جريدة الرؤية العمانية:
2025-02-07@07:09:25 GMT

قوانين الطبيعة بين الهدفية والسببية

تاريخ النشر: 28th, August 2023 GMT

قوانين الطبيعة بين الهدفية والسببية

 

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي **

في العصور السابقة عندما كان يتفشى مرض الطاعون في مُجتمع من المجتمعات، كان الإنسان يقتصر في مواجهته للمرض على استخدام وسائل معينة؛ كعزل المرضى وعدم الاختلاط بهم ثم يقف متفرجًا ومنتظرًا حتى يزول المرض، بينما رأينا مثلًا في زمن كورونا كيف استطاع العلم وفي فترة وجيزة أن يقدم حلولًا أنقذت البشرية.

ومن هنا فإن قوة علوم الطبيعة تظهر وبصورة واضحة في قدرتها على حل التحديات التي يواجهها الإنسان، ولا يقتصر الأمر على ذلك، فإن هذه العلوم تزيد من قدرة الإنسان على التنبؤ بالأحداث المستقبلية والاستعداد لها؛ فالإنسان الأول تمكن من معرفة الشروق والغروب وتمكن من معرفة الفصول الأربعة، وبناءً على هذه المعرفة قام بالتخطيط لزراعة المحاصيل المختلفة. واليوم ومع تطور العلوم، فلقد تمكن الإنسان من التنبؤ بحدوث العواصف، كما استطاع أن يتعرف على جنس الجنين وهو في بطن أمه؛ مما مهّد للأبوين التخطيط والتهيئة للمولود الجديد، فكيف استطاع الإنسان أن يتنبأ بالحوادث القادمة؟

إنَّ هذه القدرة إنما يتمكن الإنسان منها من خلال النظريات العلمية التي يضعها علماء الطبيعة، فهذه النظريات العلمية لا تفسر له الظاهرة الطبيعية فحسب؛ بل تمكن الإنسان من التنبؤ بالمستقبل. ولكن كيف يتوصل العلماء الى النظريات العلمية وكيف نحكم على نظرية ما بأنها نظرية علمية؟

عندما يرى العلماء ويرصدون ظاهرة طبيعية مُعينة، فإنهم يحاولون تفسير هذه الظاهرة، وفي بداية محاولاتهم التفسيرية يطرحون فرضًا مُعينًا أو عددًا من الفرضيات، ولكن من أهم ضوابط هذا الفرض أن يكون فرضًا قابلا للقياس والتجريب، فلا يعد الفرض علميًا إذا لم يكن بالإمكان إخضاعه للتجربة، كأن يفترض أن الجن أو السحر كانا وراء تلك الحادثة أو أن الله تعالى هو الذي سبب الحادثة. فبغض النظر عن صحة الفرض من عدمه، فنحن في علوم الطبيعة نقتصر على الفروض القابلة للتجريب، وبما أن هذه الفرضيات من عالم ما وراء الطبيعة؛ فهي خارجة عن نطاق علوم الطبيعة، وهذا لا يعني أن أنها فروض غير صحيحة أو غير منطقية، ولكن تقع ضمن نطاق علوم الفلسفة أو العلوم الدينية ولا تقع ضمن علوم الطبيعة بشكل مباشر.

ولكي تتحول الفرضية الى نظرية علمية لا بُد من أربع قيود أساسية؛ وهي: أن نستطيع من خلال الفرض أن نُفسِّر الظاهرة الطبيعية وألّا تتعارض مع الحقائق العلمية الأخرى، وأن يكون التفسير قائمًا على العلل المسببة للظاهرة وليس من خلال علل غائية. وأخيرًا أن يتنبأ الفرض ويكشف عن وجود ظاهرة أو ظواهر أخرى جديدة لم تحدث بعد، وهذه الظواهر الأخرى يمكن الكشف عنها إما عبر حواسنا الخمس أو عبر امتداداتها، وهذا ما يميز النظرية العلمية ويسبغ عليها البعد العلمي.

قد تُطرح فرضية تتمكن من تفسير الظاهرة بدون أن تتعارض مع الحقائق العلمية، ولكن هذا التفسير لا يفسر لنا أسباب الظاهرة، وانما يفسرها على ما يُعرف بالتفسير الغائي؛ فالإيمان بوجود قوة مجهولة تدفع الأشياء والكائنات الحية نحو أهداف معينة لا يكشف لنا مصير تلك الأشياء وحركتها، فمثلًا عندما يدّعي أحدنا أن سبب حدوث الزلال المدمر في تلك منطقة ما، إنما هو لانتشار الفاحشة، وهو كما نرى تفسير ممكن، ولا يتعارض مع الحقائق العلمية، ولكنه تفسير غائي، ولا يمكننا من خلال هذا التفسير الغائي أن نضع قانونًا علميًا تجريبيًا، نستطيع من خلاله التنبؤ بحدوث الزلزال، فنقول مثلا "كلما انتشرت الفواحش سيحدث زلازل مدمر"، ولذا فلا تُصنف هذه الفرضيات بأنها فرضيات علمية.

