طهران- "بعد أن عجزت عن حجز تذكرة طيران عبر التطبيقات الإلكترونية، اضطررت إلى القيام بجولة على مكاتب السياحة والسفر بالعاصمة طهران لكن دون جدوى"، هكذا عبّر المواطن الإيراني محمد (41 عاما) عن معاناته مع نفاد تذاكر رحلات الطيران في بلاده.

ويوضح محمد للجزيرة نت أنه رغم الارتفاع المستمر منذ أكثر من عام في أسعار تذاكر الطيران، فإن الركاب الإيرانيين دأبوا على الحجز المبكر خشية نفاد التذاكر قبل أسابيع من موعد الرحلات، مضيفا أنه كثير السفر بين طهران والمحافظات الجنوبية بسبب نشاطه التجاري، لكنه يسافر منذ عام بسيارته الشخصية عندما يتعذر عليه اقتناص تذكرة طيران.

من جانبها، ترى المواطنة فريبا (26 عاما) -موظفة في أحد مكاتب السياحة والسفر القريبة من ساحة ونك شمالي طهران- أن سبب نفاد التذاكر في بلادها هو خروج مئات الطائرات من الخدمة، وأن عشرات أخريات في الأسطول الجوي الإيراني أوشكت على التقاعد بسبب تقادم عمرها، وتعذّر إعادة تأهيلها.

بعض الشركات وأصحاب التطبيقات يقومون بشراء تذاكر الرحلات الداخلية لبيعها بأسعار مرتفعة (الجزيرة) نفاد التذاكر

ومن ساحة ونك، رافقت الجزيرة نت المواطن الإيراني محمد إلى مطار مهر آباد الدولي (غربي طهران)، بحثا عن تذكرة ملغاة لكن دون جدوى، إذ اصطدم بطابور طويل ممن جاؤوا لشراء تذاكر اللحظة الأخيرة.

في غضون ذلك، أوضح للجزيرة نت أحد موظفي الخطوط الجوية الإيرانية (فضّل عدم الكشف عن هويته) أن السبب الرئيس وراء نفاد تذاكر الرحلات الداخلية خلال دقائق هو قيام بعض الشركات والتطبيقات بشراء جميع تذاكر الرحلة لبيعها بأسعار باهظة، مضيفا أن بعض الشركات تتعمد بيع تذاكر الرحلات الداخلية على مواقع عربية بالدولار.

وكانت المنظمة الإيرانية للطيران المدني قد حظرت الشهر الماضي بيع التذاكر بالدولار في الرحلات الداخلية، وحذّرت الشركات المحلية من بيعها على المواقع والتطبيقات الأجنبية.

يأتي ذلك في وقت نشرت فيه الصحافة الإيرانية تقارير عن تهالك الأسطول الجوي في إيران، وإلغاء عديد من الرحلات الداخلية أو تأخيرها عن مواعيد الإقلاع المعلنة، فضلا عن الارتفاع المتواصل في أسعار التذاكر عقب عملية تعويم التسعير (عدم تحديد سعر العملة وتركه للعرض والطلب) منذ أكثر من عام.


تعددت الأسباب

رسميا، تلقي طهران باللوم على الولايات المتحدة الأميركية لإعادتها فرض العقوبات على قطاعات النقل الجوي والبري والبحري في إيران، عقب انسحاب إدارة دونالد ترامب عام 2018 من الاتفاق النووي، مما عرقل بيع الطائرات المدنية إلى الجمهورية الإسلامية، فضلا عن إحجام الأطراف الأجنبية عن توفير قطع الغيار اللازمة لتحديث الأسطول الجوي.

ويعزو المتحدث باسم هيئة الطيران المدني جعفر يازرلو المشكلات الطارئة في توفير تذاكر الرحلات الداخلية إلى زيادة الطلب والعقوبات الأجنبية وإقبال الإيرانيين على السفر عقب جائحة كورونا والأسعار المناسبة لتذاكر الطيران في البلاد.

