قامات مضيئة عبر “أثير” مفتاح العماري رجل بأسره يمشي وحيدا
تاريخ النشر: 28th, August 2023 GMT
أثير – مكتب أثير في تونس
أثير – محمد الهادي الجزيري
ذكّرته رغم أنّه كامن في خلايا الذاكرة، مرّ بي طيفا من ضوء بمناسبة حفل تكريمه في ليالي المدينة في طرابلس، وإلقاء الضوء والحبّ والاعتراف عليه، قبل أيّام قليلة، فهو شاعر فذّ وصحفيّ متميّز، عانى كثيرا من الظلم والإقصاء والمرض وكلّ أنواع العلل في نفسه، وكان أوّل لقاء به في العراق أيام المربد في موفى القرن الفارط، وهو الليبي وأخي بالجيرة والجغرافيا والتاريخ، وما لا يخفى من علاقات قوية تجمع الشعبين، وافترقنا طيلة هذه المدّة، وظللت أسمع عنه وأتابع مرضه وخاصة الوعكة الأخيرة والحمد لله أنّه نجا منها بحسب صوره المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي، بمناسبة تكريمه في طرابلس، إنّه الشاعر الكبير مفتاح العماري والصحفي المميّز الذي نحتفي اليوم به.
أهمّ قصائده المعروفة بعنوان: ” رجل بأسره يمشي وحيدا “، صارت كنية هذا الشاعر من فرط قراءتها وإعادة المطالبة بها في أمسيات شعرية كثيرة، وفيها من الرقّة والحسم الشديد مع الكتابة الشعرية المعهودة، خاصة فيها ارتقاء بقصيدة النثر والارتفاع بها علوّا شاهقا:
” كل شيء في غاية الفساد والأُبهَّة
لاَ الطمأنينة سقفٌ
ولاَ النّساء، هُنّ النّساء
وحيداً وكفى
باطلٌ كُل حلم لا يفضي إليّ
وكل ّاحتفالٍ بموتي هراء.
الحبرُ مملكتي
دائماً لي خبرٌ أسِّمية
ألونُ مدينةٍ أطفالها لا يعطشون
وأرسم امرأة أخرى
ورُبّما العب بالنّار التي ليست معي
ثم وحيداً أعوي : أيّتُها الذئبة
خُذيني مِن فَمِي “
عرف الحياة في مدينة بنغازي في 16 يوليو 1956، وقد انقطع مبكّرا عن الدراسة وغادرها لينضمّ إلى الشباب المجنّدين في الجيش الليبي، حيث شارك في تلك السنوات المؤلمة في حرب تشاد، ثمّ عَرف عليه حبّه وولعه بالمطالعة والثقافة والمعرفة فاستقرّ في طرابلس العاصمة ولم يسكن غيرها إلى حدّ الآن ، وقد أشرف على عديد المواقع والأبواب الثقافية وزوايا ثابتة في الصحافة الليبية وتولى عدّة وظائف الاستشارية الثقافية.
وأصدر الكثير من المجاميع الشعرية والكتب السردية والمسرحيات إلخ، كما تحصّل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر سنة 2010م، ومن إصداراته نذكر: كتاب المقامات وكتاب رجل بأسره يمشي وحيدا وكان ذلك سنة 1993 ثمّ تتالت منشوراته إلى نثر الغائب ونثر المستيقظ إلى تقطير العزلة، ولعلّ بل الأكيد أنّ صراعه لمرض السرطان منذ 2007 وتكبّده لمضاعفاته قد أثّر في مسيرته الإبداعية، لذلك قلّل حضوره ومساهماته في الفعاليات الأدبية.
كتبت الصحفية الناقدة سلمى المدني ..إثر حضورها لجلسته تكريمه :
“مفتاح العماري نقطة أوّل السطر
الاستماع إلى رجل هزم الاحباط والتنّمر والإقصاء والتآمر والمرض، رجل راهن على ما بداخله.. المارد الساكن المسكون فيه، وترجمه لنا في لون يعتبره الكثيرين له السبق في القصيدة الحرة او النثرية..، وصنع له مكانة خاصة شعرا ورواية وقراءات نقدية..”
لنستمع إليه وهو يخطّط مسيرته ويحدّد خطّه الشعري بعيدا عن الحلم ..قريبا جدّا من الواعية ..، هذا مقطع من قصيدة بعنوان ( لإيقاظ شجرة ) :
” الأمنيات وحدها لا تصنع كرسيا أو قصيدة
الأحلام البريئة كذلك ، ليست حطبا جيدا لإشعال ثورات عظيمة ،
لانتشال حديقة من الغرق ،
لاستعادة قبلة نازحة ،
لاقتلاع غيمة من قعر جبّ ،
لاصطياد ضحكة صافية من حفلة تأبين .
