“أوبنهايمر”.. كيف تقتل بضمير مرتاح!
تاريخ النشر: 28th, August 2023 GMT
ناقد فني – بتجــرد: كعادة أي فيلم يسبقه دعاية كبيرة تصوره كفيلم العام المرشح لنيل جوائز أو لتحقيق أعلى إيرادات شباك التذاكر، يستمر مسلسل تَتْفِيه الشر الأميركي، الذي عادةً ما ترعاه هوليوود وصناعة السينما بالولايات المتحدة، التي رغم كونها والحديث هنا عن هوليوود، ليبرالية شديدة التطرف بما تسبغه على نفسها من حرية التعبير والرأي والاعتناق والفكر، إلا أنها الْمُحلل والمسوغ والمفكر المبرر لجميع الشرور الأميركية عبر التاريخ الحديث، عبر تلاعبها بالحقائق وتزوير التاريخ لتكون قراءته فقط وفق وجهة النظر الأميركية ورغبتها لما تريد أن تكون الأحداث عليه.
بالطبع، عدم تعميم ما سبق لا ينفي أن الغالبية العظمى من منتوج السينما الأميركية ينطبق عليه التوصيف السابق، عدا القلة القليلة جدا من أعمال سينمائية منصفة غردت خارج السرب، وإن كانت في واقع الحال الشذوذ الذي يثبت القاعدة.
ما استدعى هذه المقدمة، تعقيب سأحاول أن يكون مختلفا بشأن فيلم أوبنهايمر الذي لم يخرج الجدل بشأنه بين ممجد وناقد، ولكلٍ بالطبع حججه التي عادةً لا تخرج من إطار من يراه تحفة فنية شدته بتصويره وحواراته وموسيقاه التصويرية، وسيناريو الفيلم وأحداثه، والإبداع بأداء أبطاله وحواراتهم، وبين من لم يخرج عن تابو التشكيك بأي عمل فني أميركي ورفض ما جاء فيه بالمطلق.
أما الزاوية التي سأعلق من خلالها فستكون سيرا على ركب فيلسوفة “الشر” ومنظرته الأبرز حنة آرنت، وتقديمها لما سمته تفاهة الشر أو banality of evil في سعيها لتفسير ارتكاب جرائم ومجازر من قبل بشر طبيعيين لن نتوقع قبل ارتكابهم للجرم فعلهم له، ولا عدم شعورهم بتأنيب ضمير نتيجة اقترافهم له.
الفكرة واحدة، وإن استطعنا استغلالها وإسقاطها على الدعاية الأميركية بشقها الرسمي والخاص، السياسي والأدبي والفني، سنجدها نهج دأبت الولايات المتحدة انتهاجه لتبرير أفعالها.
سياسيا مثلاً، كان برنارد لويس ومارتن كريمر وغيرهما من المستشرقين الأميركيين، أو كما يحلو لهم التسمية كمتخصصين مناطقيين أو بالدراسات الشرق الأوسطية، المحللين والمبررين والمسوغين علميا وفكريا وقانونيا للكثير من السياسات والتصرفات الخارجية الأميركية بما فيها حروبها وغزواتها وتدخلها بسياسات الدول الأجنبية، ورعاية أجهزتها للأنظمة الشمولية والديكتاتورية.
هذا من جانب، ومن آخر، كانت هوليوود التي لا تخفي عداءها للنهج المحافظ بما فيه الحزب الجمهوري والرؤساء الأميركيين، اللاعب الأبرز شعبيا على المستوى المحلي والعالمي في توجيه الرأي العام تجاه القضايا الأميركية، وتصويرها على الدوام بما يخدم أهدافها وسياساتها، وبما يبرر نهج “كيف تقتل بضمير مرتاح” دون أن تُلام، بل تشجيعك والتبرير لك.
البداية المبكرة كانت في العام 1949 عقب تقسيم برلين وبداية الحرب الباردة برعاية ثقافية وفنية من وكالة المخابرات المركزية الأميركية، مرورا بحرب فيتنام والعقود التي أعقبتها وشهدت حركة سينمائية أميركية نشطة لتصوير بسالة أميركا وحقوقيتها ووحشية الشعب الآسيوي الذي لم يختلف في إجرامه كما صورته هوليوود عن الهنود الحمر، والإيطاليين عرابي عصابات المافيا، والمكسيكيين الهمج المغتصبين، والسود القتلة، وتجار المخدرات الكولومبيين، والعرب والمسلمين الإرهابيين، والروس المتوحشين، والصينيين الدنيئين.
القائمة طويلة ولا يمكن حصرها هنا، وإن خرجت دراسات وأبحاث جادة تحدثت عنها وكيفية صناعة العدو على الطريقة الأميركية وتشويه سمعته واختزاله بصورة نمطية معينة تبرر لأي إجراء سابق أو حاضر ومستقبلي بشأنه.
