"كلايبيدا" هي الميناء والمدينة الوادعة في لتوانيا التي استضافت المهرجان ووفرت له حاضنة حميمية بصرحها المسرحي، مسرح الدراما في كلايبيدا، الذي يضم ثلاثة مسارح بطاقات استيعابية مختلفة وحيث ائتلف جمعُ النقاد والفنانين والجمهور من عشاق المسرح في احتفاليات يومية شيقة ابتداء من اليوم الأول والعرض الأول الذي حمل عنوان: الرقص من أجل غسالة الملابس وأمي (Dance for washing machine and my mother).

البحث عن الخيط الرفيع ما بين الأم وغسالة الملابس في الثقافة المعاصرة

العنوان بدا غريبا ومحيرا، ما ذلك الخيط السري الذي يربط بين غسالة الملابس والأم؟ لا لوم علينا إذا ما استهجنا العنوان للوهلة الأولى، إلا أن ذلك الغموض في العنوان سرعان ما ينجلي عندما يخاطبنا العرض بأسئلته الاستفزازية.

ما هي أهم ذكرى تحملها عن أمك؟ سؤال في غاية البساطة، ولكن البعض لا إجابة لديهم على مثل هذا السؤال. لاسيما أولئك الذين ليس لديهم أي صورة لأمهاتهم حتى لا يستطيعوا أن يتخيلوا هيئاتهن. هل يمكن أن يكون للإنسان حياة طبيعية دون أن يعرف وجه أمه؟

عندما تطل علينا بطلة العرض "جريتا جرينريفكيوف" بمونولوج افتتاحي لتقول:

(أنا أرقص من أجل غسالة الملابس ولك "يا أمي" لأنني لا أتذكر أي حوار بيني وبينك، بل لا أعرف إن كان هنالك حوارا بالفعل، الناس يقولون إنك كنت تحبيني، ولكنني لا أتذكر شيئا من هذه المحبة ولا أتذكر أننا كنا معا في أي وقت من الأوقات، ولا حتى قادرة على أن أتذكر صوتك أو عطفك علي، كل ما لدي صورة قديمة، أنظر إليها تكرارا، أرى وجهك الحزين وأظل أجتر تلك الذكرى اليتيمة مرة تلو أخرى، كم أنا خائفة، من أن تكون حتى تلك الذكرى مجرد وهم، حدثُ لم يحدثْ، لذلك أنا أرقص، أرقص لك لأننا أبدا لن نلتقي مرة أخرى، ولكن ربما ما زال يمكننا أن نرقص معا).

هذا المونولوج يكاد يختزل كل المسرحية كمضمون، وقد حفلت المسرحية أيضا بالعديد من الرموز والدلالات مثال ذلك طقوس ما قبل البدء، إذ تواجدت الممثلة على خشبة المسرح تعالج تعليق صورة على الجدار أثناء دخول الجمهور إلى المسرح، والصورة هنا دلالة واضحة هنا للفت الانتباه إلى الصورة والتي سنعرف لاحقا أنها الذكرى اليتيمة عن أمها، وهي دلالة على ما يستوطن العلاقات الاجتماعية المعاصرة من وهن بالغ.

أما الدلالة الثانية فهو في تجرد الممثلة أو تغيير بعض من ملابسها في كل مرحلة من المراحل وكأنها تريد أن تقول للجمهور هذا أنا أقف أمامكم بكل شفافية واضحة مكشوفة بكل ألواني وأشكالي وحالاتي لا شيء يسترني عنكم لا داخليا ولا خارجيا.

أما الأطر الإخراجية للعرض فقد تمثلت بإطارين رئيسيين واضحين، الأول الغناء الحي والرقص التعبيري المتصاعد والمتناغم، والذي من خلاله تنتظم الأحداث وتتمحور في إيقاع سلس يمضي من المَشاهد التائهة والإرباك إلى مَشاهد الفهم والتعاطف عند الذروة، والثاني توظيف وسائل التواصل الاجتماعي في العرض من خلال شاشات جانبية لا لتقديم الترجمة الإنجليزية للعرض فقط، بل ولتعضد العرض بلقطات واقعية مؤثرة ولتبرز صورة الممثلة بكل تعابير وجهها الدقيقة واضحة على الشاشة.

