أثير – مكتب أثير في تونس

أثير – محمد الهادي الجزيري

ذكّرته رغم أنّه كامن في خلايا الذاكرة، مرّ بي طيفا من ضوء بمناسبة حفل تكريمه في ليالي المدينة في طرابلس، وإلقاء الضوء والحبّ والاعتراف عليه، قبل أيّام قليلة، فهو شاعر فذّ وصحفيّ متميّز، عانى كثيرا من الظلم والإقصاء والمرض وكلّ أنواع العلل في نفسه، وكان أوّل لقاء به في العراق أيام المربد في موفى القرن الفارط، وهو الليبي وأخي بالجيرة والجغرافيا والتاريخ، وما لا يخفى من علاقات قوية تجمع الشعبين، وافترقنا طيلة هذه المدّة، وظللت أسمع عنه وأتابع مرضه وخاصة الوعكة الأخيرة والحمد لله أنّه نجا منها بحسب صوره المعروضة على مواقع التواصل الاجتماعي، بمناسبة تكريمه في طرابلس، إنّه الشاعر الكبير مفتاح العماري والصحفي المميّز الذي نحتفي اليوم به.

أهمّ قصائده المعروفة بعنوان: ” رجل بأسره يمشي وحيدا “، صارت كنية هذا الشاعر من فرط قراءتها وإعادة المطالبة بها في أمسيات شعرية كثيرة، وفيها من الرقّة والحسم الشديد مع الكتابة الشعرية المعهودة، خاصة فيها ارتقاء بقصيدة النثر والارتفاع بها علوّا شاهقا:

” كل شيء في غاية الفساد والأُبهَّة

لاَ الطمأنينة سقفٌ

ولاَ النّساء، هُنّ النّساء

وحيداً وكفى

باطلٌ كُل حلم لا يفضي إليّ

وكل ّاحتفالٍ بموتي هراء.

الحبرُ مملكتي

دائماً لي خبرٌ أسِّمية

ألونُ مدينةٍ أطفالها لا يعطشون

وأرسم امرأة أخرى

ورُبّما العب بالنّار التي ليست معي

ثم وحيداً أعوي : أيّتُها الذئبة

خُذيني مِن فَمِي “

عرف الحياة في مدينة بنغازي في 16 يوليو 1956، وقد انقطع مبكّرا عن الدراسة وغادرها لينضمّ إلى الشباب المجنّدين في الجيش الليبي، حيث شارك في تلك السنوات المؤلمة في حرب تشاد، ثمّ عَرف عليه حبّه وولعه بالمطالعة والثقافة والمعرفة فاستقرّ في طرابلس العاصمة ولم يسكن غيرها إلى حدّ الآن ، وقد أشرف على عديد المواقع والأبواب الثقافية وزوايا ثابتة في الصحافة الليبية وتولى عدّة وظائف الاستشارية الثقافية.

وأصدر الكثير من المجاميع الشعرية والكتب السردية والمسرحيات إلخ، كما تحصّل على جائزة الدولة التشجيعية في الشعر سنة 2010م، ومن إصداراته نذكر: كتاب المقامات وكتاب رجل بأسره يمشي وحيدا وكان ذلك سنة 1993 ثمّ تتالت منشوراته إلى نثر الغائب ونثر المستيقظ إلى تقطير العزلة، ولعلّ بل الأكيد أنّ صراعه لمرض السرطان منذ 2007 وتكبّده لمضاعفاته قد أثّر في مسيرته الإبداعية، لذلك قلّل حضوره ومساهماته في الفعاليات الأدبية.

 كتبت الصحفية الناقدة سلمى المدني ..إثر حضورها لجلسته تكريمه :

 “مفتاح العماري نقطة أوّل السطر

الاستماع إلى رجل هزم الاحباط والتنّمر والإقصاء والتآمر والمرض، رجل راهن على ما بداخله.. المارد الساكن المسكون فيه، وترجمه لنا في لون يعتبره الكثيرين له السبق في القصيدة الحرة او النثرية..، وصنع له مكانة خاصة شعرا ورواية وقراءات نقدية..”

