغم أن أنصاره يزعمون أن هذه الرسوم الجمركية من شأنها أن تعزز التصنيع الأمريكي وتخلق فرص العمل، فإن المنتقدين يزعمون أنها ستؤدي إلى تفاقم التضخم وقمع العمالة وربما تدفع الاقتصاد إلى الركود.
وكدليل على ما قد يحدث من خطأ، يستشهد كثيرون بقانون سموت-هاولي للرسوم الجمركية لعام 1930، الذي رفع الرسوم الجمركية الأمريكية على مجموعة متنوعة من الواردات. كتب الخبير الاقتصادي ديزموند لاكمان من معهد أمريكان إنتربرايز يقول: "بالحكم على سياسة التعريفات الجمركية التي اقترحها دونالد ترامب، من الواضح أن ترامب لا يتذكر التجربة الاقتصادية الكارثية التي خاضتها بلادنا مع قانون التجارة سموت-هاولي لعام 1930".
ولكن هذه الادعاءات لا تظهر إلا مدى ارتباك العديد من الخبراء عندما يتعلق الأمر بالتجارة - على جانبي المناقشة حول التعريفات الجمركية. التعريفات الجمركية ليست حلاً سحريًا ولا ضارة بالضرورة. تعتمد فعاليتها، مثل أي تدخل في السياسة الاقتصادية، على الظروف التي يتم تنفيذها فيها. كان قانون سموت-هاولي فاشلاً في ذلك الوقت، لكن فشله لا يخبر المحللين إلا القليل عن التأثير الذي قد تخلفه التعريفات الجمركية على الولايات المتحدة اليوم. وذلك لأن الولايات المتحدة، على عكس ذلك الوقت، لا تنتج أكثر مما تستطيع أن تستهلكه. ومن عجيب المفارقات أن تاريخ قانون سموت-هاولي يقول الكثير عن الكيفية التي قد تؤثر بها التعريفات الجمركية اليوم على دولة مثل الصين، التي يشبه إنتاجها الزائد إنتاج الولايات المتحدة في عشرينيات القرن العشرين أكثر من إنتاج الولايات المتحدة الآن.
ولكن خبراء الاقتصاد لم يكونوا دائما في حيرة من أمرهم. ففي كتابه الكلاسيكي الصادر عام 1944 تحت عنوان "التجربة الدولية للعملة"، كتب راجنار نوركس أن "خفض قيمة العملة يكون توسعياً في الواقع إذا كان يصحح المبالغة في التقييم السابق، ولكنه انكماشي إذا كان يجعل العملة مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية". وتعمل التعريفات الجمركية، التي هي قريبة من خفض قيمة العملة، بنفس الطريقة. فهي تعمل على خفض الاستهلاك المحلي وتفرض معدلات الادخار المحلية. والبلد الذي يتمتع باستهلاك منخفض وادخار زائد (مثل الولايات المتحدة في عشرينيات القرن العشرين أو الصين اليوم) يميل إلى أن يكون بلداً بعملة مقومة بأقل من قيمتها الحقيقية، وفي هذه الحالة من المرجح أن تكون التعريفات الجمركية، مثل خفض قيمة العملة، انكماشية. ولكن في بلد يتمتع بمستويات استهلاك مرتفعة بشكل مفرط، مثل الولايات المتحدة الحديثة، يمكن أن تكون نفس السياسة توسعية. وبعبارة أخرى، إذا تم ذلك في ظل الظروف الحالية، يمكن للتعريفات الجمركية أن تزيد من فرص العمل والأجور في الولايات المتحدة، مما يرفع مستويات المعيشة ويساهم في نمو الاقتصاد.
المكان الخطأ، الوقت الخطأ
بالنسبة لأولئك الذين لا يتذكرون (أو الذين لم تسنح لهم الفرصة لمشاهدة فيلم يوم عطلة فيريس بيولر)، كان قانون تعريفة سموت-هاولي قانونًا مثيرًا للجدل أدى إلى زيادة التعريفات الجمركية على أكثر من 20 ألف سلعة. سُمي القانون على اسم راعييه الجمهوريين، السيناتور ريد سموت من ولاية يوتا والممثل ويليس سي هاولي من ولاية أوريغون، ووقعه الرئيس المتردد هربرت هوفر في 17 يونيو 1930، ومثّل ثاني أعلى زيادة في التعريفات الجمركية في تاريخ الولايات المتحدة.