باكستان استضافت المرأة التي رقصت مع غسالة الملابس

على أننا بعد هذه الإطلالة على المسرحية يمكننا أن نقف أمام عدة إشكاليات تثيرها المسرحية لعل أولها وأهمها مكانة الأم، نعم هنالك مجتمعات في العالم بلغ فيها انهيار منظومة الأسرة إلى الحد الذي يجد المرء فيه نفسه كنبتٍ شيطاني لا يُعرف أصل له ولا فصل، فإذا كان العمل صادما للجمهور في لتوانيا فهو لا شك مفزعا للجمهور في مجتمعاتنا الشرقية حيث تحظى الأم بمكانة عَلِيَة في الوجدان لا تقارنها مكانة أخرى، والأم عندنا حاضرة في أدق تفاصيل حياتنا اليومية، قد لا نستوعب بسهولة الرقص من أجل غسالة الملابس عوضا عن ذكريات الأم أو إيماء إلى غياب الأم، هذا اختلاف ثقافي بَيِنٌ في مقاربة هذا العمل، لذلك وقفت بهوتا عندما علمت أن هذا العمل قد تم استضافته في باكستان بجهود من الفنان الباكستاني "سهيل مالك" الموجود معنا في المهرجان.

قرأ الفنان "سهيل مالك" دهشتي فبادرني بأنهم في باكستان طلبوا من الممثلة أن تبقى بملابسها كاملة دون أن تتجرد أو تغيرَ بعضها على المسرح، واعتقدَ أنه بذلك قد أجاب على كل أسئلتي واستل الحيرة من داخلي، والحقيقة غير ذلك، سؤالي كان حول مفهوم الأم في منظومة القيم الباكستانية ومدى توافقها مع ما قدم في هذه المسرحية؟ هل هضم الجمهور الباكستاني مثل تلك العلاقة المرتبكة بالأم مثلما قدمتها المسرحية؟

الحقيقة كما يقول الكاتب، حرمت ماجد، في مقال له نشر في 13 مارس 2023 في المجلة الثقافية يولن "Youlin"، المسرحية قدمت في نسختين، واحدة بالعنوان الأصلي: الرقص من أجل غسالة الملابس وأمي، والثانية تم إعدادها إعدادا جديدا ومختلفا من قبل الفنان "سهيل مالك" وآخرين، وأخذت عنوان: الرقص من أجل الأشياء والأطفال.

نعم، فقد أجريت تعديلات جوهرية على المسرحية، ولعل العنوان الجديد الذي قدمت فيه المسرحية في باكستان يشي بنوعية التعديلات، حيث صار تركيز المسرحية مع تغيير بعض الحوارات على حرية الزوجين باتخاذ القرار المناسب لهم بأن يكون لديهم أطفال أو لا يكون، أي أن القضية المركزية في العرض الباكستاني هي الإنجاب والأطفال والمستقبل الغامض أمامهم والتحديات الحياتية الجمة، لذا لا غرابة أن يلقى العرض حفاوة بالغة وقد صُير بما يتوافق والمجتمع الباكستاني.

عموما، إن النسخة الباكستانية هي ليست النسخة الثانية للعرض بل هي الثالثة، فقد سبق تقديم المسرحية بنسخة أولى عام 2018 تحت عنوان: "الرقص من أجل المكنسة الكهربائية والأب"، والعنوان يشير إلى أن الأب هو المحور هنا والحوار مع المكنسة الكهربائية، ويبدو الاتساق جليا بين النسخة الأولى والثانية وبدرجة أدنى مع النسخة الثالثة، رغم أن ممثلة العرض تؤكد أن العروض الثلاثة تستهدف الصورة النمطية لمفهوم العائلة المثالية.

على أي حال، كانت المسرحيتان مقدمة جيدة للمسرح الذهني في باكستان، كما يؤكد حرمت ماجد، مما جعل السفير اللتواني في باكستان فخورا جدا بهما وأطلق مقولته المأثورة، كنا دائما نفاخر خارجيا بأن لاعبي فريق كرة السلة اللتوانيين موجودون في كل مكان في العالم، يمكننا اليوم أن نفاخر بأن المسرح اللتواني موجود في كل مكان في العالم وخاصة باكستان.

وليس لنا أن نغادر هذا العرض المسرحي دون أن نقف عند الإشكالية الفنية الأهم فيه، ألا وهي تلك المسافة اللازمة بين الممثل وذاته.

