حين وصف الله تعالى المؤمنين بأنهم ".. عن اللغو معرضون"، فهو لا يضفي عليهم مجرد قيمة أخلاقية متعالية، وإنما هو -سبحانه- يؤكد على قيمة حضارية، فـ"اللغو" ليس مجرد قول سخيف غير ذي معنى، وإنما هو ممارسة واعية ومقصودة، فعقل اللاغي يعي أنه لغو، ولكن صاحبه يتعمد الاستمرار فيه لتحقيق هدف ما وهو صرف الناس عن تناول القضايا الحقيقية التي هي في علاقة بحياتهم وبمصالحهم وبمستقبلهم.
لقد اشتغلت مختبرات "اللغو" في تونس منذ 2011 بشكل فعال، وقد نجحت حقيقة في إغراق الناس في تفاهة الاستثارة وتفاهة الاستجابة.
إن الإعراض عن "اللغو" ليس مجرد سلوك أخلاقي فردي، إنما هو ارتقاء جماعي إلى مرتبة "الأناقة الحضارية"، وهو حرص على حماية النسيج المجتمعي حتى لا يمزقه غبار "اللغو"، إنه تعلق الهمم العالية بالقضايا الكبرى، وهو حالة انجذاب شائق نحو مستقبل أرقى وأنقى، إنها حالة "إعراض" عن الخوض مع التافهين في ما يثيرونه من "موضوعات" سخيفة ومن "قضايا" مفتعلة كاذبة.
بعد انتخابات 2011 وصعود الإسلاميين وحلفائهم إلى السلطة وقبل أن يُمسكوا بالملفات الاجتماعية والأمنية، أعلن المهزومون انتخابيا اصطفافهم في جبهة معارضة، وكان المجال الاجتماعي منطلقا لممارسة الضغط على والتحريض عليها.. كل الأساليب كانت متاحة لتحقيق هدف مركزي، وهو إفشال حكم الإسلاميين ومنع فوزهم في أي انتخابات قادمة
إن "الإعراض" عن "اللغو" لا يصدر إلا عن أولي عزم ممن يتحكمون في انفعالاتهم وفي تشهيهم لردود الفعل، إن أولي العزم أولئك هم من يُفوّتون على التافهين فرصة تمكنهم من زمن الفعل وزمن التأثير وزمن الريادة..
بعد انتخابات 2011 وصعود الإسلاميين وحلفائهم إلى السلطة وقبل أن يُمسكوا بالملفات الاجتماعية والأمنية، أعلن المهزومون انتخابيا اصطفافهم في جبهة معارضة، وكان المجال الاجتماعي منطلقا لممارسة الضغط على والتحريض عليها.. كل الأساليب كانت متاحة لتحقيق هدف مركزي، وهو إفشال حكم الإسلاميين ومنع فوزهم في أي انتخابات قادمة بعد إشعار الناس بالخيبة.
وبدوافع سياسوية رخيصة وساقطة أخلاقيا، سمعنا أشخاصا يصرخون وعلى المباشر أمام كاميرا التلفاز أنهم "جياع" في بطونهم، بل وسوس سيّئون لبعض ضعاف النفس فأقدم احدهم على الوقوف مع بصغاره في أحد الأسواق يعرضهم للبيع، وتلك جريمة أخلاقية كان يفترض مقاضاته عليها لما اقترفه من اعتداء على الكرامة الإنسانية ولما سيسببه فعله ذاك من آثار نفسية مدمرة على شخصية البنت أو الطفل حين يكبر، فيذكّره بعض من لا يفصلون بين الفاعل والمفعول به، بكونه كان معروضا للبيع بسبب جوعه وعجز عائلته.
لم يندد لا سياسيون ولا حقوقيون ولا منظمات طفولة ولا جمعيات نسوية بذاك السلوك الأحمق، لأن الحسابات السياسوية لا تترك أصحابها أسوياء إنما تحولهم -غالبا- إلى جبناء وأوباش.
إن نقص المواد الغذائية لا يقتل الشعوب الحية إنما يقتلها الحقد والكراهية، وتقتلها الأخلاق السيئة، وتقتلها النكاية حين يستسهلون استعمال كل الوسائل الخسيسة في تصفية حسابات لا علاقة لها بمسار البناء الحضاري لشعب أو لأمة.
إن نقص المواد الغذائية لا يقتل الشعوب الحية إنما يقتلها الحقد والكراهية، وتقتلها الأخلاق السيئة، وتقتلها النكاية حين يستسهلون استعمال كل الوسائل الخسيسة في تصفية حسابات لا علاقة لها بمسار البناء الحضاري لشعب أو لأمة
النضال الاجتماعي يجب أن يكون ضمن فلسفة انتصارية ورؤية للإنسان الشامخ المكرم، إن أسلوب التذلل والتشكي وكشف هزال النفس وتورّم البطن، إنما هو أسلوب مدمّر للإرادة ومثبّط للعزائم ومهين للكرامة الإنسانية.