في فيلم أوبنهايمر أو عراب القنبلة النووية الأميركية، كان لا بد حتى عقود من الجريمة الأبشع عبر التاريخ، من الاستمرار في تأكيد أن مجزرة هيروشيما وناغازاكي النووية، شر أخلاقي لا مفر منه، بل هو خير نتائجه على فظاعتها أسدت البشرية معروفا بإنهائها الحرب العالمية الثانية، بواسطة أمة أخلاقية لها ما يسوغ فعلتها تجاه إجرام الإمبراطورية اليابانية، وكحركة استباقية كيلا يفكر الاتحاد السوفيتي أو أي من قوى الشر في العالم اتخاذ خطوة مماثلة.
هذا هو جوهر ومغزى الفيلم باختصار عبر استغلال السيرة الذاتية لبطل الفيلم لتسويق هذه الفكرة الشريرة كأحد أهم عمل خير قدمته أميركا للعالم أجمع وشعوبه بمختلف أطيافه!
استهداف المدينتان اليابانيتان قد يبدو شرا لناظره، لكنه شر تافه يحمل شق خير وآخر مأساوي يمكن التغاضي عنه مقابل تفاهة شره.
هذا من جهة مفهوم تفاهة الشر لدى حنة آرنت، أما إن استخدمنا تفسير زيجمونت باومان للهولوكوست واستخدمناه على الحدث، فسيفيدنا لتبيان عدم شعور المنظومة الأميركية كاملة تجاه الفعل بالذنب، بما فيه من أصدر أمر إلقاء القنبلة النووية، والطيار الذي سار بها، والمهندسين والعلماء الذين صنعوها، وحتى حارس المستودع وعامل النظافة والمطعم الذين كانوا جزءا من فريق العمل، جميعهم كانوا جزءا من المنظومة البيروقراطية للدولة الأميركية، أقسموا على الولاء لقيمها الخاصة المفروضة عليهم بغض النظر عن مرجعياتهم الأخلاقية الإنسانية، والتزموا بتنفيذ الأوامر بناء على ذلك، ولكن دون أن يشعر أي منهم بأن عملهم في هذه المنظومة تسبب بعملية القتل المباشر لربع المليون من اليابانيين الذين قضوا بسبب القنبلة، فهم لم يشتركوا بشكل مباشر في فعل القتل نفسه الذي تكفلت به القنبلة، ومهمتهم اقتصرت على جزئيات بعينها كثيرة ومتعددة جدا في الجريمة لدرجة تاهت معها المسؤولية المباشرة عنها.
لم يتطرق فيلم أوبنهايمر لتبعات القنبلة النووية وأثرها المدمر على اليابانيين على مدار عقود جسديا ونفسيا، إلا بشيء من الاستخفاف المقصود لتأكيد تفاهة الشر، ولا عرض صور من الدمار الشامل الذي تسببت به حتى لا تُكشف حجم المأساة بالتأكيد.
هذا فضلاً عن جمل مقصودة بحواراته المملة الطويلة، حيث أكد بأحدها مسؤول أميركي استبعاد مدينة يابانية كأحد الخيارات الاثنا عشر كهدف لكونها تحمل بعدا ثقافيا، والمهم للمسؤول، لأنها كانت حيث قضى شهر العسل برفقة زوجته!
ثلاث ساعات عبثية مملة سيقضيها من سيتابع الفيلم، متوسط الإخراج والموسيقى التصويرية والحبكة السينمائية، والسيناريو غير المقنع بتاتا إلا بنجاحه بتوظيف سيرة ذاتية لأبو القنبلة النووية الأميركية ومدير مشروع مانهاتن، لتكريس حقائق وطمس أخرى، وممارسة مزيد من الخداع والتضليل عبر خلق أيقونة أميركية أو إعادة إحيائها ومن ثم تمرير الرسائل من خلالها، التي يجب أن تنجح، وقد حدث ذلك دوما عبر هوليوود، ومع الغالبية العظمى التي تأثرت مسبقا بالضجة الكبيرة للفيلم قبل عرضه، وبآراء النقاد الإيجابية بشأنه، فكان الجميع وكالعادة دمى عرائس يتم تحريك حبالها.
تقييمي بفشل الفيلم على جميع الأصعدة لا يعني إنكاري بنجاحه فيما أراه فشلاً، فقد حرف بوصلة المشاهد من النقمة تجاه أوبنهايمر المتحمس جدا لصنع القنبلة النووية والسعيد بنجاحها في القضاء على الخصم الياباني بداية، دون أن يخفي أمنية لم تتحقق باستخدامها على الألمان المهزومين في الحرب كانتقام لبني قومه من اليهود ضحايا المعسكرات النازية. وهو ما عبر عنه في عدة مشاهد، ليتوه المشاهد بين وطنية أوبنهايمر ورغبة الانتقام لديه من النازيين. لكن هذه الرغبة والسعادة سرعان ما تم طمسها بالترويج لأخلاقية أوبنهايمر الرافض للقنبلة الهيدروجينية والنشط ضد استخدام أسلحة الدمار الشامل، والمروج لاتفاقيات أممية للحد من تصنيع واستخدام الأسلحة النووية، يتخللها مشهد مقت الرئيس الأميركي ترومان له عقب مقابلته واستماعه إليه، والطلب بألاّ يدخل هذا البكاء كما وصفه، مكتبه مرة أخرى.