"جريتا" ممثلة تبحث عن ذاتها بين أداء واقعي ورغبة في التنفيس

كانت المسرحية أقرب إلى نوع مسرحيات المونودراما، أي مسرحية الممثل الواحد الذي يتحمل عبء المسرحية كاملة على عاتقه، والممثلة "جريتا" كانت ممثلة على مستوى عال من الكفاءة وعلى مستوى التحدي استطاعت أن تؤثر وجدانيا في الجمهور المتعاطف معها إلى درجة تماهت فيها كل الفواصل بينها كممثلة وبين الشخصية التي تمثلها، فكادت الشخصيتان تكونا شخصية واحدة، بعد العرض تناقل الزملاء في المهرجان سرا وجهرا أن الممثلة في المسرحية "جريتا" كانت تقدم شخصيتها الحقيقة وقصتها هي ذاتها والعلاقة المرتبكة بينها وبين أمها التي افتقدت وجودها منذ مراحل الطفولة المبكرة، وعند اللقاء مع الممثلة في المساء، أكدت تلك المعلومة المهمة.

إذا الممثلة بكل تلك المشاعر الجياشة على المسرح لم تكن تمثل بل هي تقدم نفسها ومعاناتها الشخصية على المسرح، فكيف يمكن أن نصنف هذا الأداء؟

عند "قسطنطين إستانسلافسكي" على الممثل أن يسعى كل السعي الممكن ليستلهم الشخصية التي يمثلها لتكون أقرب ما يمكن من الواقع، ولكن في ذات الوقت يجب أن يبقى هامشا متحكما من شخصيته الأصلية كممثل له ذات مختلفة عن الشخصية التي يمثلها، فتلك المساحة الهامشية تتيح للمثل أن يبدع ويرتجل ويتألق وأن يحافظ على منظومة العمل دون الانزلاق إلى هوة المبالغة والانسياق في عواطف انفعالية غير محمودة على خشبة المسرح.

هل وقعت الممثلة "جريتا" في هذا المحظور الذي أشار إليه "إستانسلافسكي" صاحب أول مدرسة لفن التمثيل وأشهرها؟ هل كنا نحن كمشاهدين سنقف عند مثل هذا المحظور لو لم نعرف أن الممثلة إنما تقدم حياتها الحقيقية على خشبة المسرح؟ وإذا ما كانت الممثلة تقدم ذاتها ومعاناتها فأين الفن وأين الإبداع؟

بدر إلى ذهني أن مثل تلك المسرحيات التي يقدم فيها الفنان نفسه وهمومه إنما هي على تماس واضح فيما يعرف في عالم المسرح وعلم النفس بـ"السيكودراما" "Psychodrama" والتي تستخدم أحيانا في معالجة من يعانون من أزمات نفسية حادة، على أن هذا أمر بحاجة إلى تفصيل أوسع من هذا المقال.

كم كنت أتمنى أن أعيد مشاهدة هذه المسرحية لأتيقن من هذه النقطة بالذات، لكن الأوان قد فات ولا مجال لمشاهدة ثانية في المهرجان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی باکستان على المسرح

إقرأ أيضاً:

تل أبيب تتخبط و رئيس أركان جيش العدو مهدد بالإقالة

 

 