تم تنفيذ قانون سموت-هاولي في بداية الكساد الأعظم، عندما كانت البلدان في جميع أنحاء العالم منخرطة بالفعل في خفض قيمة العملات، وفرض قيود على الواردات، والتعريفات الجمركية التي وصفتها الخبيرة الاقتصادية الإنجليزية جوان روبنسون لاحقًا بأنها سياسات "إفقار الجار". وكما أوضحت روبنسون، تعمل هذه السياسات على توسيع النمو المحلي من خلال دعم الإنتاج على حساب الاستهلاك المحلي. الواقع أن هذه السياسات لا تفعل ذلك إلا من خلال العديد من السبل، ولكنها تستخدم جميعها الفوائض التجارية الناتجة لتحويل تكلفة الطلب الضعيف إلى الشركاء التجاريين. وبعبارة بسيطة، صُممت سياسات إفقار الجار لدعم اقتصاد دولة على حساب دولة أخرى، وعادة من خلال تعزيز التصنيع المحلي على حساب التصنيع الأجنبي.
هناك إجماع واسع النطاق بين المؤرخين الاقتصاديين على أن تعريفات سموت-هاولي كانت فاشلة. فقد ساهمت في انكماش التجارة العالمية الذي كان مؤلمًا بشكل خاص للولايات المتحدة، التي كانت تتمتع بأكبر فائض تجاري في العالم وكانت موطنًا لأكبر الدول المصدرة على هذا الكوكب.
وقد فهم مارينر إيكلز، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من عام 1934 إلى عام 1948، السبب وراء هذا الخلل، حيث زعم أن المستويات المرتفعة من التفاوت في الدخل في الولايات المتحدة كانت في الواقع "مضخة شفط عملاقة" "اجتذبت إلى أيدي قِلة من الناس حصة متزايدة من الثروة المنتجة حاليًا". ويشرح إيكلز أن الأمريكيين كانوا عاجزين عن استهلاك حصة كافية من إنتاجهم لتحقيق التوازن في الإنتاج المحلي، لأن الأغنياء يستهلكون حصة أقل كثيراً من دخولهم مقارنة بغير الأغنياء. وبعبارة أخرى، كان الفائض التجاري الأمريكي الضخم في عشرينيات القرن العشرين يعكس عجز الأمريكيين عن استيعاب ما تنتجه الشركات الأمريكية.
إن الولايات المتحدة تواجه مرة أخرى مستويات عالية من التفاوت في الدخل. ولكن هذه الحقيقة لا تجعل من نموذج سموت-هاولي نموذجاً معقولاً لتقييم تأثير التعريفات الجمركية المماثلة اليوم. ففي المجمل، يختلف الاقتصاد الأمريكي الحديث كثيراً عن اقتصاد عام 1930. والواقع أن الأمرين متعارضان تقريباً عندما يتعلق الأمر بالتجارة. فالولايات المتحدة تعاني الآن من أكبر عجز تجاري في التاريخ. وهذا يعني أن الأمريكيين يستثمرون ويستهلكون (في الأساس) أكثر كثيراً مما ينتجون. وبعبارة أخرى، كان الاستهلاك الأمريكي في عشرينيات القرن العشرين منخفضاً للغاية مقارنة بالإنتاج الأمريكي. أما اليوم فهو مرتفع للغاية.
سيف ذو حدين
مثل أغلب السياسات الصناعية والتجارية، تعمل التعريفات الجمركية عن طريق نقل الدخل من جزء من الاقتصاد إلى آخر، وفي هذه الحالة من المستوردين الصافين إلى المصدرين الصافين. وهي تفعل ذلك عن طريق رفع أسعار السلع المستوردة، الأمر الذي يعود بالنفع على المنتجين المحليين لتلك السلع. ولأن المستهلكين في الأسر هم مستوردون صافون، فإن التعريفات الجمركية تشكل في الواقع ضريبة على المستهلكين. ولكن من خلال رفع أسعار التصنيع والسلع الأخرى القابلة للتداول، تعمل التعريفات الجمركية أيضاً كدعم للمنتجين المحليين.