أوبنهايمر الذي قتل مئات آلاف اليابانيين بضمير مرتاح في البداية، تم تحريف نقمة المشاهد تجاهه، بتصوير عداء رئيسه السابق له ومكره الذي توجهه بتشويه سمعته وحرمانه من تجديد تصريحه الأمني.
عند هذه المرحلة، يتم التلاعب بالمشاعر الإنسانية والعاطفة التي ترفض الظلم والمكر، فتتناسى أخطاء المجرم لمجرد تعرضه للخيانة، وتتحول النقمة والكره تجاهه لتعاطف نجح صانع السيناريو بتحقيقه مع مشاهدين تعاطفوا مع بطل أميركي American hero تم تقديره أخيرا بعد عقود من ظلم تعرض له رغم ما قدمه للوطن وشعبه!
أوبنهايمر وإن كان الفيلم يلخص السيرة الذاتية لروبرت أوبنهايمر كهدف معلن، إلا أنه دون شك كرس ورسخ مفهوم تفاهة الشر الأميركي مهما كانت شناعته وتأثيره على الآخرين، وأكد المؤكد من حيث “كيف تقتل أميركا بضمير مرتاح”!
View this post on InstagramA post shared by Cillian Murphy (@cillianmurphyofficiall)
main 2023-08-28 Bitajarodالمصدر: بتجرد
كلمات دلالية: القنبلة النوویة
إقرأ أيضاً:
«آلات الشر».. جيش الاحتلال الإسرائيلي يستخدم روبوتات مفخخة لتدمير مستشفيات غزة
يواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي، استهداف البنية التحتية الصحية في قطاع غزة، باستخدام أساليب وتقنيات حديثة، إذ أقدم على تدمير مستشفى العودة شمال القطاع باستخدام روبوت مفخخ، ما أسفر عن تضرر بعض مرافق المستشفى، بحسب ما أفاد مراسل «القاهرة الإخبارية».
مدير مستشفى كمال عدوان: الروبوتات المفخخة اقتربت من المستشفى وأفرغت صناديق متفجرةوأكد الدكتور حسام أبو صفية، مدير مستشفى كمال عدوان في مشروع بيت لاهيا شمال غزة، أن الروبوتات المتفجرة التابعة للاحتلال اقتربت للمرة الأولى من المستشفى، ما شكل تهديدًا كبيرًا.
وأشار أبو صفية في تصريحات صحفية، إلى أن الروبوتات كانت قريبة جدًا من المستشفى، وأفرغت صناديق متفجرة أدت إلى تدمير السواتر داخل المستشفى وتحطيم الأبواب الداخلية. وأوضح أن الدمار كان مروعًا، وأسفر عن إصابة 20 شخصًا في أقسام المستشفى، بينهم خمسة من الطاقم الطبي.
وأوضح أن الطائرات المسيرة عادت صباح اليوم، ولكن هذه المرة كانت أكبر حجمًا وتحمل صناديق متفجرة تزن أكثر من عشرين كيلوجرامًا، وجرى إسقاطها على المنازل المحيطة بالمستشفى، ما تسبب في انفجارات تليها حرائق.
الأمم المتحدة تحذر من التأثير المدمر للهجمات الإسرائيلية على المستشفيات في شمال غزةوفي سياق متصل، حذّر مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) من التأثير المدمر للهجمات الإسرائيلية على المستشفيات في شمال غزة، مشيرًا إلى أن هذه الهجمات تزيد من معاناة المدنيين في المناطق المحاصرة. وأعرب المكتب عن قلقه من تقارير تفيد باقتحام الجيش الإسرائيلي للمستشفى الإندونيسي في شمال غزة، وإجبار العاملين والمرضى على الإخلاء، بحسب وكالة الأنباء الفلسطينية «وفا».
وأوضح المكتب أن الهجمات على مستشفى العودة وكمال عدوان تأتي في وقت يتواصل فيه الحصار الإسرائيلي على بيت حانون وبيت لاهيا وأجزاء من جباليا لليوم التاسع والسبعين على التوالي، لافتا إلى أن الأمم المتحدة وشركائها يواصلون الضغط للحصول على الوصول الإنساني إلى المنطقة لتقديم الدعم للمدنيين المحاصرين في ظروف مأساوية.
رفض 48 محاولة من الأمم المتحدة لتنسيق الوصول إلى المناطق المحاصرة في الشمالوذكر مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية، أنه منذ بداية العدوان الإسرائيلي على شمال غزة في أكتوبر 2024، رفضت 48 محاولة من أصل 52 من الأمم المتحدة لتنسيق الوصول إلى المناطق المحاصرة في الشمال. وعلى الرغم من الموافقة على أربع محاولات إنسانية، فإنها واجهت عوائق شديدة.
وأشار المكتب إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي، سمحت فقط بتنفيذ 40% من طلبات التحركات الإنسانية في قطاع غزة خلال شهر ديسمبر الجاري، وهو ما يسلط الضوء على تعقيد وصول المساعدات إلى المناطق المتضررة.