وفي حديثه للجزيرة نت، قال يازرلو إن الطيران الإيراني يشغّل حاليا أسطولا من 183 طائرة بعد خروج 150 من الخدمة (متوسط أعمارها 10 أعوام)، موضحا أن البلاد تحتاج فعليا إلى 550 طائرة.

المنظمة الإيرانية للطيران المدني حظرت الشهر الماضي بيع التذاكر بالدولار في الرحلات الداخلية (الجزيرة) العقوبات الأميركية

وأضاف يازرلو أن الشركات الغربية المصنعة للطائرات المدنية نقضت العقود الموقعة مع طهران لشراء مئات الطائرات عقب عودة العقوبات الأميركية.

وكانت الحكومة الإيرانية السابقة قد أبرمت عقودا لشراء 100 طائرة مدنية من شركة إيرباص الأوروبية، و80 أخرى من شركة بوينغ الأميركية، وعدد آخر من شركة "إيه تي آر" الفرنسية الإيطالية، إلا أن الشركات الغربية اعتذرت عن الوفاء بالتزاماتها إثر عودة العقوبات على طهران.

من جانبه، يقول رئيس هيئة الطيران المدني محمد محمدي بخش إن قطاع خدمات الملاحة الجوية يواجه "حربا غير متكافئة" بسبب العقوبات الأجنبية، وكشف عن أن 10 طائرات ركاب من أصل 13 استوردتها طهران عقب توقيع الاتفاق النووي أمست خارجة عن الخدمة بسبب امتناع الشركات الغربية عن تزويد إيران بقطع الغيار اللازمة.

خبرة وطنية

وتابع محمدي بخش -في تصريح صحفي- أن بلاده تعمل على تحديث وإعادة تأهيل الطائرات المعطلة، إلى جانب استقدام طائرات مدنية مستعملة لسد العجز، مؤكدا شراء واستيراد 55 طائرة خلال الأشهر الماضية، انضمت 20 منها إلى الخطوط الجوية.

وأشار إلى أن بلاده اكتسبت خبرة ثمينة في مجال صيانة طائرات الركاب، وأن بعض الدول الأجنبية ترسل طائراتها الغربية إلى إيران لتحديثها وإعادة تأهيلها.

وکانت شركة "إيرفلوت" الروسية قد أعلنت أبريل/نيسان الماضي إرسال إحدى طائراتها من طراز "إيرباص إيه 330-300" إلى إيران لإصلاحها.

وتخطط طهران لشراء نماذج حديثة وصناعة طائرات محلية، وفق رئيس هيئة الطيران المدني الذي أكد أن المشروع الوطني لتطوير طائرات "إيران 140" يمضي على قدم وساق.

طائرات إيران بحاجة للاستبدال أو الصيانة وجزء كبير منها خرج من الخدمة (الأوروبية) طلب طائرات روسية

وعن إمكانية شراء أو استئجار طائرات مدنية من الدول الصديقة التي لا تعترف بالعقوبات الأميركية أو تتعرض لعقوبات مماثلة، يقول الطيار في الخطوط الجوية الإيرانية هوشنك شهبازي إن المقصود بالدول الصديقة روسيا، مضيفا أن الدول الصديقة الأخرى تخشى التعاون مع إيران بسبب العقوبات الغربية.

وكان رئيس الاتحاد الإيراني لمكاتب خدمات السفر في إيران حرمت الله رفيعي أعلن الشهر الماضي تقديمه طلبا للجانب الروسي لتزويد بلاده بـ3 طائرات ركاب لاستخدامها في الرحلات الداخلية والخارجية.

وتحظر المادة 9 في قانون الطيران المدني الإيراني استخدام طائرات الشركات الأجنبية للرحلات الداخلية.