الثورة / متابعات

أعترف إعلام العدو الصهيوني أن القوات المسلحة اليمنية أطلقت أكثر من 200 صاروخ وأكثر من 170 مسيرة على “إسرائيل” منذ بداية دخول اليمن الحرب نصرة للشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحرب إبادة صهيونية في غزة منذ 442 يوما.
وتشهد وسائل الإعلام العبرية جدلا حادا بسبب الصواريخ والمسيرات اليمنية التي تفشل كل منظومات الدفاع باعتراضها بشكل متكرر ، وفي كل مرة يحال الفشل إلى التحقيق .
وأشار محللون اسرائيليون عبر القناة العبرية الثانية عشرة ، إلى أن نتائج التحقيقات الأخيرة قد تؤدي للإطاحة برئيس أركان الجيش هيرتزي هاليفي بسبب إخفاقه في وضع حلول لمواجهة الضربات اليمنية المتكررة .
وكان جيش الاحتلال الإسرائيلي، اعترف  أمس السبت،  بفشله في اعتراض صاروخ أطلق من اليمن باتجاه تل أبيب.
وقال المتحدث باسم جيش الاحتلال، في بيان مقتضب على منصة “إكس”: “عقب إطلاق صاروخ من اليمن وتفعيل الإنذارات وسط إسرائيل جرت محاولات اعتراض غير ناجحة ليتم تحديد منطقة سقوطه”.
من جانبه قال المدير التنفيذي لمعهد واشنطن ومسؤول المناصرة في الكونجرس الأمريكي سيف المثنى، في تدوينة على منصة (إكس) : ” الصاروخ الذي انطلق من ‎صنعاء ، وصل إلى تل أبيبب وتجاوز القبة الحديدية ومنظومة ثاد الدفاعية”.
واعترف خبراء عسكريون إسرائيليون أن الضربات الأخيرة للصواريخ اليمنية كشفت ثغرات أمنية خطيرة في أنظمة الدفاعات الجوية الإسرائيلية.
وقالوا إن الصاروخ الذي أطلق من اليمن جاء عبر مسار لا يمكن تشخيصه أو أن الرأس الحربي على الصاروخ يغيّر من مساره وسرعته ما لا يسمح باعتراضه.
بدورها، أقرّت صحيفة “معاريف” بأنّ “ إسرائيل” لا تعرف كيف تتعامل مع اليمن”، لافتةً إلى أن “الجيش هذه المرة أعلن صراحةً أن محاولات الاعتراض باءت بالفشل”.
وأضافت الصحيفة أن “إسرائيل” لم تستعدّ بشكلٍ كافٍ، سواء على الصعيد الاستخباري أو السياسي، لمواجهة التهديد المقبل من اليمن، مؤكدةً أن “إسرائيل أدركت خطر التهديد المقبل من الشرق بعد فوات الأوان، وتنجرّ ضعيفة في ردّها على التهديد”، وأنّ “الضربات الجوية الإسرائيلية الأخيرة ضدّ اليمنيين كانت أشبه بعرض استعراضي، من دون التسبّب في أضرار عسكرية كبيرة أو تحقيق الردع المطلوب”.
كما أشارت إلى أن الصاروخ اليمني الأخير تسبّب باستيقاظ ملايين الإسرائيليين في الوسط وهروبهم إلى الملاجئ، بينما نقلت عن إحدى المستوطنات التي تسكن بالقرب من مكان سقوط الصاروخ تأكيدها أن “الانفجار كان قبل صفارات الإنذار، ولم يكن لديهم الوقت للوصول إلى الملاجئ”.
وقال أمير بوحبوط، محلل الشؤون العسكرية في موقع “والاه” الإسرائيلي، أن المواجهة مع اليمن تشير إلى فجوة إسرائيلية استخبارية في التقدير وفي بنك الأهداف.
إلى جانب ذلك، أشارت صحيفة “معاريف” إلى أن هناك تحسينات في الصواريخ الباليستية التي أصبحت تتفوّق على صواريخ “حيتس” للدفاع الجوي، مشيرةً إلى أن “مشروع الدفاع الجوي الرائد فشل 4 مرات متتالية في اعتراض الصواريخ الباليستية، 3 مرات من اليمن ومرة واحدة من لبنان.
وبيّنت الصحيفة أن “الجيش الإسرائيلي يجد صعوبات في التعامل مع التهديدات اليمنية، سواء على الصعيد الدفاعي أو الهجومي”.
وفي السياق، قال موقع “ميفزكلايف” الإسرائيلي، إنّ الصاروخ اليمني الذي أصاب “تل أبيب” يثير تساؤلات مقلقة بشأن قدرة النظام على الكشف عن التهديدات من هذا النوع.
وتابع إنّ الصاروخ اليمني ربما تحرّك في مسار فريد يصعب اكتشافه بواسطة أنظمة الإنذار المبكر المنتشرة خارج الحدود، مضيفاً أنّ الصاروخ اليمني ربما كان مزوّداً برأس حربي متقدّم يستطيع تغيير مساره أثناء الطيران وحتى لحظة إصابة الهدف.

مقالات مشابهة

  • آمبر هيرد تدعم بليك ليفلي ضد مخرج "It Ends With Us"
  • الهيئة الملكية لمدينة مكة المكرمة والمشاعر المقدسة تعلن تمديد التأهيل للمطورين
  • لبيد: رئيسا أركان الجيش و"الشاباك" فشلا ويجب أن يستقيلا
  • العلوي يستعرض علاقات التعاون مع رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية
  • "أثنا عشر شخصًا غاضبًا" و"الحارس" في مستهل عروض نوادي المسرح بإقليم القناة وسيناء
  • شاهد | قائد سابق في هيئة أركان العدو: اليمن لن يخسر المعركة
  • المسرح القومي يحتفل بمائة ليلة عرض لمسرحية «مش روميو وجولييت» في رأس السنة
  • تل أبيب تتخبط و رئيس أركان جيش العدو مهدد بالإقالة
  • شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا السوداني “كابوكي” وزوجته الممثلة الحسناء “هديل” يثيران ضحكات المتابعين بمقطع كوميدي
  • مذاهب العلماء في أركان الصيام.. الإفتاء توضح