لجريدة عمان:
2024-11-23@20:31:33 GMT

هل تستطيع الليبرالية إنقاذ نفسها؟

تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT

ترجمة: أحمد شافعي

الليبرالية اليوم واقعة تحت حصار. فالمشكلة لا تقتصر على الحزب الديمقراطي الأميركي وحده، إذ يواجه مرة أخرى إما خسارة الانتخابات أمام دونالد ترامب أو إعلان النصر بأغلبية ضئيلة. فالنظرة العامة لليبرالية السياسية برمتها ـ مع التزاماها بالحكومة المحدودة، والحرية الشخصية، وسيادة القانون ـ ترى أنها في مأزق، وذلك في جميع أنحاء العالم.

قبل زمان غير بعيد كان الليبراليون يعلنون "نهاية التاريخ" بعد انتصارهم في الحرب الباردة. ولكن الليبرالية منذ سنين عديدة تبدو على حافة الهاوية: حيث تواجهها تحديات صعود الصين، ونجاح شعبويين منتمين إلى اليمين المتطرف، وتحدي الإحساس بانسداد الطريق والركود.

لماذا يجد الليبراليون أنفسهم في هذا الموقف بهذا الشكل الروتيني؟ لأنهم لم يتركوا الحرب الباردة من ورائهم. ولقد حدث في تلك الحقبة أن أعاد الليبراليون اختراع أيديولوجيتهم، التي تعود جذورها إلى عصر التنوير والثورة الفرنسية ـ وأعادوا اختراعها على نحو أسوأ. فانشغلت ليبرالية الحرب الباردة باستمرارية الحكومة الليبرالية وإدارة التهديدات التي قد تعطلها، وهي مثل انشغالات الليبراليين اليوم. ولكي ينقذ الليبراليون أنفسهم، فإن عليهم أن يتراجعوا عن أخطاء الحرب الباردة التي قادتهم إلى المأزق الحالي وأن يعيدوا اكتشاف الإمكانات التحررية في عقيدتهم.

كان الرئيس فرانكلين روزفلت قد طالب ـ قبل الحرب الباردة ـ بتجديد الليبرالية، وكان ذلك استجابة لأزمة الكساد الأعظم، مؤكدا أن الاضطرابات الاقتصادية هي السبب الجذري في ما للطغيان من جاذبية. لقد كان من وراء إدارته أكثر من قرن وعدت فيه الليبرالية بتحرير البشرية من ربقة آلاف السنين من الهيراركية - بتفكيك الهياكل الإقطاعية، وخلق فرص أكبر للحراك الاقتصادي والاجتماعي (بالنسبة للرجال على الأقل) وكسر الحواجز القائمة على الدين والتقاليد، حتى لو كانت كل هذه الإنجازات مسكونة بهاجس الفوارق العرقية. وفي أقصى رؤاها، كانت الليبرالية تعني ضمنيا أن واجب الحكومة هو مساعدة الناس في التغلب على الاضطهاد تحقيقا لمستقبل أفضل.

ثم لم تمض إلا سنوات قليلات حتى ظهرت ليبرالية الحرب الباردة باعتبارها رفضا للتفاؤلية التي ازدهرت قبل أزمات منتصف القرن العشرين. ورأى الليبراليون ـ بعدما شهدوا الدمار المؤلم الذي أحاق بتجربة ألمانيا القصيرة مع الديمقراطية في فترة ما بين الحربين العالميتين ـ أن حليفهم الشيوعي في تلك المعركة ضد الفاشية تحول إلى عدو مخيف. فكان رد فعلهم أن أعادوا صياغة مفهوم الليبرالية. فأكد فلاسفة مثل الأستاذ بجامعة أكسفورد أشعيا برلين مفهوم الحرية الفردية الذي تم تعريفه بأنه غياب التدخل، وبخاصة من الدولة. ومضى عهد الاعتقاد بأن الحرية تضمنها المؤسسات التي تعمل على تمكين الإنسانية. وبدلا من الالتزام بجعل الحرية أكثر مصداقية لدى عدد أكبر من الناس ـ من خلال الوعد على سبيل المثال بمستقبل مشرق لهم ـ أعطى هؤلاء الليبراليون الأولوية لمحاربة الأعداء الألداء الذين قد يحطمون النظام. تلك كانت ليبرالية الخوف، مثلما قالت مفكرة ليبرالية أخرى من حقبة الحرب الباردة هي جوديث شكلار الأستاذة في جامعة هارفارد. وبطريقة ما، كان الخوف مفهوما: فالليبرالية كان لها أعداؤها. في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، استولى الشيوعيون على الصين، في حين وقعت أوروبا الشرقية خلف الستار الحديدي. لكن إعادة توجيه الليبرالية نحو الحفاظ على الحرية كانت تنطوي على مخاطر خاصة بها. وكل من يكون رهينة للخوف معرض لأن يبالغ في خطورة أعدائه، ولأن يغالي في رد فعله تجاه التهديد البادي منهم في الأفق، ولأن يتخلى عن خيارات أفضل مؤثرا القتال. (واسألوا في ذلك روبرت أوبنهايمر، الذي أخذ على عاتقه signed up to مهمة هزيمة النازيين ثم رأى البارانويا تفسد البلد الذي انبرى طوعا لإنقاذه).