وفي حديثه للجزيرة نت، يعتقد الطيار شهبازي أن حل مشكلة ندرة تذاكر الطيران يكمن في تعديل السياسة الخارجية والعمل على رفع العقوبات، موضحا أن متوسط عمر الطائرات المدنية في إيران 25 عاما، في حين كان لا يتجاوز 6 سنوات أيام نظام الشاه السابق.

وخلص الطيار الإيراني إلى أنه لا يمكن التعويل كثيرا على إصلاح وإعادة تأهيل الطائرات عدة مرات، لأن ذلك يعرض حياة الركاب للخطر، منتقدا الترويج لتدشين الطائرات الوطنية قريبا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الطیران المدنی تذاکر الطیران للجزیرة نت فی إیران

إقرأ أيضاً:

هل تفكك إيران الثلاثية المقدسة.. النووي والصواريخ وشبكة الحلفاء؟

بعد أسابيع من التهديد الأميركي وممانعة من جانب إيران، وفي ظل مشهد إقليمي شديد التوتر والاضطراب، انطلقت في 12 من أبريل/نيسان الجاري الجولة الأولى من المباحثات بين واشنطن وطهران التي تجري بوساطة عمانية للوصول إلى اتفاق جديد حول البرنامج النووي الإيراني.

وفي وقت لاحق؛ أجريت الجولة الثانية يوم السبت 19 أبريل/نيسان في العاصمة الإيطالية روما، لم تسفر الجولتان عن شيء معلن، لكن الطرفين وصفا كلًّا من الجولتين بأنها "بنّاءة".

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الزورق في مواجهة البارجة.. الحرب البحرية المحتملة بين أميركا وإيرانlist 2 of 2الصين تعلمت الدرس من اليابان.. كيف تهزم البحرية الأميركية؟end of list

تجري المفاوضات في ظل استمرار التهديد الأميركي بأن طهران ستواجه عملا عسكريا يستهدف منشآتها النووية إذا فشلت المفاوضات في الوصول إلى اتفاق خلال 60 يوما من بدايتها، في حين أنه قبل عقد من الزمن؛ استغرقت المفاوضات بين القوى الكبرى وطهران 18 شهرا كاملة للوصول إلى الاتفاق النووي الذي وُقع في مدينة لوزان السويسرية في 2 أبريل/نيسان 2015، والذي انسحب منه ترامب لاحقا في 8 مايو/أيار 2018، مما أدى إلى انهياره.

ثمة دوافع لدى الطرفين لإنجاح المباحثات، في ظل رغبة طهران في تفادي تبعات التصعيد المحتمل في المنطقة وتفويت الفرصة على رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، الذي يمارس ضغوطا شديدة على ترامب لإقناعه بأن العمل العسكري هو السبيل الوحيد لتحييد الخطر النووي الإيراني.

إعلان

لكن السقف المرتفع -المعلن حتى الآن- من قبل الرئيس الأميركي الذي يشمل تخلي طهران عن برنامجها النووي بشكل كامل، فضلا عن تقليص قدراتها الصاروخية وتحجيم حضورها الإقليمي، قد يجعل طهران أمام موقف لا تستطيع فيه التخلي عمّا يمثل لها ضرورات أمنية وجودية، مما يعقد فرص الوصول إلى اتفاق ويفتح الباب للتصعيد مجددا.

بدأت إيران في إحياء برنامجها النووي منذ قرابة ثلاثة عقود، لم تنتج فيها القنبلة النووية ولم تتخلّ عن البرنامج، ومنذ ذلك الحين ظلّ هذا البرنامج يمثل مادة رئيسية لصراعها مع الغرب من جهة ولرحلتها الذاتية لاستعادة المكانة التاريخية من جهة أخرى. فماذا يمثل البرنامج النووي للجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ وما هي احتمالات التخلي عنه أمام الضغوط الأميركية؟ وهل يمكن أن تنجح جولات المباحثات الجارية؟

قصة البرنامج النووي والضرورات الجيوسياسية

خلال سنوات الحرب الباردة؛ اعتبرت الولايات المتحدة إيران البهلوية جزءًا من إستراتيجيتها لاحتواء الاتحاد السوفياتي في آسيا. كانت إيران التي يحكمها الشاه وتركيا التي يحكمها الكماليون تمثلان بالنسبة للولايات المتحدة حزاما أمنيا جيواستراتيجيا يفصل بين الاتحاد السوفياتي ومنطقة الخليج العربي والشرق الأوسط.

