في ضوء أن قيم "الحق والخير والجمال" هي الشغل الشاغل للناقد والمترجم السوري حنا عبود، وبما أنها قيم لا سقف لها ولا تنتهي، بل ترافق البشرية دائماً، وهي إشارة حسب قوله عائدة لأرسطو، الذي رأى أن الملحمة هي أكمل الفنون وأوسعها، فكان من الطبيعي أن يترجم لنا الناقد عبود كتاباً عظيماً كالإلياذة، بحسب تعبيره، للنسخة التي حررها الإنجليزي صموئيل باتلر، وقد صدرت عن "ميتافيرس برس" للنشر والطباعة في الإمارات.

مهّد المترجم عبود للكتاب بمقدمة بعنوان (الإلياذة وقوانين السرد الفني) مقدماً فيها مجموعة توضيحات، على القارئ أن يطّلع عليها ويعرفها قبل أن يباشر قراءة الإلياذة حتى تتيسر عملية القراءة له، منها، أصول بعض الكلمات والأسماء التي ترد بمترادفات عدة في سياق الملحمة، يثبتها القارئ لديه فلا يضيع، أما عن الأساس الميثولوجي لحرب طروادة الذي لا بد من أن يطلع عليه القارئ، حتى يعرف أسباب انقسام الآلهة إلى فريقين، يذكر عبود: الفريق الأول مع الإغريق وهو الأكثرية، والآخر مع الطرواديين، ويمكننا اعتبار المقدمة دراسة هامة، ربما لم تحظ الملحمة بمثلها في الكتابة العربية، فقد رأى عبود أن أسلوب الإلياذة هو أسلوب بري، مكتنز بوصف الأنهار والأزهار والسهول والجبال والخيول والعربات والرماح والسيوف والدروع والتروس، بل إن هناك وصفاً تفصيلياً للدرع الذي يصنعه الرب الحداد هيفيستوس للبطل أخيل بناء على طلب أمه ثيطس، كما أشار عبود إلى أن القارئ في الإلياذة يجد نفسه دائماً في قراءة "متوترة"، إذ دائماً ثمة دماء ودائماً هناك ساحة حرب، والصرعى ليسوا بالعدد القليل، ونقطة ثالثة، الحرب في الإلياذة تدور بين الناس والناس، فهي حرب بشرية تعكس نوازع البشر المختلفة والمتضاربة.

إطار قصصي

كما يشير عبود إلى أن ثمة التزاماً بالإطار القصصي، يلتزم هومر بقصة "إيليون" أو "إيليوم" كما يسمي بعضهم طروداة، وكلمة "الإلياذة" تعني قصة إيليون، وهو إطار قصصي وليس إطاراً تاريخياً، ولكن من خلال "غضب أخيل" يطّلع القارئ أو السامع على قصة طروادة كاملة، والأسلوب الحيادي في الوصف متوافر في الملحمة، فدائماً يقف المؤلف على مسافة واحدة من كل الشخصيات، بل يحاول أن يلتزم بالصدق الفني مهما أضاف تفصيلات من عنده مما يقتضيه الأسلوب الأدبي، وعلى الرغم من بطولة أخيل في "الإلياذة"  فإنه يسجل الانتقادات التي توجه إلى هذا البطل أو ذاك، كما أن كل الصور والمشاهد والتشبيهات التوضيحية مأخوذة من عصر البرونز وعصر الزراعة عموماً، وحتى عندما يقدم المشاهد في قلب إيثاكا، أو في السهل الطروادي، فإنه دائماً يأتي بالتشبيهات الملتقطة من المرحلة الزراعية، على الرغم من قيام ما يسمى الدولة / المدينة، كما أشار عبود إلى أسلوب الالتفات الذي هو أسلوب هومري، فهو يحول الكلام من الراوي الغائب إلى الراوي المتكلم، ولكن هذا لا يكون إلا مع الشخصيات الإيجابية، أما الشخصيات السلبية فإنه لا يستخدم معها هذا الأسلوب.