إن المعركة الاجتماعية يمكن أن تخاض بكشف الأرقام الحقيقية لعناصر الأزمة: ضعف الأجور، وغلاء الأسعار، ونسبة البطالة، ونسبة الفقر، وعدد المهاجربن سرا، وعدد الضحايا في البحر، ومستوى عجز الدولة عن توفير الأدوية والحبوب وقطع الغيار، بعدها يمكن أن تتحول هذه الأرقام إلى وعي اجتماعي قد يؤدي إلى احتجاجات شعبية قوية بهدف الضغط على الأنظمة الفاشلة لإجبارها على معالجة الأزمة أو لإسقاطها.
إن تحويل وضعية الفقر والخصاصة إلى مادة لتعيير السلطة من خلال إهانة الفقراء، هو عمل غير أخلاقي وغير حضاري وغير إنساني، علينا تحويل الفقر إلى نظرية في المقاومة وأيضا إلى مدرسة في التضامن الاجتماعي.
لقد كان أبو ذر الغفاري متقدما في وعيه بكون الجوع منطلقا لثورة الكرامة والعدالة: "إني لأعجب لمن يبيت جائعا ولا يخرج..".
ولعل الشاعر الكبير مظفر النواب كان أحسن مترجم لتلك القولة حين صرخ:
الجوع أبو الكفار
وأنا الكافر بالجوع الكافر..
twitter.com/bahriarfaoui1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه تونس المجتمعي السلوك الأخلاق تونس المجتمع الأخلاق السلوك مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
حصاد 2024.. انتخابات عالمية وحروب دموية وأوضاع مضطربة في الشرق الأوسط
بينما يودع الكوكب العام 2024، الذي كان حافلًا بالحروب الدموية والصراعات الدولية، والانتخابات في العديد من البلدان، بينها روسيا وأمريكا، تتجه الأنظار إلى العام الجديد، على أمل أن يأتي بشيء من التحسن، خاصة تقليص الحروب عالميًا وتقليل حجم الكوارث الإنسانية.
ترامب للبيت الأبيض مرة أخرىوفي الولايات المتحدة، ساهم ارتفاع تكاليف المعيشة في فوز دونالد ترامب بولاية رئاسية ثانية بعد 4 سنوات من خسارته أمام جو بايدن، وإصراره بعد مغادرته البيت الأبيض، على أن الانتخابات كانت مزورة، بحسب «رويترز».
وباءت محاولة أنصار ترامب لقلب هزيمته باقتحام الكونجرس في 6 يناير 2021 بالفشل، لكنهم حققوا نجاحًا هذا العام عبر صناديق الاقتراع، ما أسفر عن قيادة أمريكية جديدة قد تُرهق المؤسسات الديمقراطية داخليًا والعلاقات الدولية خارجيًا.
انتخابات حول العالموبحسب «رويترز»، كبح الناخبون الكوريون الجنوبيون سلطة الرئيس يون سوك يول بمنح المعارضة أغلبية برلمانية ساحقة، وأدى ذلك إلى إلغاء البرلمان سريعًا للأحكام العرفية التي فرضها الرئيس مطلع ديسمبر.
كما شهدت فرنسا وألمانيا واليابان والهند انتخابات أثرت بشكل كبير على المشهد السياسي، وعلى النقيض من التغييرات التي شهدتها دول أخرى، أعيد انتخاب فلاديمير بوتين رئيسًا لروسيا بنسبة 88% من الأصوات، وهي نسبة قياسية في تاريخ روسيا الحديث.
استمرار الحرب الروسية الأوكرانيةوحققت روسيا مكاسب ميدانية ملحوظة في حربها ضد أوكرانيا التي لا تزال مستمرة، لكن يبقى السؤال حول تأثير عودة ترامب إلى البيت الأبيض على هذا الصراع.
وأثار وعد الرئيس الأمريكي المنتخب بإنهاء الحرب في يوم واحد قلقًا كبيرًا في أوكرانيا وأوروبا، خشية من أنّ يعني ذلك رضوخًا لبوتين.
توسع الحروب في الشرق الأوسطوشهد الشرق الأوسط في 2024 تصعيدًا عسكريًا، حيث امتدت الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة إلى لبنان، ما أسفر عن خسائر جسيمة لحزب الله بعد اغتيال أمينه العام حسن نصر الله، وكذلك لحركة حماس بفقدان قياديين بارزين هما إسماعيل هنية ويحيى السنوار، كما شهد العام أيضًا وقوع مواجهات مباشرة بين إسرائيل وإيران.
وفي سوريا سقطت حكومة بشار الأسد بعدما أطاحت الفصائل السورية بالحكومة ودخولها العاصمة دمشق وتوليها زمام الأمور في البلاد، بقيادة أحمد الشرع المعروف سابقًا بأبو محمد الجولاني.