هذا التحول من المستهلك إلى المنتج يعني أن التعريفات الجمركية لها تداعيات على الناتج المحلي الإجمالي للبلد، أو قيمة السلع والخدمات التي تنتجها شركاته وعماله. ولأن كل ما ينتجه الاقتصاد إما يُستهلك أو يُدخر، فإن أي سياسة ترفع الإنتاج نسبة إلى الاستهلاك تجبر تلقائياً على رفع معدل الادخار المحلي. ومن خلال فرض الضرائب على الاستهلاك ودعم الإنتاج، ترفع التعريفات الجمركية الإنتاج نسبة إلى الاستهلاك، وهذا يعني أنها تخفض حصة الاستهلاك من الناتج المحلي الإجمالي وترفع معدل الادخار.
ولكن هناك طريقتان مختلفتان للغاية يمكن من خلالهما للتعريفات الجمركية خفض الاستهلاك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي. الطريقة الأولى هي زيادة الناتج المحلي الإجمالي ككل. ويحدث هذا عندما تؤدي الإعانة الضمنية للتعريفات الجمركية للإنتاج إلى المزيد من الوظائف والأجور الأعلى، ما يؤدي بدوره إلى زيادة إجمالية في الاستهلاك الإجمالي. وتظهر المدخرات الأعلى ــ أو الفجوة بين الزيادة في الاستهلاك والزيادة الأكبر في الإنتاج ــ إما في شكل زيادة الاستثمار أو في ارتفاع الصادرات نسبة إلى الواردات. إن هذه الأنواع من التعريفات الجمركية تجعل الشركات والأسر في وضع أفضل.
يستهلك الأمريكيون حصة كبيرة للغاية مما ينتجونه.
لكن الطريقة الأخرى تتضمن خفض الاستهلاك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي من خلال قمع الاستهلاك نفسه ــ وليس من خلال تعزيز النمو الاقتصادي الإجمالي. ويحدث هذا عندما ترفع التعريفات الجمركية أسعار المنتجات المستوردة دون رفع الأجور، مما يجعل من الصعب على الناس شراء السلع. ولا تؤدي مثل هذه التعريفات الجمركية إلى زيادة الإنتاج لأن المنتجين المحليين لا يستطيعون الاستجابة للتعريفات الجمركية بزيادة الناتج الإجمالي. فإذا كانت الشركات الأمريكية تعاني في المقام الأول من ضعف الطلب المحلي، على سبيل المثال، فإن التعريفات الجمركية من شأنها أن تقلل من هذا الطلب بشكل أكبر من خلال عملها كضريبة على مستويات الاستهلاك المنخفضة بالفعل. وإذا كان بقية العالم غير قادر أو غير راغب في استيعاب فوائض تجارية أمريكية أكبر، فإن التعريفات الجمركية الأمريكية من شأنها أن تؤدي إلى انخفاض الإنتاج المحلي.
إن فهم ما إذا كانت التعريفات الجمركية سوف تثبت أنها مفيدة أو ضارة يتطلب فهم أي من السيناريوهات التالية سوف تسفر عن ذلك. وفي حالة قانون سموت-هاولي، كان السيناريو الثاني بوضوح. ففي الوقت الذي تم فيه سن هذه التعريفات الجمركية، كانت الولايات المتحدة تعاني من فرط الادخار وقلة الاستهلاك. ولكن لماذا كانت الولايات المتحدة تصدر الكثير إلى بقية العالم، كما تفعل الصين اليوم؟ كان ما يحتاج إليه الأمريكيون آنذاك (كما فهم إيكلز) هو تعزيز حصة الإنتاج الموزعة على الأسر في هيئة أجور وفوائد وتحويلات ــ وهو ما من شأنه بدوره أن يرفع مستويات المعيشة، ويعزز الطلب المحلي، ويقلل من اعتماد الولايات المتحدة على الاستهلاك الأجنبي. ولكن بدلاً من ذلك، من خلال رفع أسعار السلع المستوردة، فعل قانون سموت-هاولي العكس. فقد زاد من الضريبة الضمنية على الاستهلاك الأمريكي في حين زاد من دعم المنتجين الأمريكيين. وبدلاً من الحد من اعتماد الولايات المتحدة على الأجانب لامتصاص الإنتاج الزائد، زادت التعريفات من هذا الإنتاج.