في بعض الأحيان خلال الحرب الباردة، أدى الانشغال بالتحرر من الاستبداد وبالدفاع عن النفس ضد الأعداء لا إلى فقدان الحرية ذاتها التي كان من المفترض أن يهتم بها الليبراليون في الداخل وحسب، بل أدى أيضا إلى ظهور فترات إرهاب عنيفة في الخارج إذ قام الليبراليون بدعم المستبدين أو خاضوا الحروب باسم محاربة الشيوعية. فمات الملايين في ساحات القتل في هذا الصراع العالمي الوحشي، وكثيرون منهم لقوا مصرعهم على أيدي أمريكا ووكلائها المقاتلين باسم "الحرية".

والمحبط أن الاتحاد السوفييتي كان يقدم نوع وعود الحرية والتقدم التي آمن الليبراليون ذات يوم أنها تخصهم. ففي نهاية المطاف، كان الليبراليون في القرن التاسع عشر هم الذين أطاحوا بالأرستقراطيين والملوك، ووعدوا بأن يأتوا بدلا منهم بعالم الحرية والمساواة. إن ليبراليين من أمثال السياسي والرحالة الفرنسي ألكسيس دي توكفيل، وإن تخوفوا من تجاوزات الحكومة المحتملة، قد تصوروا الديمقراطية شكلا من أشكال السياسة يقدم فرصا جديدة مذهلة للمواطنة المتساوية. وفي حين أن أمثال أولئك الليبراليين قد وثقوا ثقة كبيرة في أن الأسواق قادرة على تحقيق التحرر والمساواة، فإنهم كافحوا في نهاية المطاف من أجل تصحيح هذا الخطأ. بل ولقد ساعد الليبراليون، من أمثال الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل، في اختراع الاشتراكية أيضا.

وغيرت الحرب الباردة ذلك كله. فلم يقتصر الأمر على أن الاشتراكية أصبحت بمثابة سباب ليبرالي طوال عقود (على الأقل قبل أن يساعد السيناتور بيرني ساندرز في إحيائها). بل لقد خلص الليبراليون إلى أن المشاعر الأيديولوجية التي قادت الملايين في مختلف أنحاء العالم إلى الشيوعية تعني أن عليهم أن يمتنعوا هم أنفسهم عن الوعد بالتحرر. وأوضح ليونيل تريلينج، الأستاذ بجامعة كولومبيا وليبرالي الحرب الباردة، قائلا: "إننا يجب أن ندرك المخاطر الكامنة في أكرم أمنياتنا".

لم يكن التحول الذي طرأ على الليبرالية خلال الحرب الباردة ليشكل أهمية كبيرة الآن لو أن الليبراليين انتهزوا الفرصة لإعادة النظر في عقيدتهم في عام 1989. غير أن التشوش الناجم عن انتصارهم الجيوسياسي جعل من السهل عليهم أن يتجاهلوا أخطاءهم، على الرغم من العواقب بعيدة المدى في عصرنا. وبدلا من ذلك، ضاعف الليبراليون جهودهم. فبعد عقود عدة من الحروب اللانهائية ضد الأعداء اللاحقين ومن الاقتصاد متزايد "الحرية" في الداخل وفي جميع أنحاء العالم، أصيب الليبراليون الأميركيون بالصدمة من ردود الفعل السلبية. ولم ينته التاريخ، بل إن العديد من المستفيدين من الليبرالية في الديمقراطيات الجديدة المتراجعة وفي الولايات المتحدة لا يرون في الليبرالية الآن إلا نقائصها.