استطاع الشاه الاستفادة من برنامج الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور "الذرة من أجل السلام"، الذي عبر عنه للمرة الأولى في خطابه عام 1953. اقترح أيزنهاور على الدول النامية -في سياق الحرب مع الاتحاد السوفياتي- فرصة لحيازة القدرات النووية، ولكن في إطار الاستخدامات المدنية في قطاعات الزراعة والطب وتوليد الكهرباء وغيرها، ولمتابعة هذه المبادرة تأسست "الوكالة الدولية للطاقة الذرية" وحددت العاصمة النمساوية فيينا مقرا لها.

في هذا السياق؛ وقّعت إيران اتفاقية تعاون نووي مع الولايات المتحدة عام 1957. وفي عام 1959، أنشأ الشاه مركز أبحاث نووية في جامعة طهران، وبعد تسع سنوات، بدأ تشغيل المفاعل النووي الإيراني -الذي وفّرته الولايات المتحدة- بقدرة 5 ميغاواتات.

إعلان

حصل الشاه على الخبرة التقنية وشرع في تخصيب اليورانيوم لخدمة البرنامج النووي. وحتى الإطاحة به عام 1979، كانت إيران قد تعاونت مع الولايات المتحدة وفرنسا والهند والأرجنتين وجنوب أفريقيا وألمانيا، بحسب جيوبوليتيكال فيوتشرز، للمساعدة في بناء مفاعل بوشهر النووي. أنفق الشاه 6 مليارات دولار لبناء منشآت نووية، وخطط لإنفاق 30 مليار دولار أخرى لبناء 20 مفاعلًا نوويًّا.

بلغ إجمالي الميزانية السنوية لمنظمة الطاقة الذرية الإيرانية، التي أسسها عام 1974، 1.3 مليار دولار، محتلةً المرتبة الثانية بعد شركة النفط الوطنية الإيرانية. ورغم توقيع إيران على اتفاقية حظر الانتشار النووي عام 1968، لم يكن ثمة شك في أن الهدف النهائي للشاه هو تطوير وامتلاك أسلحة نووية.

لاحقا؛ بعد نجاح الثورة الإسلامية الإيرانية؛ أفتى آية الله الخميني بأن تصنيع الأسلحة النووية مخالف للشريعة الإسلامية تأسيسا على أن مبدأ "الدمار الشامل" يتناقض مع أخلاقيات الجهاد والقتال في المنظور الإسلامي، ومن ثم أصدر توجيها بتفكيك البرنامج النووي للبلاد، مما أدى إلى هجرة علماء الذرة الإيرانيين إلى دول أجنبية.

وبعد عام واحد وبضعة أشهر من الثورة؛ أشعل العراق شرارة الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثمانية أعوام كاملة (1980- 1988)، ويبدو أن قادة إيران الجدد قد شعروا بالندم على تفكيك البرنامج النووي الذي جرى بالتزامن مع عمليات تفكيك وإعادة هيكلة واسعة لقوات الجيش في أعقاب محاولة الانقلاب على حكومة الحسن بني صدر في يوليو/تموز 1980، وكلاهما أضعف القدرات العسكرية والردعية للبلاد في مواجهة العراق على نحو بالغ، وربما لو كان البرنامج النووي قائما لما أقدم العراق أصلا على مهاجمة إيران.