وللمشي أيضا ، أبعد مسافة ممكنة في السرد “
وفي حوار مطوّل يجيب على سؤال حول “قصيدة النثر” التي يعدّ العماري من أهم كتّابها عربيّا، يجيب بأقلّ ما يمكن من الكلمات:
” ثمة من عدّ “قصيدة النثر العربية” بوصفها نوعا مستقلا، مع الاعتراف في الآن نفسه بكونها جنسا وافدا، شأنه شأن أجناس أدبية وفنية أخرى، كالمسرحية والقصة والرواية والسيناريو. أنا -شخصيا- أكثر ميلا للتوصيف الأخير باعتبار قصيدة النثر في تجربة الإبداع الكتابي بلغة الضاد تمثل نوعا مستقلا، لا فرعا من سلالة كلاسيكيات الشعر العربي”
تُرجمت مختارات من قصائده إلى اللغات: البلغارية، والفرنسية، والانجليزية؛ كان آخرها في مجلة “الحياة والأساطير” الأمريكية، اقترحت بعض دواوينه كمادة للدراسات العليا في نيل الماجستير والدكتوراه، منذ عقد من الزمن يعكف على كتابة سيرته الذاتية، فضلا عن مقترحات في السرد الروائي ..
” لدي أسباب كثيرة للحزن
لكن بمجرد أن أفتح الباب لأحفادي،
سأغدو بشوشا
مثل كلب في نزهة”
يقول الناقد العراقي عذاب الركابي في تقديمه لمجموعة ” نثر المستيقظ ” عن إنسان الشاعر مفتاح العمّاري : لا يفيضُ شعرا ً يُدمي القلبَ ، وصورا ً تثقفُ العين َ ، وإيقاعات ٍ ترتّبُ خطانا المرهونة َ بنبض الصباح ، وتعبيرات ٍ تجدّد ُ نسيج الذاكرة وهوَ يتجلى لُغة ً للوصول ِ إلى لُغة ِ اللغة ِ ، دفء الدفء ِ ، وسحر السحر ِفي فوضى شعرية ٍ ضرورية ٍ، عبرَ مفردة ٍ موحية ٍ ، لا تخلو من مشاغبةٍ بلاغيةٍ مُمغنطة بحسّ شاعر ٍ يحيا على نيران ِ الكلماتِ أبدا ً ، زادهُ ، وشمسهُ ، ودليلهُ ..، وعلى ذكريات ِ عشقهِ القديم ِ – الجديدِ الممتد حتّى آخر ضفة ِ من ضفاف ِ بحر ِ الهيام . يقولُ ميخائيل نعيمة : ( الشعرُ لغة ُ النفس ِ ، والشاعرُ ترجمانُ النفس ِ ، وكما أنّ الله َ لا يحفلُ بالمعابد ِ وزخرفتِها ، بلْ بالصلاة ِ الخارجةِ من أعماق ِ القلب ِ)، وشعرُ العمّاري لغةُ نفسه ِ العاشقة ِ الحائرة ِ، وصلاة ُقلبه ِ التي لا تكون ُ قضاءً
” صحيح قد بلغت الستين
لكنني حين أكتب،
أصغي لما يُمليه طفل
طفل مخطوف،
لا يتوقّف عن صفعي “
وآخر ما أنهي هذا العناق لقامة مضيئة من بلاد العرب، كافح الظلم والحيف وقاوم بكلّ ما يملك من حبّ الشعر والحياة، وصارع المرض اللعين وهو يتعافى والحمد لله ، أشدّ على يدك يا مفتاح العماري ..فقد وضّبت بيت الشعر لقصيدة آمنت بها ..فكان لك ما تريد
” هُنَا علّمني الشِّعر
السّفرَ داخل الغرفة
فصار وطني في لُغتي
كلّ يوم أرتِّبُ خيالَهُ
وأعالجُ مساميرَه الصّدئة “
المصدر: صحيفة أثير
إقرأ أيضاً:
التراث الشعري في مرايا المبدعين الشباب
فاطمة عطفة
يحتل التراث الشعري العربي مكانة أصيلة في وجدان مجتمعنا وذاكرتنا الجمعية، لما له من أثر في بناء مخزوننا اللغوي وموروثنا الثقافي والأدبي، وهو لا ينفصل عن مساقاتنا المعرفية التي تصب كروافد في نهر الحضارة الإنسانية الكبرى، كونه يسهم، تأليفاً ونشراً وترجمة في ازدهار نهضتها واستدامتها. ويظل التراث الشعري العربي حاضراً حضوراً مؤثراً في الذاكرة عبر مئات الأسماء والأعمال التي تعكس ثراءه وتأثيره على الأجيال الشعرية المتتالية، كما يستمر الجدل المتواصل ما بين أهمية التراث الشعري والارتباط به وبين الاستفادة منه مع تجاوزه إلى الحداثة، ومع تعدد الأساليب الفنية والسردية والشعرية الحديثة، يحضر سؤال حول تعاطي الجيل الجديد من المبدعين الشباب مع هذا التراث الشعري الزاخر بعطاءات شعرية خالدة.
