يوجعنا المشهد: حجارة متناثرة، وخيط غبار يلف المكان، وشاهد قبر مُلقى على الأرض، وخواء تام.
تتكرر الصورة من قبر لقبر، ومن علم لآخر، بآلية متسارعة، تعكس نظرة ازدرائية لعظماء سبقونا، أبدعوا، وأنتجوا، وملأوا الأرض نورا وعمرانا.
ما يحدث فى مقابر رموز مصر يستحق أكثر من وقفة. فالأمر ليس عفويا ولا يعكس جهل السادة المسئولين عن مد كوبري، أو شق طريق جديد، بقيمة رجل مثل أحمد شوقي، أو حافظ إبراهيم، أو محمد رفعت، ومحمود سامى البارودي، وطه حسين، وغيرهم فقط.
لذا فثمة شعور طاغ بتعمد العبث بمقابر رموز الإبداع والفكر والفن فى سيناريوهات خيالية حول مؤامرة مُدبرة غرضها محو ريادة مصر الحداثية للمنطقة. ربما لا يكون الأمر كذلك، لكن ما يحدث مؤلم ويستحق تدبرنا.
لو كان أمير الشعراء أحمد شوقى إنجليزيا، ولو كان شاعر النيل حافظ إبراهيم فرنسيا، ولو كان القارىء البديع محمد رفعت أمريكيا، لتحولت قبورهم إلى مزارات، ولتم الاعتناء بشواهدها، ولامتلأت حرماتها بالورود، ولغسلت لوحاتها الرخامية كل يوم، فالوفاء للعظماء دليل تحضر، وبرهان جمال، ودافع اقتداء.
وما يستخلص من الأزمة هو انطفاء تأثير القوة الثقافية الناعمة فى القضايا العامة. فقبل أيام نبهنى الصديق الناقد والشاعر سيد محمود إلى أن استمرار الاعتداء على الذاكرة المعمارية والحضارية لمصر يعكس فى المقام الأول غياب النخبة المثقفة الواعية مثل يوسف إدريس، ونعمات أحمد فؤاد، وأحمد بهاء الدين، وجمال الغيطاني، والتى لم تكن لتسمح بمثل هذا العبث.
وأنا بالقطع أختلف مع الصديق المثقف؛ لأن الحقيقة هى أن النخبة المثقفة فى مصر حاضرة ويقظة. والإشكالية الفعلية تتمثل فى سيادة اللامبالاة وعدم الاكتراث من جانب الحكومة تجاه المثقفين.
لقد بُحت أصوات إبراهيم عبد المجيد، وأحمد الخميسي، وعاطف معتمد، ولوتس عبد الكريم، وأنور الهواري، وخالد فهمي، ومحمد عفيفي، وغيرهم، وهُم يستحلفون صناع القرار ألا يهدموا مقابر الرموز.
تلك معضلة الهجمة الشرسة على تراث مصر الحضاري، فالحكومة تنظر للمثقفين باعتبارهم «أفندية» متحذلقين، مشاكسين، حرفتهم الاختلاف، وبضاعتهم الكلام والكلام، ولا يفهمون شيئا فى الواقع العملي، وأنها وحدها من تفهم وتعى وتُحسن الفعل.
مصر لم تعدم مفكرين وعباقرة ونجباء وأصحاب رأى شرفاء يُمكن أن يكونوا بمثابة ضمير مُنبه تحت لافتة وحيدة هى مصلحة الأمة، وقضية هدم المقابر من القضايا المُلحة.
والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أحمد شوقي
إقرأ أيضاً: