حميدتي يقدم رؤية جديدة للحل السياسي الشامل ويحدد نوع الحكم وقضايا التفاوض ويدعو إلى وقف إطلاق نار طويل الأمد
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
الخرطوم- تاق برس- قدم الفريق أول محمد حمدان دقلو “حميدتي” قائد قوات الدعم السريع، رؤية للحل الشامل وتأسيس دولة مدنية تحقق السلام المستدام والحكم الديمقراطي المدني وبناء مؤسسات، مهنية وقومية عاكسة بحق لتنوع السودان.
ودعا إلى وقف إطلاق نار دائم وطويل الأجل مقروناً بمبادئ الحل السياسي الشامل، الذي يعالج الأسباب الجذرية لحروب السودان.
وأكد ان نظام الحكم يجب أن يكون ديمقراطياً مدنياً، يقوم على الانتخابات العادلة والحرة في كل مستويات الحكم، ويمكِّن جميع السودانيين من المشاركة الفاعلة والحقيقية في تقرير مصيرهم السياسي، ومحاكمة الذين يديرون شؤونهم البلاد على كافة المستويات سياسياً في انتخابات دورية تنظم في أنحاء البلاد كافة.
نص رؤية قوات الدعم السريع
بسم الله الرحمن الرحيم
رؤية قوات الدعم السريع للحل الشامل وتأسيس الدولة السودانية الجديدة
من أجل بناء دولة سودانية على أسس جديدة تحقق السلام
المستدام والحكم الديمقراطي المدني وبناء مؤسسات
مهنية وقومية عاكسة بحق لتنوع السودان
مقدمة
إن الحرب، التي اندلعت في الخامس عشر من أبريل الماضي، ليست سوى انعكاس لأزمة الحكم المستفحلة في السودان منذ الاستقلال. وهي بذلك أمتدادٌ لحروب السودان التي حاولت فيها فئات أو جماعات من أطراف السودان تغيير السودان إلى الأفضل سلماً، لكن قادة الدولة، الذين ظلوا باقين ومستمرين في الحكم بالقوة، واجهوهم بالعنف، ظناً منهم بأن القضايا يمكن أن تنتهي بهزيمة المتمسكين بها، الذين يخالفون النخب السياسية والعسكرية الرأي.
وجراء ذلك، عانى السودان طوال فترات الحكم الوطني الحديث من مشكلات عدم الاستقرار السياسي، والحروب الأهلية، وضعف الاقتصاد وغياب التنمية المتوازنة، والخلل البائن في مؤسسات الدولة، التي يتوجب أن تكون قومية ومهنية. ولم يكن هنالك من قطاع قد تجلى فيه ذلك الخلل كالقطاع الأمني والعسكري، أو مجال بان فيه كتصورات النخب حول هوية الشعوب السودانية مجتمعة، الأمر الذي أضر كثيراً بالتزام الدولة عملياً بمبدأ المواطنة المتساوية، الذي هو أعظم ما أنتجه الفكر السياسي الحديث باعتباره العمود الأساسي للدولة الحديثة.
إن الحرب، التي تدور الآن رحاها في الخرطوم، إنما هي دورةٌ من دورات الصراع المسلح، الذي ظل يشتعل باستمرار لما يقارب السبعة عقود من عمر السودان. وكما هو الحال في الحروب السودانية السابقة، لم تكن الحرب خياراً مفضلاً للمطالبين بالتغيير أو الحرية، ولن تكون هي الحلُ الأمثل لمعالجة قضايا البناء والتأسيس الوطني. لكن قوات الدعم السريع وجدت نفسها مرغمة لخوض حرب فرضت عليها، حربُ بين الباحثين عن دولة المواطنة المتساوية والتعددية الديمقراطية وبناء سودان علي أسس جديدة، من ناحية، والساعيين للعودة إلى الحكم الشمولي الدكتاتوري، من ناحية أخرى.
فالحل للأزمة الراهنة ينبغي أن يكون بالرجوع إلى ما كانت تتمسك به قوات الدعم السريع دوماً وهو الحل السلمي. ولذلك لم تتردد قيادة الدعم السريع في الاستجابة لجهود الأصدقاء الإقليميين والدوليين الهادفة إلى مساعدة الأطراف السودانية للوصول إلى حل سياسي شامل، ناتج عن مناقشة الأسباب الجذرية لحروب السودان بأكبر وأوسع مشاركة ممكنة من أصحاب المصلحة المدنيين، بُغية المساهمة في معالجتها وبناء سودان جديد قائم على الديمقراطية والأعتراف بالتنوع والتسامح والسلام الحقيقي، الذي لا يمكن تحقيقه أو استدامته إلا بالعدالة الاجتماعية.