يقول الشاعر علوش السويط، معد برنامج مختبر الشعر ومقدمه: منذ أن كُتب البيت الأول في القصيدة العربية، وللشعر نقّاد ومتذوقون ومحبون ومبغضون، وكلهم على اختلاف مشاربهم يجتمعون على حاجة ملحّة في فهم معنى القصيدة، والذي بدوره أبرز لنا محمد بن سلام الجمحي المتوفى سنة 232 هـ، فيما ينظر له كأول دراسة للتراث الشعري في كتابه «طبقات الشعراء». ثم تبعه ابن قتيبة والآمدي وغيرهما. وبفضل هؤلاء ومن سبقهم ولحقهم، تطوّر قرض العرب للشعر، وكوّن جيل الشباب من أبي تمام وتلاه البحتري مذهباً تميّز في شعر العمود العربي، وأطلق لغة شاعرية جديدة وصوراً بيانية ساحرة لم يعهدها أحد من الأدباء في ذلك الزمن. ثم جاء من بعدهما المتنبي ليمازج بينهما حتى يبلغ شعره مرحلة من الجلوّ لم يسبقها مثيل.
ويتابع الشاعر السويط: لمّا كان الشعر ديوان العرب، انتبه رواد الدراسات الاجتماعية والإنسانية إلى دوره المحوري في قراءة حال من سبقنا، وانكبوا على دراسته لاستخراج الفنون المتنوعة حتى يتحدى جيل الشباب رعيل السابقين، ويرقى في «الكلمة» العربية كما هو الحال في شعر العباسيين الذي نافسه شعر الأندلسيين برقته وانسيابه وسهولته فأنشده القاصي والداني.
ويرى الشاعر علوش السويط أن قصور ذائقة شعراء الشباب في عصرنا يعزى في المقام الأول إلى التساهل في تعلم ضوابط اللغة العربية وقواعدها، والركون إلى ما يتداوله العامّة، والأجدر أن يبذل الشاعر الشاب مزيداً من الوقت في مطالعة شعر العرب، ولا يكتفي بالشعر أو الرواية المترجمة، وأن يطلع على فنون عربية أشمل، مثل المقامات والخطب، وأن ينشر عبر حسابه في وسائل التواصل الاجتماعي ما يكون قدوة يحتذى بها، لا نقلاً أعمى لما يجهله. وإذا ما سعينا نحن الشعراء الشباب إلى تطوير مدرسة شعرية جديدة في عصرنا على غرار شعر المهجر أو التفعيلة، فلا بد لنا من استلهام المفردة من عصرنا، ومن ثم تطويعها ضمن جماليات اللغة العربية، دون النسخ من القديم أو التساهل في الجديد. وهذا ما يصنع الشاعر المجيد، كما ذكر الشاعر معروف الرصافي في قوله:
وأجود الشعر ما يكسوه قائله
بِوَشْي ذا العصر لا الخالي من العُصُر
لا يَحسُن الشعر إلا وهو مبتكَر
وأيّ حسن لشعر غير مبتكر
ويختم الشاعر علوش السويط قائلاً: لا ريب أن ضعف موهبة بعض الشعراء الشباب في عصرنا شبيهة بتلك التي أعقبت حكم المماليك في مصر، وتصدى لهذه الفجوة محمود سامي البارودي بمدرسة إحياء التراث، وهو أمر ربما يتكرر في عصرنا هذا باهتمام بالغ من المؤسسات الثقافية وجامعاتها العلمية في دراسة التراث الشعري وتقديم الشعراء الشباب لحمل بردة الشعر.
مكانة أصيلة
من جانبه، يؤكد الشاعر سامح كعوش على كون التراث الشعري العربي يحتل مكانة أصيلة في وجدان مجتمعنا وذاكرتنا الجمعية، موضحاً أن ما نشهده اليوم من تراجع في جودة المحتوى الإبداعي والأدبي، إنما هو عائد في أحد أبرز أسبابه، إلى ضآلة معارف بعض الشعراء الشباب والكتّاب الناشئين، وخاصة في مجال الشعر الموروث قديمه وحديثه، بدءاً من المعلقات في العصر الجاهلي، وصولاً إلى روائع ما جادت به قرائح شعراء المهجر والأندلس قبلها.