لنستمع إليه وهو يخطّط مسيرته ويحدّد خطّه الشعري بعيدا عن الحلم ..قريبا جدّا من الواعية ..، هذا مقطع من قصيدة بعنوان ( لإيقاظ شجرة ) :

  ” الأمنيات وحدها لا تصنع كرسيا أو قصيدة

الأحلام البريئة كذلك ، ليست حطبا جيدا لإشعال ثورات عظيمة ،

لانتشال حديقة من الغرق ،

لاستعادة قبلة نازحة ،

لاقتلاع غيمة من قعر جبّ ،

 لاصطياد ضحكة صافية من حفلة تأبين .

وللمشي أيضا ، أبعد مسافة ممكنة في السرد “

وفي حوار مطوّل يجيب على سؤال حول “قصيدة النثر” التي يعدّ العماري من أهم كتّابها عربيّا، يجيب بأقلّ ما يمكن من الكلمات:

” ثمة من عدّ “قصيدة النثر العربية” بوصفها نوعا مستقلا، مع الاعتراف في الآن نفسه بكونها جنسا وافدا، شأنه شأن أجناس أدبية وفنية أخرى، كالمسرحية والقصة والرواية والسيناريو. أنا -شخصيا- أكثر ميلا للتوصيف الأخير باعتبار قصيدة النثر في تجربة الإبداع الكتابي بلغة الضاد تمثل نوعا مستقلا، لا فرعا من سلالة كلاسيكيات الشعر العربي”

 تُرجمت مختارات من قصائده إلى اللغات: البلغارية، والفرنسية، والانجليزية؛ كان آخرها في مجلة “الحياة والأساطير” الأمريكية، اقترحت بعض دواوينه كمادة للدراسات العليا في نيل الماجستير والدكتوراه، منذ عقد من الزمن يعكف على كتابة سيرته الذاتية، فضلا عن مقترحات في السرد الروائي ..

 ” لدي أسباب كثيرة للحزن

لكن بمجرد أن أفتح الباب لأحفادي،

سأغدو بشوشا

مثل كلب في نزهة”

يقول الناقد العراقي عذاب الركابي في تقديمه لمجموعة ” نثر المستيقظ ” عن إنسان  الشاعر مفتاح العمّاري :  لا يفيضُ شعرا ً يُدمي القلبَ ، وصورا ً تثقفُ العين َ ، وإيقاعات ٍ ترتّبُ خطانا المرهونة َ بنبض الصباح ، وتعبيرات ٍ تجدّد ُ نسيج الذاكرة وهوَ يتجلى لُغة ً للوصول ِ إلى لُغة ِ اللغة ِ ، دفء الدفء ِ ، وسحر السحر ِفي فوضى شعرية ٍ ضرورية ٍ، عبرَ مفردة ٍ موحية ٍ ، لا تخلو من مشاغبةٍ بلاغيةٍ مُمغنطة بحسّ شاعر ٍ يحيا على نيران ِ الكلماتِ أبدا ً ، زادهُ ، وشمسهُ ، ودليلهُ  ..، وعلى ذكريات ِ عشقهِ  القديم ِ – الجديدِ  الممتد حتّى آخر ضفة ِ من ضفاف ِ بحر ِ الهيام . يقولُ ميخائيل نعيمة : (  الشعرُ لغة ُ النفس ِ ، والشاعرُ ترجمانُ النفس ِ ، وكما أنّ الله َ لا يحفلُ بالمعابد ِ وزخرفتِها ، بلْ بالصلاة ِ الخارجةِ من أعماق ِ القلب ِ)، وشعرُ العمّاري لغةُ نفسه ِ العاشقة ِ الحائرة ِ، وصلاة  ُقلبه ِ التي لا تكون ُ قضاءً

” صحيح قد بلغت الستين

لكنني حين أكتب،

أصغي لما يُمليه طفل

طفل مخطوف،

لا يتوقّف عن صفعي “

وآخر ما أنهي هذا العناق لقامة مضيئة من بلاد العرب، كافح الظلم والحيف وقاوم بكلّ ما يملك من حبّ الشعر والحياة، وصارع المرض اللعين وهو يتعافى والحمد لله ، أشدّ على يدك يا مفتاح العماري ..فقد وضّبت بيت الشعر لقصيدة آمنت بها ..فكان لك ما تريد