من أجل الوصول إلى ذلك، تري قوات الدعم السريع بأن ثمة مبادئ عامة يجب الالتزام بها في أية تسوية مستقبلية، وقضايا محددة ينبغي التطرق إليها. علاوة على ذلك، ينبغي تحديد الأطراف التي سوف تشارك في العملية المفضية إلى تلك التسوية، حتى لا يتم إغراقها بالعناصر المعادية للتغيير والتحول الديمقراطي في السودان، إذ إننا يجب ألا ننسى بأن هنالك ثورة اندلعت ضد النظام القديم، هو الذي أشعل هذه الحرب للحيلولة دون وصول الثورة إلى مراميها وعودته إلى السلطة، مرة أخرى.
مبادئ عامة
1. إن الحرب التي تدور في السودان هي انعكاس لـ أو مظهر من مظاهر الأزمة السودانية المتطاولة. وذلك يستوجب أن يكون البحث عن اتفاق لوقف إطلاق نار طويل الأمد مقروناً بمبادئ الحل السياسي الشامل، الذي يعالج الأسباب الجذرية لحروب السودان. إن حرب الخامس عشر من أبريل يجب أن تكون الحرب التي تنهي كل الحروب في السودان. وهذا يقتضي مخاطبة جذور الأزمة في السودان ومعالجتها على نحوٍ يرفع المظالم التاريخية ويرد الحقوق ويحقق الانتقال السلمي الديمقراطي، ويحقق السلام المستدام ويقر ويطبق العدالة الانتقالية.
2. نظام الحكم يجب أن يكون ديمقراطياً مدنياً، يقوم على الانتخابات العادلة والحرة في كل مستويات الحكم، ويمكِّن جميع السودانيين من المشاركة الفاعلة والحقيقية في تقرير مصيرهم السياسي، ومحاكمة الذين يديرون شؤونهم البلاد على كافة المستويات سياسياً في انتخابات دورية تنظم في أنحاء البلاد كافة. ولأن جوهر الديمقراطية هو التمثيل والمشاركة السياسية، فمن الضروري أن تعكس الحكومة المدنية في تشكيلها بحق وعدالة كل أقاليم السودان، وذلك عبر آليات أو أسس يتم الاتفاق عليها بين جميع الأقاليم.
3. إن المواطنين في أطراف السودان يملكون سلطات أصيلة لإدارة شؤونهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وينبغي أن يتفقوا عبر ممثلي إقاليمهم على السلطات التي تمارسها للقيام بما تعجز عن القيام به أقاليم السودان منفردة. وتتعزز تلك السلطات الأصيلة لدى المجتمعات المحلية، التي تتقاسم معها الحكومة القومية بالعدل السلطات والموارد. وبسبب التعدد والتنوع الباهر في السودان، فإن النظام الفدرالي غير التماثلي (أو غير المتجانس)، الذي تتفاوت فيه طبيعة ونوع السلطات التي تتمتع بها الوحدات المكونة للاتحاد الفدرالي، هو الأنسب لحكم السودان.
4. إن تصفية النزعات الاحتكارية غير المشروعة للسلطة والنفوذ سواء أكانت أيدلوجية راديكالية، أو حزبية، أو أسرية أو عشائرية، أو جهوية ضيقة أمرٌ لا مناص منه لرد السلطة إلى الجماهير. فالسودان يجب أن يتأسس كجمهورية حقيقية، السلطة والنفوذ فيها لكل السودانيين، لا يتمايزون في ذلك إلا بما تسفر عنه الانتخابات العادلة والحرة في ظل نظام ديمقراطي فدرالي حقيقي، قائمٌ على تقاسم السلطات وتشاركها.
5. الاعتراف بأن المدخل الصحيح لتحقيق السلام المستدام في السودان هو إنهاء وإيقاف العنف البنيوي، الذي تمارسه الدولة ضد قطاعات واسعة من السودانيين، لا سيما في أطراف السودان. وهذا يعني، من بين أشياء أخرى، أن السلام لا يعني إسكات أصوات البنادق أو إيقاف الاعتداءات المستمرة من موسسات الدولة القهرية وغير القهرية على المواطنين وأراضيهم أو ممتلكاتهم، وإنما كذلك إنهاء التفاوتات البائنة للجميع في المشاركة السياسية وتوزيع الثروة والفرص المتاحة للمجتمعات والمجموعات والأفراد للنهوض والتقدم لأقصى مدى ممكن في مجتمع تتوفر فيه العدالة الاجتماعية.
6. العمل علي إشراك أكبر وأوسع قاعدة سياسية واجتماعية ممكنة من الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني واصحاب المصلحة والمرأة من كافة مناطق السودان.، وذلك دون إغراق المفاوضات السياسية بعناصر النظام القديم والقوى المعادية للديمقراطية، لإن مشاركتهم سوف تؤدي إلى تمييع القضايا وتقويضها في خاتمة المطاف.
7. التأكيد على أن قضايا الحل السياسي لا تنفصل عن قضايا السلام المستدام، الأمر الذي يستلزم إيلاء مسألة إشراك جميع حركات الكفاح المسلح وأصحاب المصلحة من مناطق النزاع والحروب لاسيما النازحين واللاجئين والرحل والمراة والشباب، أهمية خاصة.
8. الإقرار بضرورة تأسيس وبناء جيش سوداني جديد من الجيوش المتعددة الحالية، وذلك بغرض بناء مؤسسة عسكرية قومية مهنية واحدة تنأى عن السياسة، وتعكس تنوع السودان في قيادتها وقاعدتها وفقاً للثقل السكاني، وتقوم بمهام حماية الدستور والنظام الديمقراطي، وتحترم المبدأ الثابت في المجتمع الديمقراطي القاضي بخضوع المؤسسة العسكرية للسيطرة والإشراف المدنيين. وفي هذا الصدد، ينبغي الإفادة من التجارب الإقليمية والدولية التي تم فيها بناء جيوش جديدة بهذه المواصفات والمعايير والأسس.
9. إن إقامة مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية على الأسس العالمية المعتمدة لقومية ومهنية المؤسسات البيروقراطية والأجهزة العسكرية والأمنية للدولة هو أمرٌ ضروري لتصفية الوجود الحزبي أو السياسي داخلها، ولفعالية هذه المؤسسات والأجهزة وقدرتها على خدمة المواطنين، وتجنيب البلاد الصراعات والحروب، التي ظلت السمة المائزة للسودان منذ الاستقلال.
10.الإقرار بضرورة احترام وتطبيق مبدأ محاربة خطاب الكراهية والاتفاق علي حزمة إصلاحات قانونية وتبنِّي سياسات تعزز التعايش السلمي وقبول واحترام الآخر.
قضايا التفاوض
تشمل قضايا التفاوض، من وجهة نظرنا، لكنها لا تنحصر في بناء جيش جديد قومي مهني واحد؛ الفترة الانتقالية والحكم المدني الانتقالي؛ السلام الشامل والعادل المستدام؛ النظام الفدرالي وهياكله ومستوياته وسلطاته وقسمة الموارد؛ العدالة الانتقالية؛ إجراءات وتدابير التحول الديمقراطي مثل الانتخابات وقضية التعداد السكاني؛ قومية ومهنية الخدمة المدنية والمؤسسات العامة؛ قضية الفصل بين الدولة والانتماءات الهوياتية الضيقة، سواء أكانت دينية، أو ثقافية، أو عرقية؛ قضية اللغات السودانية؛ وعملية صناعة الدستور.