أما الفرضية التي تقتصر على تفسير الظاهر العلمية فتظل فرضًا، ولا يمكن لها أن ترتفع الى مستوى النظرية العلمية أو القانون العلمي؛ بل لا بُد لها لكي تصبح نظرية علمية، أن تتنبأ بعدد من الظواهر العلمية التي يمكن الكشف عنها تجريبيًا ورصدها في الواقع الخارجي، وكلما كانت النظرية دقيقة في التنبؤ بظاهرة جديدة، كلما ارتفعت قيمتها ومصداقيتها وقربها من الحقيقة، ولذا عادةً ما تكون النظرية العلمية مُصاغة رياضيًا لأنَّ الصيغة الرياضية تكون ذات دقة عالية لطبيعتها الكمية.

وهكذا نجد أن النظرية العلمية تساهم في الكشف عن ظواهر طبيعية ما كُنّا نعرفها من قبل، ثم تقوم بدراسة تلك الظاهرة الطبيعية الجديدة، وفي أثناء دراستها لتلك الظاهرة الجديدة، تطرح فرضيات جديدة تتحول بعضها إلى نظريات لتكشف لنا عن ظواهر طبيعية جديدة، وهكذا تستمر حركة العلم بين الفرضيات العلمية والنظريات العلمية والظواهر الطبيعة والتي نطلق عليها الحقائق العلمية؛ فعلوم الطبيعة لا تجتر الماضي ولا تمجّد تاريخ العلم ونظرياته ولا تقدسهما؛ بل تنقلب عليهما وتصحح من مسارهما، ولذا فهي علوم نشطة وحية وإبداعية تتطور بسرعة كبيرة، لتساهم في إثراء المعرفة وتخلق تقنيات أفضل وأكثر تقدما، ولكنها في ذات الوقت علوم قلقة، لا يقر لها قرار تترقب وتبحث بكل شفافية وموضوعية.

النقد الذاتي هو الركن الركين لهذه العلوم، ووظيفة علمائها لا تتمثل في إثبات النظريات العلمية، وتمجيد أصحابها وتقديسهم؛ بل في دحض تلك النظريات ونقدها وتحديد قدراتها، ولو نظر علماء الطبيعة إلى نظرياتهم العلمية وإلى أصحابها بنظرات القداسة والرهبة، لأصاب الشلل هذه العلوم ولما تطورت قيد أنملة.

 

*******************

 

** سلسلة من المقالات العلمية تتناول علوم الطبيعة، وتُجيب على أسئلة ما إذا كانت هذه العلوم مجموعة من الحقائق التي لا يعتريها شك ولا شبهة، أم أنها محض ظنون لا يُقر لها قرار وتتغير بتغير الزمان؟

 

 