الأساس الميثولوجي

ثمة أساس ميثولوجي لحرب طروادة لا بد أن يطلع عليه القارئ حتى يعرف سبب انقسام الآلهة في هذه الحرب إلى فريقين: الأول مع الإغريق وهو الأكثرية، والآخر مع الطرواديين، والقصة الميثولوجية  يختصرها لنا عبود بالقول:

والد أخيل اسمه بيليوس، قائد المرميدون، زف هذا الرجل إلى ربة مائية تعيش في أعماق المحيط اسمها ثيطس، وبما أنها ربة فقد وجهت الدعوة إلى بقية الأرباب، باعتباره زفافاً مقدساً، والمخلوق سيكون بطلاً نصف إله ونصف بشر، ولكنها احترست ألا توجه دعوة إلى إريس Eris (ربة الشقاق والنزاع والخلاف، وكل ما ينشأ بين اثنين أو أكثر من سوء تفاهم) وهي شقيقة رب الحرب أريس Ares فقد خشيت أن تفلت هفوة من ربة الشقاق فتفسد الحفل المقدس، وحضر الآلهة ومعهم الربات العظيمات، وكان الحفل ناجحاً تماماً لولا غيرة إريس ربة الشقاق، فقد اغتاظت لأن الآلهة لا يرغبون في حضورها، مع أنها ربة كاملة الربوبية، بل إنها تعمل بين البشر فتزرع النزاعات والشقاقات بهمة عالية لا يجاريها أحد من الآلهة، فهي تسبق أخاها إله الحرب أريس، وبعد أن تنهي عملها يتدخل بعد أن تكون هيأت له الظروف والأجواء المشحونة، لذلك رأت نفسها مغبونة في رفض دعوتها إلى الحفل، وهي التي تقوم بالعمل الشاق، صحيح أنها لم تذهب ولكنها، نقلت هذه المرة عملها إلى الآلهة أنفسهم، فقد أخذت تفاحة ذهبية وكتبت عليها "إلى الأجمل" ووقفت في المدخل ورمتها من باب البهو الكبير، فراحت تتدحرج فشاهدتها الربات، وأرادت كل واحدة منهن أن تملك التفاحة، لأنها تعتبر نفسها أجمل الربات.

نبوءة كاسندرا بريام

ومن أبرز الربات المتنافسات على التفاحة: هيرا زوجة زيوس وربة السماء العليا بلا منازع، وأثينا ربة الفن والحرب، وأفردويت، ربة الجمال، ذهبت الربات إلى زيوس وسألنه أن يختار الأجمل بينهن، فرفض لأنه يعرف ماذا يعني الاختيار وإلامَ يؤدي، ولكنه أرشدهم إلى راع اسمه باريس (ألكساندر) كانت النبوءة تزعم أنه سيكون سبباً في دمار طروادة، فأرسله أبوه بريام، ملك طروادة، ليرعى القطعان بعيداً، خشية أن تتحقق النبوءة، ويقال إن النبوءة جاءت من أخته كاساندرا التي كانت تنبئ بكل ما هو مشؤوم.

ولم تستطع الربات المتخاصمات على التفاحة الصبر، فذهبن إلى باريس واحتكمن إليه، بعد أن وعدته كل ربة بوعد تلتزم بتحقيقه، فوعدته هيرا بالشباب الدائم ووعدته أثينا بالحكمة ووعدته أفروديت بالزواج من أجمل امرأة في العالم، وعلى الفور يقدم التفاحة إلى أفروديت، التي تسعى إلى توفير ظروف رحلته إلى إسبارطة ودخول منزل منيلاوس في سفارة كبيرة من طروادة، ليرى هناك "هيلين" أجمل امرأة في بلاط إسبارطة وفي العالم، وهيلين هي زوجة ملك إسبارطة منيلاوس ذاته، يخطفها باريس فيجتمع الإغريق ويعلنون الحرب على طروادة، الحرب التي استمرت 10 سنوات بحجة استرجاع الزوجة المخطوفة.