الأطراف المشاركة
إن الحقيقة الكبرى في السودان منذ ديسمبر 2018 هي الثورة الظافرة، التي أزالت نظام البشير وعناصر النظام القديم من السلطة، وفتحت الباب واسعاً لبناء دولة جديدة ديمقراطية في السودان. هذه الثورة انفجرت في الأساس ضد المجموعة الأيدولوجية، التي كانت تهيمن على الدولة والأحزاب والشخصيات السياسية، التي كانت متحالفة معها. هذه الثورة قادتها قياداتُ ومنظمات سياسية ومدنية ومهنية ومسلحة معروفة بالتزامها الذي لا يتزحزح بقضية التغيير والتحول الديمقراطي. لذلك فإن المشاركة يجب أن تشمل في الأساس القوى التي تصدت لجبروت قادة نظام البشير الأيديولوجي وأسقطته، سواءً كانت هذه القوى في المركز أو الأطراف، وعلى رأسها المهنيين ولجان المقاومة والشباب والنساء. وفي هذا الخصوص، يجب أن يكون هنالك تمثيلاً عادلاً لأطراف السودان، لا سيما المناطق المهمشة، التي عانت كثيراً وطويلاً من ويلات الحروب. هذه المشاركة يجب ألا تشمل المؤتمر الوطني وعناصر النظام القديم، الذين ظلوا يعملون من أجل إعاقة التحول الديمقراطي، بما في ذلك عن طريق الحرب. هذه المشاركة يجب كذلك ألا تشمل المجموعات والشخصيات التي ظلت تعمل سراً أو علناً ضد التغيير والديمقراطية خلال السنوات التي أعقبت سقوط نظام البشير.
المصدر: تاق برس
كلمات دلالية: قوات الدعم السریع فی السودان أن یکون یجب أن
إقرأ أيضاً:
في الأسس البعيدة للنظام السياسي الجزائري ولاختياراته التنموية.. كتاب جديد
الكتاب: النظام السياسي الجزائري والاختيارات التنمويةالكاتب: نور الدين زمام
الناشر: المركـز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية - ألمانيا - برلين 2024
عدد الصفحات: 184 صفحة
ـ 1 ـ
تعاني بلداننا العربية من انفصام مستمر بين واقعها وتطلعات طبقاتها الشعبية من جهة واختياراتها السياسية والاقتصادية من جهة ثانية. والبحث في النموذج الجزائري مثال جيّد يشرح هذه الحقيقة. وهذا ما عمل الباحث نور الدين زمام على إبرازه. فمن خلاله حاول البحث في أسباب التعثر الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي بلدان العالم النامي عموما.
وحتى يدرك غايته هذه عمل على اعتماد رؤية تأليفية تبحث في الترابط بين مختلفة أصعدة المجتمع ومكوّناته منطلقا من أبعاده التاريخية البعيدة كاشفا عن مسارات تطورها أو تدهورها، منتهيا إلى الوقوف على العوامل الراهنة، منزلا إياها ضمن سياقها الواقعي. وهكذا، فتناول آليات عمل النظام السياسي الجزائري غداة الاستقلال وما تبعه من التحولات السياسية والاقتصادية بالدرس وقلّب النظر في الصلة بين النخب التي تولت الحكم. واللوبيات التي استحوذت على النفوذ داخل دواليب السلطة وفي مراكز صناعة القرار بجرأة علمية.
ـ 2 ـ
انطلق نور الدين زمام في دراسته التاريخية السوسيولوجية هذه من خصائص تشكل المجتمع الجزائري ما قبل التغلغل الاستعماري، عاملا من وراء ذلك إلى رصد حجم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها المجتمع الجزائري. فمن شأن تفصيل النتائج أن يجعلنا نفهم الأسباب أكثر.
كان للتحولات التي طرأت على المجتمع الجزائري وللصراع بين النخب الأثر العميق في تحديد ملامح السلطة الجزائرية في الفترة الأولى من عمر الدولة وفي بلورة المشروع التنموي.من أهم سمات البناء الاقتصادي والتنظيم الاجتماعي الجزائر ما قبل الاحتلال الفرنسي الطابع الزراعي والرعوي الذي يتمركز أساسا في الأرياف وأطراف المدن. فهيمن على المرتفعات الجبلية النشاط الزراعي، حيث تسود الزراعات التشجيرية في المناطق الشديدة الانحدار بوجه خاص، في حين تمثل تربية المواشي نشاطا ثانويا مكملا ويسيطر النشاط الإنتاجي الرعوي في السهوب والجنوب. وغلب الطابع الجماعي على الشكل القديم لملكية الأرض. ففي الشمال مثلت العشيرة أو العائلة الطرف المالك. أما في مناطق الجنوب فكانت المراعي تعتبر ملكا جماعيا. ولكل قبيلة حق الاستفادة منها دون قيود مما يعزز من قدرة القبائل على التنقل للبحث باستمرار عن مواطن الكلأ والماء. ذلك أن الارتباط لا يكون بالأرض بقدر ما يتعلق بهذين العنصرين. وهما عاملان متحوّلان بتحول المناخ ومواطن التساقطات.
وتكاد الحواضر تستفرد بالنشاط الحرفي. ومع ذلك يؤكد الباحث أن بعض الأسر الريفية تضيف أحيانا صناعات حرفية مرتبطة بأشغالها إلى أنشطتها المعروفة.
ـ 3 ـ
يفصّل الباحث القول في طبيعة القوى الاجتماعية الجزائرية قبل الغزو الاستعماري الفرنسي. فقد أدى هذا المنوال الاقتصادي الذي يجعل القبيلة أو العشيرة أو العائلة وحدة اقتصادية واجتماعية إلى تدعيم متانة روابط القرابة. فكانت الهيمنة داخل التنظيم الاجتماعي البدوي تؤول إلى الرجال، إلى الأب أو الأخ الأكبر، فيما تتفرغ النساء لأداء الأعمال المنزلية المعروفة. أما في الحواضر فتستأثر الأقلية التركية الحاكمة التي تستأثر بمقاليد الحكم بهرم القوى الاجتماعية المسيطرة على دواليب الحياة الاقتصادية والسياسية والقوى الاجتماعية وتحتكر الصناعات الكبرى. و يتمتع "الكولغوليون" وهم الأبناء المنحدرون من زيجات بين أتراك وجزائريات، بمنزلة مميّزة دون أن يمنحهم انتسابهم إلى العائلات الكبيرة المشاركة في هيبة ولا في وظائف الأتراك. ثم يليهم " الأندلسيون" أو " المور" «Maures» وهم سليلو المغاربة القادمين من إسبانيا ما بعد حرب الاسترداد. فقد كانوا يُعتبرون أكثر نبلا، ولعبوا دورا هاما في إعادة إحياء النشاط الحرفي.
ويضاف إلى ذلك، في مرتبة أدنى، القبائل التابعة للسلطة التي تلعب دور الشرطي أمام القبائل المنشقة. وتمثل بقية أطياف المجتمع القوى الخاضعة. و تنحصر - بالنسبة للمدن- في الحرفيين الصغار وأصحاب الدكاكين الصغيرة والعمال المساعدين والعاملين في الأشغال العامة. وتتمثل في الأرياف في القبائل الضعيفة التي تجلى من أراضيها أو تحتمي بقبيلة أقوى.
ـ 4 ـ
سيتأثر هذا المنوال بعمق بالتدخل الأوروبين قبل الاحتلال وبعده. فمن محركات الاقتصاد في الشمال الإفريقي عامة التجارةُ الصحراوية التي جعلت من بلدان المغرب العربي، منطقة "عبور". وانطلاقا من الصحراء كان يدفق تيار الذهب الخالص المتجه نحو البحر الأبيض المتوسط إليها. ولكن سيرورة الانحطاط ستبدأ مع نهاية القرن الرابع عشر وبداية القرن الخامس عشر بعد ظهور البرتغال في السواحل الأطلسية لإفريقيا معتمدة على أساطيلها الضخمة.
ثم فرضت سياسة الامتيازات. فوفرت الأجواء لتغلغل رأس المال الأجنبي بالتدرج داخل التراب الجزائري لتصبح بعد ذلك مناطق نفوذ له. والمقصود بسياسة "الامتيازات" تلك المعاهدات التي أمضيت بين الإمبراطورية العثمانية والدول الأوروبية لضمان مصالحها ومصالح رعاياها في البلدان الإسلامية، باعتبار أن الشريعة كانت تمنع على غير المسلمين حق التملك وإدارة المشاريع في أرض الإسلام. وعدّت هذه الإجراءات الاستثنائية في التعامل مع الوافدين من غير المسلمين امتيازا بمقارنة بالوضع القائم وقتئذ. لكنها أخذت تتضخّم وتنتزع بمنطق المغالبة.
ضمن هذه السياسة أنشئت الشركة الإفريقية فسهلت التغلغل داخل النسيج الاجتماعي والاقتصادي الداخلي. وخولت للرأسمال الميركانتيلي الأوروبي أن يزدهر. وكان نصيب الرأس المال الفرنسي وفيرا بفضل تواطؤ بعض الحكام أو عن طريق دعم الممولين اليهود الذين كانوا على دراية تامة بأفق انخراطهم في هذا الحراك التجاري.
ـ 5 ـ
لاحقا، ارتبط الاحتلال بالتغلغل العسكري وبالوحشية وبارتكاب المجازر الجماعية. واعتمادا عليها بسط سيطرته على موارد السلطة الحاكمة وإمكاناتها كلها، وعلى الملكيات الواقعة في أطراف المدن (خاصة مدينة الجزائر). فكانت أعمال الإبادة تلك ترمي إلى تفريغ المجال لإحلال المعمرين من الوفود المهاجرة من الأوروبيين في الأراضي الخصبة وتوطينهم فيها. ودعّم أعماله العسكرية بحزمة قوانين تساند سياسة مصادرة الأراضي واغتصابها، وتستأصل المتحدات أو التنظيمات القبلية وتلغي القوانين الإسلامية التي تكرس الملكية الجماعية وتخضع العقارات للقانون الفرنسي. ونتيجة لذلك ظهر نوع من المضاربة والتسابق بين الجزائريين للتخلص من أراضيهم، وظهرت بذور الشقاق بين أصحاب الملكيات المشتركة وتصاعدت الخصومات بينهم وأنشئت صكوك الملكية وعقدت الصفقات بأبخس الأثمان.
وبناء على تغلغل الرأسمالية الاستيطانية تم التركيز على الزراعات التجارية خاصة منها تجارة الكروم.
ـ 6 ـ
من تبعات الاقتحام الأوروبي بعناوينه المختلفة للمجال التجاري:
ـ بداية اندماج المجتمع الجزائري في السوق العالمي. وليس في العبارة مدح أو ثناء. فالباحث يريد بها توجيه الاقتصاد المحلي بما يخدم التجارة العالمية التي يسيطر عليه فرنسيون، دون وضع حاجات الجزائريين بعين الاعتبار. فعُوضت الزراعات الكبرى مثلا بغراسة الكروم لصناعة الخمور. وهذا ما كانت له تبعات سلبية على الأمن الغذائي المحلي الذي يعتمد على زراعة الحبوب أساسا.
ـ عجز البضائع المحلية عن مواجهة المنافسة غير المتكافئة مع المنتجات المستوردة وتدهور التجارة الجزائرية، خاصّة أنّ القبائل أصبحت تفضل المنتجات المستوردة لجودتها ولأثمانها الرخيصة.
ـ تقلص الأسواق الريفية التي كانت تحقق التكامل الاقتصادي بين أشكال الإنتاج المختلفة. فنجم عن هذا التأثير الخارجي تدهور الصناعات الحرفية في ظل منافسة لا متكافئة وتدهور الصناعات المنزلية بعد أن أصبحت القبائل تفضل المنتجات الرخيصة الواردة من أوروبا.
في ظل هذه التحولات المدمرة للاقتصاد المحلي لم تكن السلطة المحلية غير وكيل يمثل مصالح الطبقة الحاكمة والتجار والسماسرة الذين يتعاملون مع رأسمال الأجنبي والتجارة الفرنسية.
ـ 7 ـ
ستكون لهذه المعطيات أثرها العميق في سيرورة بناء الدولة وفي الاستجابة لرهانات الاقتصاد الوطني الجزائري وفق منوال تنموي بعينه. ولما تحقّق الاستقلال كانت النخبة ممزقة متباعدة الاتجاهات. ويقرب لنا صورتها يصنفها إلى ثلاثة نزعات متباينة:
عمل بناة الدولة الوطنية على قطع الصلة بالدوائر التي تعمل على تكريس التبعية الخارجية من خلال تحالفاتها مع بعض الشركاء وعلى تحقيق وحدة اقتصادية متكاملة تقوم على أساس هدم روابط التبعية مع المتروبول وعلى أساس تثمين الثروات الوطنية وبناء اقتصاد مكيف وفق المتطلبات المحلية والتعويل على قطاع الزراعة.ـ النخبة المتعلمة المتفرنسة قليلة العدد، التي تكونت في مدارس المحتل. هي نخب لبرالية تحكم تصرفاتها وممارساتها الاجتماعية، المصالحُ الخاصة. يصفها الباحث، والعهدة عليه، بأنها مستعدّة لتقديم الخدمة لمن يطلبها لتكون قريبة من صانعي القرار وأنّ ما يوحّدها إنما هو احتقارها للجماهير الشعبية، وعبادة الترقي الاجتماعي، والتوجه نحو أوروبا، والعداء الشديد للاشتراكية، لا أكثر.