بعد انتهاء الحرب، وفي ظل حصار دولي يمنع طهران من تحديث قدراتها العسكرية التقليدية على النحو الأمثل وخاصة قدرات سلاح الجو؛ خلص قادة إيران إلى ضرورة إعادة بناء البرنامج النووي جنبا إلى جنب مع برنامج آخر لتطوير الصواريخ الباليستية بغية تعويض نقص الطائرات المقاتلة المتطورة.

إعلان

وفي عام 1989، وقّعت إيران مع الاتحاد السوفياتي أول اتفاقية نووية بينهما. وفي عام 1993، بعد أن رفضت ألمانيا استئناف بناء مفاعل بوشهر النووي، أعلن بوريس يلتسين أن روسيا ستكمله.

إحياء البرنامج النووي تزامن مع توسع إيران الإقليمي لتحقيق ما يسمى "الردع الأمامي" عبر شبكة من الحلفاء والوكلاء على امتداد مجالها الحيوي، مما مثل تهديدا مباشرا لإسرائيل التي تصر منذ ذلك الحين على أنها لن تسمح لإيران بالتحول إلى قوة نووية.

وعلى مدار السنوات القليلة التي سبقت طوفان الأقصى، اغتال عملاء، مرتبطون على ما يبدو بجهاز المخابرات الإسرائيلي الموساد، أربعة علماء إيرانيين وأصابوا آخر. وفي أبريل/نيسان 2021، دمّر انفجار غامض، نفذه الموساد أيضا على الأرجح، ورشةً لأجهزة الطرد المركزي تُنتج اليورانيوم المُخصّب في منشأة نطنز النووية، على بُعد 200 ميل جنوب طهران.

لماذا نجح الاتفاق في 2015؟ وما الذي تغير الآن؟

في 2015؛ وافقت إيران في اتفاقية "خطة العمل الشاملة المشتركة" (JCOPA) التي وقعتها مع عدد من القوى الدولية (الصين وفرنسا وروسيا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وألمانيا) على كبح تقدم البرنامج لمدة 15 عاما -على الأقل- بتعليق عمل أكثر من ثلثي أجهزة الطرد المركزي وتخفيض نسبة تخصيب اليورانيوم إلى أقل من 3.67%، وعدم بناء أي منشأة جديدة بغرض تخصيب اليورانيوم خلال 15 عاما. وذلك؛ مقابل رفع العقوبات الغربية عن طهران.

وزير الخارجية الأمريكي السباق جون كيري (يسار) يتحدث مع وزير الخارجية الإيراني السابق جواد ظريف (يمين)، قبل أن يُخاطب الوزير ووزير الخارجية حشدًا من الصحفيين الدوليين في مركز النمسا في فيينا، النمسا، في 14 يوليو/تموز 2015، بعد التوصل للاتفاق النووي. (رويترز)

في تلك السنوات حدث أمران جعلا الحل الدبلوماسي ليس ممكنا للطرفين فحسب، بل مفضلا، بحسب جاكوب شابيرو، مدير مركز العمليات الأسبق في ستراتفور. أولًا، برز تنظيم الدولة عدوا مُشتركا للولايات المتحدة وإيران، واحتاجت الولايات المتحدة إلى مساعدة طهران وحلفائها في العراق لخوض الحرب ضد التنظيم.

إعلان

وثانيًا، بدأ نظام العقوبات الذي تقوده الولايات المتحدة يؤثر بشدة في الأوضاع الداخلية في إيران، إذ كانت الأوضاع الاقتصادية تتدهور، وكانت إدارة حسن روحاني على استعداد لمقايضة أجهزة الطرد المركزي واليورانيوم بفتح البلاد أمام الاستثمار الأجنبي، ووصول النفط الإيراني إلى أسواق العالم دون قيود، وتحسين جودة الحياة في إيران.