اليوم، على النقيض من ذلك، يستهلك الأمريكيون حصة أكبر كثيراً مما ينتجونه، وبالتالي يتعين عليهم استيراد الفرق من الخارج. وفي هذه الحالة، فإن التعريفات الجمركية (إذا تم تنفيذها بشكل صحيح) من شأنها أن تخلف التأثير المعاكس لقانون سموت-هاولي. فمن خلال فرض الضرائب على الاستهلاك لدعم الإنتاج، تعمل التعريفات الجمركية الحديثة على إعادة توجيه جزء من الطلب الأمريكي نحو زيادة إجمالي كمية السلع والخدمات المنتجة في الداخل. إن هذا من شأنه أن يؤدي إلى ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، مما يؤدي إلى زيادة فرص العمل، وارتفاع الأجور، وتقليص الديون. وسوف تتمكن الأسر الأمريكية من زيادة استهلاكها، حتى مع انخفاض الاستهلاك كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
إن الاقتصاد الأمريكي، بفضل حسابه التجاري المفتوح نسبيًا وحسابه الرأسمالي الأكثر انفتاحًا، يمتص تلقائيًا تقريبًا الفائض من الإنتاج من الشركاء التجاريين الذين نفذوا سياسات إفقار الجار. وهو المستهلك العالمي كملاذ أخير. والغرض من التعريفات الجمركية بالنسبة للولايات المتحدة ينبغي أن يكون إلغاء هذا الدور، حتى لا يضطر المنتجون الأمريكيون بعد الآن إلى تعديل إنتاجهم وفقا لاحتياجات المنتجين الأجانب. ولهذا السبب، ينبغي أن تكون هذه التعريفات بسيطة وشفافة ومطبقة على نطاق واسع (ربما باستثناء الشركاء التجاريين الذين يلتزمون بتوازن التجارة محليًا). ولن يكون الهدف حماية قطاعات تصنيع محددة أو أبطال وطنيين، بل مواجهة التوجه الأمريكي المؤيد للاستهلاك والمعادي للإنتاج. وبعبارة أخرى، ينبغي أن يكون هدف التعريفات الجمركية الأمريكية القضاء على التكيّف التلقائي للولايات المتحدة مع اختلال التوازن التجاري العالمي.
ولا تزال هذه التعريفات الجمركية تأتي مع مخاطر محلية. ولكن اقتراح خبراء الاقتصاد بأن تأثير التعريفات الجمركية في عام 1930 يجب أن يكون هو نفسه اليوم لا يظهر إلا مدى ارتباك معظم خبراء الاقتصاد بشأن التجارة. إن الدرس الحقيقي الذي تعلمناه من قانون سموت-هاولي ليس أن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستفادة من التعريفات الجمركية، بل إن الاقتصادات التي تتمتع بفوائض مستمرة لا ينبغي لها أن تنفذ سياسات تؤدي إلى تفاقم الصراع التجاري العالمي.
في النهاية، إن التعريفات الجمركية هي ببساطة واحدة من بين العديد من الأدوات التي يمكن أن تعمل على تحسين النتائج الاقتصادية في ظل بعض الظروف وخفضها في ظل ظروف أخرى. وفي اقتصاد يعاني من الاستهلاك المفرط، وانخفاض المدخرات، وتراجع حصة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي، ينبغي أن يركز خبراء الاقتصاد على أسباب هذه الظروف والسياسات التي قد تعمل على عكسها. وقد تكون التعريفات الجمركية واحدة من هذه السياسات.
** يُنشر بالتعاون مع مركز الدراسات الآسيوية والصينية- لبنان
رابط مختصر