ويضيف كعوش: يعلل ذلك الضعف إلى أن بعض الشعراء الشباب لا يجدون الوقت الكافي لديهم لاستعادة واستيعاب وهضم الموروث الثقافي عامة، والشعري خاصة، كما أنهم لا ينشغلون بدراسات مستفيضة لجماليات هذا الموروث ومحاولة محاكاتها ومجاراتها والكتابة على نسقها. وهنا نحن لا نشير إلى ضعف موهبة، فحتى الموهبة الضعيفة تنمّى بالتدريب والصقل والممارسة، بل هو قصور ثقافي لدى البعض وعدم معرفة بأنماط التأثير الإبداعي والفني الخلاق، والمجانب لسلبيات التواصل الاجتماعي والمحاذر لمخاطر التسرّع والتسطيح فيها.
وفي هذا السياق، تقول الفنانة التشكيلية والشاعرة موزة عيد مبارك المنصوري: الشعر ليس مجرد كلمات تقال، بل هو امتداد للروح والهوية. حين يعود الشاعر الشاب إلى تراثنا الشعري، فإنه لا يقرأ فقط، بل يعيش تلك التجارب، يشعر بنبض الكلمات، ويفهم كيف كانت اللغة مرآةً للإنسان في كل زمان. دراسة الشعر الجاهلي أو الأندلسي أو المهجري تمنح الشاعر أدوات تعبيرية أعمق، وتفتح له أبواب الخيال والتجديد، دون أن يفقد أصالته. فكل بيت قديم يحمل في طياته قصة، وكل قصيدة هي تجربة إنسانية يمكن أن يجد فيها الشاعر صوته الخاص. لماذا يهمل بعض الشعراء بعض المدارس الشعرية؟ قد يكون السبب في هذا الإهمال هو تسارع إيقاع الحياة، حيث أصبحت القراءة العميقة أقل حضوراً، وحلت محلها النصوص السريعة التي تناسب عصر التواصل الاجتماعي. كما أن بعض الشعراء يجدون صعوبة في فهم السياقات التاريخية للشعر الأندلسي أو المهجري، فيرونه بعيداً عن واقعهم. لكن الحقيقة أن هذه القصائد لم تكن مجرد وصف لزمانها، بل كانت انعكاساً لمشاعر إنسانية خالدة: الحنين، الحب، الغربة، والأمل. ربما لا يكون الأمر ضعف موهبة بقدر ما هو حاجة إلى إعادة التواصل مع هذا التراث، ليس كعبء ثقافي، بل كنافذة تطلّ منها أرواحنا على تجارب من سبقونا، فنضيف إليها أصواتنا وقصصنا الجديدة.
قاعدة صلبة
تقول الشاعرة مريم الزرعوني: التعرف إلى التراث الشعري العربي يشكل قاعدة صلبة ترفع بنية الشعر وتدعم صوت الشاعر، فالأهمية تتأتى من عوامل عدة، أولها تكوين الملكة الشعرية الأصيلة، وتمنحه القدرة على التعبير الدقيق والجميل؛ لأن شعر الأسلاف كنز يزخر بالتجارب والأفكار والصور الشعرية التي لا غنى للشاعر الشاب عنها في رحلته لتطوير أدواته الإبداعية، وليست التجارب إلا معين يمده بخبرات جاهزة، مما يختصر عليه الكثير من الجهد، ويسهم في في تشكيل ذائقته، وتمكينه من التمييز بين الغث والسمين في الأدب.
وتضيف الشاعرة الزرعوني أن التراث يساعد الشاعر على اكتشاف صوته الخاص، وتحديد الأساليب والاتجاهات التي تعبر عنه أصدق تعبير. وفي المقابل، يثار بين الفينة والأخرى تساؤل عن سبب ما يراه البعض ضعفاً عند بعض الشباب في الشعر العربي المعاصر، مقارنة بشعر المهجر أو الأندلس، ويرى هؤلاء أن الشعر المعاصر يفتقر إلى الأصالة، ويسير في ركب التقليد والمحاكاة، بينما يرى آخرون أن الشعر المعاصر قطع صلته بالتراث، ولم يستفد من كنوزه الثمينة، ويتهم البعض اللغة الشعرية المعاصرة بالضعف والعجز عن التعبير عن الأفكار والمشاعر بصدق وجمال. ومع ذلك، لا يمكننا أن ننكر وجود أصوات شعرية معاصرة واعدة تبشر بمستقبل مشرق للشعر العربي، وتجمع بين أصالة الماضي وإبداع الحاضر.