بيد أن ترامب يقول إن الاتفاق كان "كارثيا"، ويوافقه آخرون في الولايات المتحدة، لأنه سمح لإيران بالاستفادة من رفع العقوبات وتحسين أوضاعها الاقتصادية وفي نفس الوقت الاحتفاظ بالقدرات النووية الأساسية وبالتقنيات اللازمة لإعادة تطوير البرنامج متى أرادت، فضلا عن امتلاك إيران العديد من الكهوف والأنفاق التي يُمكن إخفاء الأنشطة النووية فيها، في حين تُركز عمليات التفتيش على منشآت معروفة نظرًا إلى قلة المفتشين واتساع مساحة البلاد.

كما لم يتناول الاتفاق برنامج الصواريخ الباليستية الإيراني، الذي يتضمن صواريخ متعددة المدى والحمولة، ويقول معارضو الاتفاق إن بعضها مُصمّم لحمل رؤوس نووية متى وُجدت. والأهم من ذلك كله؛ أن الاتفاق لم يتضمن خططا لتحجيم نفوذ إيران الإقليمي الذي يتمثل في شبكة من الوكلاء تطوق المشرق العربي وتعرض حلفاء واشنطن للخطر.

والحقيقة أن أوباما لم يكن بأقل حرصا من ترامب على تفكيك مجمل قوة إيران، حيث لا يوجد داخل الولايات المتحدة خلاف يذكر على أن إيران تمثل تهديدا يجب تفكيكه وتحييده. لكن أوباما كان يدرك أن تلك الملفات لا يمكن حلها جملة واحدة، وأن طهران ليست بصدد الاستعداد لمناقشة نفوذها الإقليمي الذي تراكم عبر عقود تحت أيّ ضغوط. كانت الإستراتيجية البديلة هي استخدام الحوافز الاقتصادية لدفع إيران إلى مزيد من الاتفاقات الجزئية سعيا لمزيد من مزايا الانفتاح على الاقتصاد العالمي.

إعلان

في 2018 وأثناء وجود ترامب في السلطة؛ كان خطر تنظيم الدولة قد جرى تحييده نسبيا، مما سهل له الانسحاب من الاتفاق بشكل أحادي، وبدلًا من استخدام حافز تعزيز العلاقات الاقتصادية، فرض عقوبات صارمة على إيران دفعتها إلى النكوص عن التزاماتها تدريجيا، ومن ثم انهار الاتفاق.

واليوم يعود ترامب إلى البيت الأبيض وقد بدا له أن هناك فرصة تاريخية لتحييد التهديد الإيراني مرة واحدة إلى الأبد، بعدما تضررت قدرات إيران الإستراتيجية في السنتين الأخيرتين، وذلك من خلال إجبارها على تفكيك مصادر قوتها الثلاثية: البرنامج النووي، والقدرات الصاروخية، وشبكة الحلفاء من غير الدول.

في المقابل؛ ثمة أصوات في إيران أصبحت تقول إن طريقا واحدا تبقى أمام إيران لتحتفظ بقوتها الإقليمية وهي إنتاج القنبلة النووية، بل أوردت صحيفة التلغراف البريطانية في فبراير/شباط الماضي أن قادة عسكريين إيرانيين طلبوا من المرشد الأعلى، علي خامنئي، إعادة النظر في الفتوى التي سبق أن اعتمدها بتحريم أسلحة الدمار الشامل.

وطبقا لمركز الدراسات الإستراتيجية والأمنية الأميركي ستراتفور؛ كثفت إيران نشاطها النووي بشكل كبير خلال العام الماضي، وسرعت إنتاجها من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60٪، وهو ما يقترب جدًّا من معيار 90٪ الذي يُعد هو المطلوب لإنتاج القنبلة.

وفي فبراير/شباط الماضي، أفادت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن مخزونات إيران من اليورانيوم العالي التخصيب ارتفعت بأكثر من 50٪ إلى 274.8 كيلوغراما في الأشهر الثلاثة الأولى بعد انتخاب ترامب في نوفمبر/تشرين الثاني 2024.