ثروة طروادة

ويرى عبود أن التحليل المادي للأحداث يذهب إلى أن الطمع بثروة طروادة هو الأساس، ولكن المسار الميثولوجي يروي قصة طريفة تجيب على سؤال القارئ: إذا كانت هيلين زوجة منيلاوس فما دخل أخيل وأوديسيوس وديوميدس وبقية الملوك والأمراء؟ لماذا ذهبوا معه وقاتلوا من أجل امرأة؟ فالقصة تروي أنه تقدم لخطبة هيلين كل الملوك والأمراء الذين اشتركوا في حرب طروادة، ما عدا أغاممنون لأنه شقيق منيلاوس وكان متزوجاً من شقيقتها كليتمنسترا، وقد كان الشرط الذي فرضه أبوها على منيلاوس أن يوقع كل خطابها الآخرين على تعهد يلتزمون به، وهو أنه إذا وقع لهيلين أي مكروه، ومنه الخطف، فعليهم أن يشتركوا جميعاً في إنقاذها، أو مساعدتها في الورطة التي تقع فيها.

مرافقة الأجيال

ورأى عبود أن العظمة الحقيقية لأي كتاب هي في أن يظل مرافقاً للبشرية، منذ السنوات الأولى لولادته، و"الإلياذة" من الكتب التي أثبتت أنها عظيمة حقاً فمنذ 3 آلاف سنة وهي ترافق الأجيال البشرية، وهي دائماً على مزيد من الترجمات الجديدة والانتشار الأوسع، وهذه ظاهرة تسترعي الاهتمام وتستدعي الدراسة، إن الإلياذة -وقلة من الكتب- رافقت على مدى تاريخ النشاط الأدبي، والأوروبي منه بصورة خاصة، وإن أهملت في الشرق، فما سبب الجاذبية في هذا الكتاب الذي مرت عليه آلاف السنين، وفي كل مرة يتقبله القراء كأنه كتاب جديد كل الجدة!؟

يجيب عبود على أسئلته بالقول: هناك تفسيرات عديدة لعظمة هذا الكتاب وللتراث اليوناني عامة، ولكن الأكثر قبولاً هو ما ذهب إليه أرسطو من أن السامي (الذي يحوز الحق والخير والجمال) إذا ظهر مرة ظهر كل مرة، ولو كان هناك أثر أدبي أرقى من الإلياذة أو التراث الإغريقي القديم لكان له أكثر مما للإلياذة أو غير الإلياذة، ولا يستطيع المتتبع أن يحصر حتى عدد الترجمات الجديدة التي تظهر للإلياذة باستمرار في أوروبا أو أمريكا الشمالية أو أستراليا، ففي كل عام نقف على الكثير من الترجمات الجديدة التي يتفنن المترجمون في إخراجها وشرحها والتعقيب عليها.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني الإمارات

إقرأ أيضاً:

وزارة النفط تُحيي الذكرى السنوي للشهيد

الثورة نت/..

أحيت وزارة النفط والمعادن والوحدات التابعة لها، اليوم، فعالية الذكرى السنوية للشهيد 1447هـ.

وفي الفعالية أشار وزير النفط والمعادن الدكتور عبدالله الأمير، إلى أن إحياء هذه المناسبة تجسيدا لعظمة الشهادة ومكانة الشهداء والوفاء لما قدموه من تضحيات في سبيل الحق والذود عن الأمة، معتبرا حالة العزة والكرامة التي يعيشها الشعب اليمني اليوم هو بفضل تضحيات الشهداء الذين بذلوا دمائهم في سبيل الله والدفاع عن الوطن.

ولفت إلى أن هذه المناسبة ليست ذكرى عابرة ولكنها محطة ايمانية ووطنية لتجدد العهد والوفاء لأولئك الذين رحلوا بأجسادهم وبقوا بأرواحهم تضيء طريق الكرامة والصمود.