لقد أقيم استفتاء عظيم على الليبرالية في عام 2016، بعد الفوز الساحق الذي حققه ترامب في الانتخابات. وفي كتب من قبيل كتاب باتريك دينين الرائج "لماذا فشلت الليبرالية"، كان هناك تصويت مع الليبرالية في العصر الحديث بأكمله أو ضدها، وتتبع دينين ذلك إلى قرون مضت. وفي دفاع محموم عن النفس، رد الليبراليون باستحضار مصطلحات مجردة من قبيل "الحرية"، و"الديمقراطية"، و"الحقيقة" التي لا بديل لها إلا الطغيان، وانصرفوا عن أخطائهم وما قد يتطلبه تصحيحها. لقد فشل الجانبان في إدراك أن الليبرالية، شأن أي تراث، ليست صفقة إما أن تقبل جملة وتفصيلا أو ترفض جملة وتفصيلا. وتحويل الليبراليين أنفسهم لليبارالية هذا التحويل الجذري خلال الحرب الباردة يعني في ذاته أن من الممكن تحويلها مرة أخرى، ولن يستطيع الليبراليون إحياء وعود فلسفتهم إلا بإعادة الالتزام بدوافعها السابقة.

فهل هذا وارد؟ تحت أعين الرئيس بايدن، اتخذت الصين وأوروبا الشرقية ـ أي الأماكن التي صدمت أحداثها ليبراليي الحرب الباردة فدفعتهم إلى موقفهم الراهن في المقام الأول ـ موقف الحرب الباردة. وفي عهد بايدن، كما في عهد ترامب من قبله، يتعامل الخطاب الصادر عن واشنطن مع الصين على نحو متزايد باعتبارها تهديدا حضاريا. وفي الوقت نفسه، أدت الحرب الروسية على أوكرانيا إلى جعل أوروبا الشرقية مرة أخرى موقع صراع بين قوى الحرية وقوى القمع. ويحلو البعض الزعم بأن الحرب في أوكرانيا ذكرت الليبراليين بهدفهم الحقيقي.

لكننا لو ألقينا نظرة أقرب على الوطن الذي يبدو أكثر إثارة للريبة لرأينا الرئيس ترامب هو المرشح الرئاسي الجمهوري المحتمل لعام 2024 (إن لم يكن الفائز المحتمل في الانتخابات). ومع ذلك، يبدو أن الليبراليين يرهنون نجاحهم على الرؤية الإيجابية لمستقبل أمريكا بدرجة أقل مما يرهنونه بقدرة المحاكم على حماية الأمة. وحتى لو تمكن أحد المحققين الكثيرين مع ترامب من إدانته، فلن ينقذ هذا الليبرالية الأمريكية. لأن التحدي أعمق من مجرد القضاء على العدو الحالي باسم ديمقراطيتنا إذا لم تجر إعادة تصورها.

منذ انتخابه في عام 2020، يلقي الرئيس بايدن الدعم من بعض الخبراء ـ ومن إدارته نفسها ـ باعتباره فرانكلين روزفلت في مجيئه الثاني. لكن روزفلت حذر من أن "كثيرا للغاية ممن يثرثرون عن إنقاذ الديمقراطية لا يهتمون إلا بإنقاذ الوضع القائم، والأمور كما هي كائنة. وينبغي للديمقراطية أن تهتم أيضا بالأمور كما ينبغي أن تكون".

ولا يبدو أن الرئيس بايدن، برغم الأجندة الطموحة لما يسمى بليبرالية العرض، قد استوعب الرسالة. ومن جانبهم، لا يبدو أن الناخبين مقتنعون بشكل كامل حتى الآن. والليبرالية القادرة على البقاء لابد أن تجد صدى لدى الناخبين الذين يريدون شيئا يؤمنون به. ولقد كانت الليبرالية تنعم بهذا ذات يوم، فلم تكن تدور حول الخوف من الأعداء بل حول الأمل في المؤسسات التي تؤدي إلى ما أسماه جون ستيوارت ميل بـ"تجارب الحياة". وكان يعني أن الناس في كل مكان سيحصلون على فرصة من المجتمع لاختيار شيء جديد يجربونه في أعمارهم القصيرة. ولو أن أيديهم مغلولة ـ وبخاصة من خلال نظام اقتصادي قسري وغير متكافئ ـ فسوف يخسرون الأكثر أهمية، وهو فرصة أن يجعلوا أنفسهم والعالم أكثر إثارة للاهتمام.