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

«متحف ومزرعة كنوز رأس الخيمة»... لوحات فنية ترسخ حب الطبيعة

وجهات سياحية خضراء للتجوال والاستمتاع بأجواء الحياة الريفية الرائعة
محاصيل غير معتادة.. الخيار الدائري والفلفل البنفسجي والطماطم السوداء
مجموعة واسعة من الكنوز الطبيعية النادرة يتجاوز عددها 2500 قطعة
المتحف يضم أحجاراً كريمة وحيوانات محنطة وأعشاباً قديمة وأصدافاً
أبوظبي: الخليج
شكّل الوعي البيئي لدى أبناء الإمارات، حافزاً مستمراً لمختلف الأجيال، نحو تقديم كل ما من شأنه العناية بالبيئة والحفاظ عليها، وإبراز الكنوز الطبيعية كلوحات فنية تستقطب الزوار، وتعمل على ترسيخ حب الطبيعة لدى أفراد المجتمع، ويبرز من بين هذه المشاريع النوعية متحف ومزرعة كنوز رأس الخيمة الطبيعية الواقعة في منطقة المقورة القريبة من مطار رأس الخيمة، والتي قرر مبدعها المهندس طارق السلمان تخصيصها كمنطقة طبيعية من ناحية الزراعة والحيوانات، وفي المكان نفسه خصص مكاناً لمتحف وضع فيه كل التحف والمقتنيات الطبيعية 100%.
وتولي حملة أجمل شتاء في العالم، في نسختها الخامسة، التي تقام تحت شعار «السياحة الخضراء»، بالتعاون بين وزارة الاقتصاد والمركز الزراعي الوطني، والهيئات السياحية المحلية في الدولة، اهتماماً كبيراً بتسليط الضوء على التجارب الزراعية المستدامة الناجحة، بهدف تحفيز الزيارات السياحية المستدامة، وذلك في إطار استراتيجية السياحة الداخلية في دولة الإمارات التي أطلقها صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، والهادفة إلى تطوير منظومة سياحية تكاملية على مستوى الدولة.
قطعة من الأمازون
«كأنك في غابات الأمازون».. هذا ما يؤكده المهندس طارق السلمان في حديثه عن روعة التجوال بين أحضان الطبيعة والأشجار الكثيفة وسماع أصوات العصافير في مزرعة كنوز رأس الخيمة الطبيعية، حيث تجد الأشجار المحلية والأشجار المعمرة والبيوت الزراعية التي يتم فيها زراعة الخضار والنباتات الموسمية، مع الحرص على ترسيخ مبدأ الاستدامة وإعادة التدوير في المزرعة عبر الاستفادة من جميع مخلفات الأشجار ونتائج التقليم في إبداع أشياء مفيدة وفنية منتشرة في أرجاء المزرعة.
تقدم مزرعة ومتحف كنوز رأس الخيمة الطبيعية سحرها الفريد، الذي يمزج بين جمال الطبيعة الخضراء وكنوزها الطبيعية الثمينة، لتحجز مكانها ضمن الوجهات السياحية الخضراء للتجوال وسط الطبيعة والاستمتاع بأجواء الحياة الريفية الرائعة، وما تحتفظ به من هدوء وجمال، حيث لن تسمع سوى أصوات الحيوانات المحلية والطيور الزائرة، كما يمكن الإقامة في أكواخ خشبية بسيطة تعود بالزائر إلى الطبيعة الخالصة مع الاستمتاع بأمسيات هادئة.
تضم المزرعة مساحات واسعة لزراعة الخضراوات الطازجة مثل الذرة والخيار والطماطم والخس والقرع، مدعومة بأفكار تبرز نمط الزراعة التقليدية والحديثة، والزراعة المائية، مع تقديم كل ما يتعلق بتراث الجبل والصحراء والبحر، مع زراعة محاصيل غير معتادة ومثيرة للاهتمام مثل الخيار الدائري والفلفل البنفسجي والطماطم السوداء.
كنوز عالمية
إلى ذلك، حرص المهندس السلمان على التجول في أنحاء العالم لاكتساب الخبرات في فنون وأسرار الطبيعة والعثور على كنوز طبيعية نادرة وجمعها في مكان واحد، حيث يزخر متحف كنوز رأس الخيمة الطبيعية بمجموعة فريدة، يتجاوز عددها 2500 قطعة، وتم تقسيمه إلى ستة أقسام، وهي: قسم الأحجار الكريمة، قسم الحيوانات المحنطة، قسم التوابل الصينية والأعشاب القديمة، قسم الأدوات والأواني المتنوعة، قسم الأصداف والشعاب المرجانية، وقسم الأحافير والهياكل.
ويضم المتحف مجموعة واسعة من الأحجار الكريمة والحفريات والقواقع البحرية المحفوظة والحيوانات والطيور المحنطة، حيث نجد أحجار الزمرد، والسفير والعقيق والجزع، والفيروز وتوباز واللازورد، أوبال والتورمالين، وهي أحجار طبيعية بأشكال وأحجام مختلفة، كما يضم مجموعة من الحفريات والأصداف، والحشرات والمحفوظة والحيوانات والطيور المحنطة، وكذلك الأعشاب والتوابل، كذلك، يضم غرفة ملح، وحديقة صبار، وغرفة زواحف، وبرك أسماك، وبركة سلاحف، وأراضي لطائر الفلامنجو، وحديقة حيوانات أليفة، كما يحوي المتحف قطعاً نادرة من الأحجار البيولوجية، معززة بشهادات دولية تثبت تاريخ تلك الأحجار وبعض المقتنيات، الأمر الذي أعطاها قيمة علمية كبيرة.
الجدير بالذكر أن المتحف يفتح أبوابه للأغراض العلمية وللطلاب الراغبين في نهل العلم والتعرف إلى التاريخ الطبيعي القديم، حيث يضم مساحات خضراء تعليمية، ويحتضن العديد من الفعاليات الفنية الخاصة بالطبيعة، كما يمكن للزوار صناعة الفخار وركوب الخيل، إضافة إلى التسوق وشراء الخضروات الطازجة من المزرعة.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى مولده.. أهم المحطات العلمية في مسيرة العلَّامة المُحدِّث أحمد عمر هاشم.
  • “المارشميلو المشوي”.. كوكب يمطر معادن يتحدى النظريات التقليدية حول العمالقة الغازية الحارة
  • الدبلوماسية العلمية.. جهود لتوسيع الشراكات وبناء قدرات الباحثين العُمانيين
  • متحف ومزرعة كنوز رأس الخيمة.. استرخاء بين أحضان الطبيعة
  • فنانون يحاكون الطبيعة.. يسرا ومنى زكي في إطلالات جديدة |شاهد
  • أستاذ علوم سياسية: العالم يشهد تغييرات ضخمة وترامب أحدث تحولًا في النظام الأمريكي
  • «متحف ومزرعة كنوز رأس الخيمة»... لوحات فنية ترسخ حب الطبيعة
  • نحّالون يسردون تجاربهم.. رحلة من الطبيعة إلى التجارة
  • مدير تعليم مطروح توجه بضرورة تحقيق أقصى استفادة من خبرات الدرجات العلمية
  • أربيل.. معرض تشكيلي يجسّد جمال الطبيعة في كوردستان (صور)