علاوة على ذلك، خلصت المخابرات الأميركية مؤخرًا إلى أن إيران كانت تجري أبحاثًا تقنية حول كيفية صنع قنبلة نووية بدائية بسرعة إذا قررت قيادتها تطوير أسلحة نووية، وفقا لتقرير قدمه مدير الاستخبارات الوطنية إلى الكونغرس في يوليو/تموز 2024.

إعلان

يعني ذلك أنه في حين يرى البعض أن ما تلقته إيران من ضربات استهدفت قوتها الإقليمية مؤخرا سوف يدفعها إلى المرونة في المفاوضات تفاديا لغضب واشنطن، فإنه في سيناريو آخر قد يدفعها إلى إسراع الخطى في طريق حيازة السلاح النووي لترميم ميزان الردع المتضرر، في ظل حالة العداء البنيوي مع الغرب التي يدرك معها قادة طهران أن طريق التسوية الشاملة مع الولايات المتحدة والغرب سيبقى مسدودا إلى الأبد.

كيف ستسير المفاوضات إذن؟

بعد وصوله إلى البيت الأبيض؛ أعاد ترامب تفعيل سياسية "الضغوط القصوى" على طهران واضعًا هدفا رئيسيا يتمثل في إيصال صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر، ويناقش مسؤولو إدارته خططا لتفتيش ناقلات النفط المشتبه في أنها تحمل نفطًا إيرانيًّا خاضعًا للعقوبات في نقاط اختناق عالمية رئيسية، مثل مضيق ملقا، حسبما ذكرت وكالة رويترز في 6 مارس/آذار.

وفي إطار ذلك؛ ألغت الولايات المتحدة إعفاء العراق من العقوبات على طهران في 8 مارس/آذار، الذي كان يسمح له باستيراد الكهرباء الإيرانية.

ورغم الآثار المباشرة لهذه الحملة على الاقتصاد الإيراني، مثل هبوط العملة المحلية إلى أدنى مستوياتها تاريخيا وارتفاع التضخم، فإنه على المدى المتوسط، تستطيع إيران التعايش مع هذه التهديدات واحتواءها داخليا، مما يجعلها تبدو ليست في عجلة من أمرها أثناء التفاوض.

بيد أنه على المدى البعيد لا تستطيع طهران تحمل العزلة الاقتصادية عن العالم، إذ لم يُصمَّم الاقتصاد الإيراني ليكون منعزلا كما في حالة كوريا الشمالية. تحتاج إيران إلى إيصال النفط لأسواق العالم بوصفه مصدرا رئيسيا من مصادر الدخل، كما اعتادت بنوكها العمل بنظام سويفت (جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك) الذي أخرجتها منه واشنطن بعد العقوبات، كما أن اقتصادها يعتمد أنماطا من السوق الحرة التي يحتاج فيها المستثمرون إلى التواصل مع الأسواق العالمية.

إعلان

وبما أن البرنامج النووي قد أسسته إيران أصلا ليكون أداة للردع، فإنها ستكون مستعدة لمقايضة عملية تقييده مرة أخرى بمكتسبات تشمل الحفاظ على مصالحها وضروراتها الإستراتيجية مثل تعزيز الوضع الاقتصادي ووقف الانهيار الجاري، والأهم هو قطع الطريق على العمل العسكري الذي تهدد به الولايات المتحدة وتتحفز له إسرائيل. في هذه الحالة سيكون البرنامج أداة ردع يعمل بشكل فعال وكفء.

لكن ستكون هناك معضلة في المفاوضات إذا استمر ترامب في رفع سقف مطالبه بتحجيم القدرات الصاروخية أو توقف طهران عن دعم حلفائها في الإقليم، وليس مجرد التفاهم حول حدود هؤلاء الحلفاء فحسب. سيكون من المستبعد تماما أن يتخلى الحرس الثوري الإيراني عن أي من الملفين، حتى وإن كانت تيارات أخرى في الدولة أكثر مرونة ستكون مستعدة لذلك.