ـ النخب المثقفة اليسارية التوجه. جمعت هذه الشريحة بين نزعتها البراغماتية التي تدفعها إلى التعامل مع أي حكومة تحت عنوان "خوض معركتها الفكرية في ساحة الوعي" وتوجسها من سياسة الحكومة التي تسيطر عليها العناصر البورجوازية الصغيرة. ولأنها كانت تبحث عن فرصة للتوغل داخل دور الثقافة والمسارح، وللاستحواذ على وسائل الاتصال الجماهيري من تلفزيون وإذاعة لتلعب دورها الأيديولوجي في صياغة العقول، لم تمانع في ممارسة دور سياسي. وكان مبررها أن السلطة تتبنى إجراءات غير رجعية تماما وأن احتكاكها بها سيمنحها الفرصة لتجسيد أفكارها وتحقيق المشروع الاجتماعي الذي ترى فيه المصلحة العليا للمجتمع.
ـ النخبة المثقفة التقليدية التي تكونت في مدارس العلماء والتي التحقت بجبهة التحرير في 1956. ونظرا إلى روح المحافظة التي تحكمها وقفت موقفا معارضا من التوجهات الجديدة لدولة الاستقلال. ولكن بعضها استدرج إلى دائرة الحكم. فمثل جهازا تبريريا فعالا لتمرير الأطروحات والخطابات والتصورات العديدة والمتباينة أحيانا.
ـ 8 ـ
كان للتحولات التي طرأت على المجتمع الجزائري وللصراع بين النخب الأثر العميق في تحديد ملامح السلطة الجزائرية في الفترة الأولى من عمر الدولة وفي بلورة المشروع التنموي. فقد عمل بناة الدولة الوطنية على قطع الصلة بالدوائر التي تعمل على تكريس التبعية الخارجية من خلال تحالفاتها مع بعض الشركاء وعلى تحقيق وحدة اقتصادية متكاملة تقوم على أساس هدم روابط التبعية مع المتروبول وعلى أساس تثمين الثروات الوطنية وبناء اقتصاد مكيف وفق المتطلبات المحلية والتعويل على قطاع الزراعة.
ويذكّر الباحث بعمل فرنسا على فرض تصورها لطبيعة النظام السياسي والاجتماعي الليبرالي الذي تراه ملائما للدولة الجزائرية بعيدا عن المعسكر الاشتراكي وسعيها إلى الاحتفاظ ببعض القواعد العسكرية وبعلاقات اقتصادية متميزة ومراهنتها على وجود ثقافي راسخ لإبقاء الحالة الاستعمارية في موقف قوي ومهيمن رغم اعترافها بالدولة الجزائرية. ولقطع الطريق على الاستعمار الساعي إلى تكريس وجوده الاقتصادي والسياسي والثقافي بعد رحيله نشأ إذن تحالف بين النخبة العسكرية والنخبة المثقفة.
ـ 9 ـ
من نتائج هذا التحالف احتكار الدولة، التي تسللت النخبة المثقفة ذات التوجه الأيديولوجي الماركسي إلى مفاصلها، لعملية التنمية. فقامت بنفسها بمواجهة آثار التفكك الهيكلي الناجم عن السياسة الاستيطانية وعززت النهج الاشتراكي وتدخلت في القطاع الاقتصادي الخاص للإسراع بإضفاء الطابع الجماعي عليه. وسمح لها تكفّلها بالمسألة الاجتماعية بوضع يدها على الحياة السياسية والاقتصادية بالكامل.
غير أنّ تركيز السلطة في أيدي النخبة الحاكمة كرس النّمط العسكري ـ البيروقراطي للدولة. وفرض المنطق السلطوي على أشكال العمل السياسي وخوّل للنخب الجديدة الصاعدة أن تدعّم مواقعها وأن تهمّش لبقية الطبقات الشعبية. فاتسعت الهوة بين التطلعات والممارسة وبين النخب الحاكمة والقاعدة الشعبية الواسعة. وإلى اليوم ورغم مرور ستة عقود عن الاستقلال وعن ظهور النّمط العسكري ـ البيروقراطي لم تردم تلك الهوّة.