وأكد الوزير الأمير، أهمية إحياء الذكرى السنوية للشهيد لاستذكار مواقف الشهداء ومآثرهم والسير على دربهم في البذل والعطاء والإخلاص وإتقان العمل ومراعاة الله في كل الأعمال، واستشعار روح المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع في الاهتمام بأسر الشهداء ورعايتهم.

وتطرق إلى أن العدو كلما أمعن في استهداف الشعب اليمني ورجاله الأوفياء كلما زادهم ذلك إصرارا وعزيمة دفاعا عن المواقف الثابتة لنصرة الشعب الفلسطيني ودفاعا عن الدين والوطن ومقدسات الأمة.

وفي الفعالية التي حضرها نائب وزير النفط والمعادن محمد النجار ووكيل الوزارة المساعد لشؤون المعادن الدكتور يحيى الأعجم، ورؤساء الوحدات التابعة للوزارة، أكد عضو مجلس الشورى جبري إبراهيم، أهمية استلهام العزم وروح التضحية والفداء والموقف الثابت والقيم والمبادئ العظيمة التي ضحى من أجلها الشهداء.

ولفت إلى مكانة الشهادة وأثرها وعطائها وما يكتبه الله لعباده المستضعفين في جهادهم وصبرهم وتضحياتهم وصمودهم وتوكلهم عليه وثقتهم به وتمسكهم بالموقف الحق، مبينا أن الشهادة في سبيل الله هي تضحية بتوفيق من الله سبحانه وتعالى في موقف الحق وفي إطار قضية عادلة تستحق التضحية.

وحث على تعزيز ثقافة الجهاد والاستشهاد لما لها من أثر في مواجهة قوى الاستكبار العالمي وإفشال مخططات الأعداء.

بدوره أشار عبدالوهاب مطهر في كلمته عن أسر الشهداء، إلى ما تمثله هذه الذكرى من أهمية للتعريف بالتضحيات التي قدمها الشهداء في الدفاع عن الوطن وسيادته.

وأكد أهمية إحياء هذه المناسبة التي تجسد عظمة الشهادة ومكانة الشهداء والوفاء لما قدموه من تضحيات في سبيل الحق والذود عن الأمة، مبينا أن تضحيات الشهداء أثمرت اليوم في المواقف العظيمة للشعب اليمني في مساندة الشعب الفلسطيني.

ولفت إلى دلالات إحياء ثقافة الجهاد والاستشهاد في نفوس المجتمع وترسيخ مبادئ العزة في مواجهة قوى الغزو والاحتلال حتى تحقيق النصر.

تخلل الفعالية، قصائد وفقرات معبرة، وتكريم أسر الشهداء.

مقالات مشابهة

  • خبير أمن بحري يُحذّر من بروز جبهة جديدة في أمن الملاحة بالبحر الأحمر إثر تخريب كابلات الأنترنت (ترجمة خاصة)
  • وزارة النفط تُحيي الذكرى السنوي للشهيد
  • تامر حبيب: فخور بانتمائي لحضارة عظيمة أبهرت العالم بافتتاح المتحف المصري الكبير
  • «صطيف» يطالب هولندا بعدم ترحيله الى سورية
  • السفير الأردني في القاهرة العضايلة: نفخر بمصر حضارةً عظيمة وإنجازات تتجدد
  • عُمان.. مواقف سيخلدها التاريخ
  • وعد بلفور.. خطيئة بريطانيا التي شرعنت انتزاع الحق الفلسطيني
  • وزير الزراعة: هدفنا زرع الأمل والجمال والحياة في كل شارع وقرية لبنانية
  • ليلة مصرية عظيمة.. عمرو أديب يشيد بحفل افتتاح المتحف المصري الكبير
  • إنجي علاء: مصر دايما بتثبت إنها بلد العظمة والجمال والحضارة