ولأن إدارة ترامب تبدو غير متفقة بشكل نهائي على ما تريده من طهران، فإن ذلك يفتح الباب لاحتمال الوصول إلى اتفاق جزئي، إذا جرت عقلنة المطالب والتصورات من الطرفين، ومن الولايات المتحدة أولا.

يُذكر أنه في 15 أبريل/نيسان، دعا المبعوث الخاص للرئيس الأميركي إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إيران إلى إنهاء برنامجها للتخصيب النووي. وقبل ذلك بيوم، وبعد اجتماعه مع وزير الخارجية الإيراني في عُمان، صرّح ويتكوف لقناة فوكس نيوز بأن الإدارة تسعى فقط إلى فرض قيود على قدرات إيران على التخصيب، وليس إلى التفكيك الكامل.

وتقول صحيفة نيويورك تايمز إن هذا التحول جاء بعد اجتماع في البيت الأبيض ضمّ ويتكوف، ونائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، ومستشار الأمن القومي مايك والتز، ومدير وكالة المخابرات المركزية جون راتكليف.

ووفقًا للصحيفة، يرى كل من فانس وهيغسيث وويتكوف أن التوصل إلى اتفاق يتطلب الاكتفاء بوضع قيود على برنامج طهران النووي، بينما يرى روبيو ووالتز أن "التفكيك الكامل" للبرنامج على نمط ما فعله العقيد الليبي معمر القذافي عام 2003 هو الضمانة الوحيدة لإنهاء خطر إيران النووية.

إعلان

في المقابل؛ لا تزال لدى إيران أوراق قوة تحتفظ بها، فبرغم ما يمكن أن يقال عن أضرار تعرضت لها قوة إيران وحلفائها مؤخرا فإنه لا يزال لديهم الكثير جدا مما يمكن أن يؤذي الولايات المتحدة وإسرائيل في مواجهة صفرية. كما تعرف إيران أيضا أن ترامب -في الحقيقة- لا يريد سيناريو الحرب ولا يريد تحمل تكلفة صراع لن ينتهي في ظل حاجته إلى التفرغ لمعركته الإستراتيجية الطويلة الأمد مع الصين.

والخلاصة أنه إذا استمرت الولايات المتحدة في تصعيد مطالبها إلى السقف الذي يصطدم بضرورات إيران الإستراتيجية التي يستلهم منها النظام الحاكم شرعية وجوده، فإن احتمال الاتفاق يبدو منعدمًا، ويبقى احتمال العمل العسكري قائما. وإذا ابتعدت مطالب واشنطن عن فكرة التخلي عن البرنامج الصاروخي بصفة خاصة وعن شبكة الحلفاء الرئيسيين فإن احتمال الوصول إلى اتفاق جزئي سيكون مرتفعًا، في ظل حاجة الطرفين إلى ذلك.

مقالات مشابهة

  • شركات الطيران السعودية تقترب من صفقات كبرى مع إيرباص لتعزيز أساطيلها
  • إيران تحدد خطوطها الحمراء للاتفاق النووي
  • هل تفكك إيران الثلاثية المقدسة.. النووي والصواريخ وشبكة الحلفاء؟
  • بعد معارضة اتفاق أوباما.. لماذا تدعم السعودية اتفاق ترامب مع إيران؟
  • الحرب التجارية ستفاقم أزمة أسعار طائرات إيرباص وبوينغ
  • أذرع إيران على طاولة مفاوضات مسقط.. إلا الحشد
  • 11 محورا تقربك من ملف التخصيب النووي أداة إيران للتفاوض والردع
  • الكشف عن اتصالات سرية بين إيران وفريق ترامب خلال العامين الماضيين
  • إبراهيم شعبان يكتب: قصف إيران.. ترامب يتلاعب بالعالم من أجل إسرائيل
  • الداخلية تلاحق محاولات النصب باسم "الرحلات الدينية"