لو أن ثمة أي جانب مشرق في المرحلة المقبلة من السياسة الأمريكية التي يواصل الرئيس ترامب تعريفها، فهو أنها توفر فرصة أخرى ليعيد الليبراليون اختراع أنفسهم. ولو أنهم ركزوا بدلا من ذلك على أيديولوجية الحرب الباردة العقيمة مثلما فعلوا بعد عامي 1989 و2016، فسوف يهدرون الفرصة. ولا بقاء ولا ازدهار لليبرالية إلا التي تفي أخيرا ببعض وعود الحرية والمساواة التي قطعتها على نفسها.

• صمويل موين أستاذ في جامعة ييل ومؤلف كتاب يصدر قريبا "الليبرالية ضد نفسها: مفكرو الحرب الباردة وصناعة عصرنا".

** خدمة نيويورك تايمز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الحرب الباردة

إقرأ أيضاً:

"الحرية المصرى": قرار الجنائية الدولية خطوة مهمة لحماية الشعب الفلسطينى من جرائم الاحتلال

أكد حزب الحرية المصرى؛ برئاسة د. ممدوح محمد محمود؛ أن قرار المحكمة الجنائية الدولية؛ بإصدار أوامر اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو؛ ووزير دفاعه السابق جالانت؛ يمثل خطوة مهمة نحو تحقيق العدالة الدولية والإنسانية بحق الضحايا الفلسطينيين الأبرياء بقطاع غزة.

وقال د. ممدوح محمد محمود رئيس حزب الحرية المصرى؛ أن قرار المحكمة الجنائية الدولية يساهم في تضييق الخناق على تحركات قادة دولة الاحتلال الذين يرتكبون جرائم حرب بحق الشعب الفلسطينى؛ ويستخدمون سلاح التجويع لإجبار الفلسطينيين على التهجير القسري من أراضيهم.

ودعا رئيس حزب الحرية المصرى الدول الموقعة على اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية وعددها ١٢٣ دولة؛ بتنفيذ الأوامر الصادرة من المحكمة الجنائية الدولية باعتقال رئيس الوزراء الإسرائيلى ووزير الدفاع السابق؛ لتحقيق العدالة الإنسانية وتنفيذ القانون الدولى.

وشدد د. ممدوح محمود على سرعة تحرك المجتمع الدولى لوقف المأساة الإنسانية التى يرتكبها جيش الاحتلال الإسرائيلى بحق الشعب الفلسطيني؛ الذى يتعرض يوميا إلى حرب إبادة جماعية؛ وتدمير للمبانى والبنية التحتية؛ بهدف تنفيذ مخططاتهم لجعل الأراضى الفلسطينية بيئة غير صالحة للحياة؛ ودفع الفلسطينيين إلى ترك أراضيهم والهجرة الى دول أخرى؛ وصولا إلى تصفية القضية الفلسطينية.

وأكد رئيس حزب الحرية المصرى؛ أن مصر ستظل الداعم الأول والرئيسي للقضية الفلسطينية؛ حتى يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وفقا لمقررات الشرعية الدولية؛ واعلان دولته المستقلة؛ على حدود الرابع من يونيو ١٩٦٧؛ وعاصمتها القدس؛ موضحا أن المجتمع الدولى عليه أن يتخذ من قرار المحكمة الجنائية الدولية خطوة لحماية الشعب الفلسطينى وتحقيق السلام العادل والشامل بالشرق الأوسط.

مقالات مشابهة

  • حقبة الحرب الباردة انتهت.. والليبرالية والديمقراطية باقيتان
  • مفهوم الحرية بين الخصوصية المجتمعية والمواثيق الدولية: جدل يتجدد في باب حوار
  • تحديثات جديدة حول الموجة الباردة واحتمالية الهطولات
  • بريطانيون يتدافعون لشراء مخابئ نووية من الحرب الباردة بأسعار قياسية
  • كم تستطيع الوقوف على ساق واحدة؟.. اختبار يكشف أمورا خطيرة عن صحتك
  • عضو الحزب الديمقراطي: أمريكا لن تستطيع وقف إصدار قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو
  • مسئول بـ«الحرية المصري»: قرار الجنائية الدولية باعتقال نتنياهو يعزز السلام الدولي
  • "الحرية المصرى": قرار الجنائية الدولية خطوة مهمة لحماية الشعب الفلسطينى من جرائم الاحتلال
  • المبعوث الأمريكي للسودان: الولايات المتحدة تؤيد إنهاء الحرب والجرائم التي ترتكب في حق الشعب السوداني
  • هل يجوز الجمع بين الأجور والنفقات ومتى تستطيع الزوجة المطالبة بها؟.. تفاصيل