 ” هُنَا علّمني الشِّعر

السّفرَ داخل الغرفة

فصار وطني في لُغتي

كلّ يوم أرتِّبُ خيالَهُ

وأعالجُ مساميرَه الصّدئة “

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

مطران خليل مطران .. الأسد الباكي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تحل اليوم الاثنين ذكرى وفاة واحد من أهم الشعراء في العصر الحديث والذي يعتبر من اصحاب حركة التجديد في الشعر فخرج بأسلوبه البسيط من الأشكال التقليدية إلى أشكال حديثة تتناسب مع العصر إنه الشاعر اللبناني خليل مطران الذي وضع لنفسه واسمه مكانة كبيرة بين الكبار في الأدب والشعر .

لقب الشاعر خليل مطران بشاعر القطرين لانه عاش في مصر ولبنان لكن بعد وفاة الشاعران حافظ ابراهيم واحمد شقي اطلق عليه شاعر الاقطار العربية فمع تغييره النمط الشعري والتجديد فيه وادخال الشعر القصصي والتصويري للادب العربي إلا أنه حافظ على اصول اللغة والتعبير.

قال عنه طه حسين عميد الادب العربي : أنه لم يكن محدود الأفق، ولم يكن مقصورًا على ألوان معينة من الثقافة، كما أنه لم يكن مقصورًا على ألوان معينة من ألوان الحياة، فهو لم يقف نفسه على الشعر، ولكنه اشترك فى النثر ايضا ، واشترك فى الصحافة كذلك، لم يتخذ الشعر صناعة ومهنة، ولم يتخذه على كل حال مكسبا ، وإنما كان الشعر بالقياس إليه فنا يهواه وتألفه نفسه وتطمح إليه طبيعته

وقال عنه الشاعر حسن طلب: إن الشاعر اللبناني خليل مطران، كان يدافع بشكل دائم عن الحريات، وخاصة حرية الصحافة، يكافح لإزالة هذه القيود بالشعر، الذي اعتبره سلاحا ووطنا.

اهتم مطران بالشعر القصصي والتصويري والذي تمكن من استخدامه للتعبير عن التاريخ والحياة الاجتماعية العادية التي يعيشها الناس، فاستعان بقصص التاريخ وقام بعرض أحداثها بخياله الخاص، بالإضافة لتعبيره عن الحياة الاجتماعية، وكان مطران متفوقًا في هذا النوع من الشعر عن غيره فكان يصور الحياة البشرية من خلال خياله الخاص مراعيًا جميع أجزاء القصة.
أصدر مطران العديد من الدواوين الشعرية منها: المساء، وموت عزيز، والأسد الباكي، ووفاء، والجنين الشهيد، والمنتحر، والطفل الظاهر، وغيرها الكثير من القصائد المميزة لمطران.

مقالات مشابهة

  • الشاعرة زوات حمدو: الشعر موهبة لها أسس ومقومات
  • شيخ الأزهر يحاضر علماء ماليزيا عن وسطية الإسلام: الحوار مفتاح التعايش السلمي
  • رؤية الشعر يتساقط في المنام.. مفاجأة في تفسير ابن سيرين
  • البيت الأبيض يرد على ما أثير حول موقف بايدن من الانسحاب من السباق الرئاسي
  • وزير الخارجية من إستونيا: تسهيل وصول المساعدات لغزة وحل الدولتين هما «مفتاح السلام»
  • فرنسا تسحب مشروبًا غازيًا؛ فماذا عن وضعه في سلطنة عمان؟
  • ???? نازح يحكي كيف قتل الدعامة مواطن رفض يعطيهم مفتاح سيارته وقصص حزينة جدا
  • نائب نصر الله يمنح تل أبيب سبيلا وحيدا يضمن وقف حزب الله عملياته ضد إسرائيل ويمنع الحرب الشاملة
  • أبطال الإمارات في تحدي القراءة العربي.. علامات مضيئة في كتاب الحاضر والمستقبل
  • مطران خليل مطران .. الأسد الباكي