أندريه بوير يكتب: إرهاصات ومقدمات.. وداعًا للغطرسة الفرنسية فى أفريقيا
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
الانقلاب والمظاهرات فى نيامى وقمة سان بطرسبرج الأفريقية الروسية.. ثلاثة إرهاصات تعلن تقلص نفوذ فرنسا فى إفريقيا واليوم آن الأوان لفهم الأسباب؛ السبب الأول يبرز مع خروج الجيش الفرنسى من معظم منطقة الساحل؛ إذ لم يعد لفرنسا أى قبول لا فى مالى ولا فى بوركينا فاسو ولا فى جمهورية أفريقيا الوسطى ولا فى النيجر حاليا ولم يبق فى الصورة إلا تشاد حتى اللحظة.
ويكشف السبب الثانى للشعب الفرنسى التعس أن فرنسا لم تعد محل ترحيب فى أفريقيا وبتعبير أدق لم يعد للتواجد الرسمى لفرنسا فى أفريقيا من خلال السفارات القبول المرضي.
وهنا أنا أقول فى أفريقيا ولا أقول فى النيجر لأننى مقتنع بذلك وهو أمر من السهل التحقق منه، أن كل أفريقيا الناطقة بالفرنسية تعارض سياسة السفارات والتى تتمثل فى توجيه السفارة الفرنسية الموجودة فى أى دولة للحكومات الافريقية وأنا هنا لا أسجل دهشتى فقط بل فهمى أيضا عندما تناقشت مع مواطن فرنسى من توجو.
أوضح لى أن السلطة هنا ليست للرئيس فور جناسينجبى نجل الرئيس الراحل جناسينجبى إياديما ولكن لسفير فرنسا فى لومي والذى بدونه لايتخذ الرئيس قرارًا هاما. وأضاف: "هل تعتقد أن الشعب التوجولى يمكن أن يتحمل إلى أجل غير مسمى العمل تحت قيادة ديكتاتوريين تعينهم فرنسا؟".
والسبب الثالث أعلنته صحيفة لوفيجارو فى ٢٧ يوليو عندما وصلت إلى ذروتها من حيث التضليل الإعلامى فقد كتبت: "روسيا المعزولة تفتتح المنتدى الاقتصادى الخامس والعشرين فى سان بطرسبرغ"! سبعة عشر ألف مشارك ومائة وثلاثون دولة مثلوا، ونتحدث عن فشل ذريع!!.
وأضيفت القمة الروسية الأفريقية، التى نظمت يومى ٢٧ و٢٨ يوليو ٢٠٢٣، بمشاركة وفود من جميع الدول الأفريقية تقريبًا، بما فى ذلك أربعون زعيمًا أفريقيًا. فشل آخر لروسيا؟!
يمكننا أن نلاحظ على عكس ما ذكرته لوفيجارو أن الأفارقة جاءوا إلى سان بطرسبرج تقديرا للمقاومة المنتصرة لروسيا فى مواجهة الغرب.كما أعربوا عن استيائهم من خضوعهم لإملاءات النموذج الغربي، وهى إملاءات يعلنون صراحة رفضهم اياه مثلما تفعل روسيا فى مواجهة الغرب. ذلك أن المقاومة الروسية تمنحهم الشجاعة للعمل بينما لا يعيرون أى اعتبار للنموذج الأوكرانى الذى هو البديل الغربى الخالص.
من السهل تفهم رفض النموذج الذى اقترحته الدولة الفرنسية فى أفريقيا. يجب أن نبدأ بالاعتراف بأن أفريقيا قد تغيرت منذ الاستقلال. بين عامى ١٩٦٠ و٢٠٢٠، زاد عدد سكان النيجر من ٣ إلى ٢١ مليون نسمة، نصفهم دون سن ١٥ مما يعنى أن ميزان القوى الديموغرافى قد تغير تمامًا بين فرنسا وأفريقيا. وبالتالى ميزان القوى بشكل عام.
وقد أدلت القوى الغربية بتصريحات عفا عليها الزمن. فى مواجهة حماقات محمد بازوم الذى يواجه ثالث انقلاب ضده خلال عامين. والذى على الرغم من أنه يمثل أقلية عرقية متطرفة فى النيجر، لم يتردد فى إثارة غضب جيشه من خلال دعوة القوات الفرنسية والأمريكية والألمانية والإيطالية إلى القدوم والاستقرار على نطاق واسع فى النيجر للقتال ضد المتمردين، وقد طالبت الدول الغربية بشكل مثير للشفقة باحترام سيادة القانون، كما لو كانت مسئولة عن فرضه فى النيجر، بغض النظر عن رأى شعب النيجر. لكن أين حشود النيجر التى تتظاهر فى نيامى من أجل احترام حكم القانون الذى يطالب به الغرب؟
لم يستطع القادة والرأى العام فى الغرب فهم أن التدخل العسكرى والاقتصادى وقبل كل شيء الأخلاقى لهم- بدءًا بتدخلات فرنسا – يثير سخط الرأى العام الأفريقي. وقد ذكر وزير إحدى دول الساحل مؤخرًا إنه إذا أرادت فرنسا أن تجعل مساعداتها التنموية مشروطة بدعم قضية المثليين أو البيئة فلا مجال للمفاجاة إذا تم إحراق السفارات الفرنسية فى أفريقيا.
وماذا عن موسكو؟ يعتمد الأفارقة على النموذج الروسى لمقاومة الغرب لتحرير أنفسهم من نير الغرب وصندوق النقد الدولى واتفاقياته المشروطة، مثل فرنك الاتحاد المالى الأفريقى المتوافق مع اليورو. إنهم يرفضون إطارًا مفروضًا لمنحهم الأموال لكنهم يريدون مفاوضات على قدم المساواة كما يرفضون صراعًا ضد المتمردين الذين هم، حسب رأيهم، إفراز الغرب الذى دمر ليبيا بقتله القذافي.
وهكذا يبدو أن النتيجة غير المتوقعة لفشل الغرب فى زعزعة استقرار روسيا عن طريق الحرب ستكون فقدان النفوذ الغربى والفرنسى على وجه الخصوص فى أفريقيا. إن هذا لا يعنى إضمار الكراهية لفرنسا بقدر ما يعنى كراهية السياسة التى تنتهجها فرنسا.
على سبيل الاستنتاج
لا شك أن العودة إلى أفريقيا تتطلب العودة دون شروط ودون فرض مبادئ وعلى سبيل المثال، أنا متأكد من أنه إذا اقترحت فرنسا ببساطة على النيجر أن تمدها بنسبة ٧٠٪ من الكهرباء اللازمة لها مقابل امداد النيجر لفرنسا بـ٣٠٪، من اليورانيوم الذى تستخدمه محطات الطاقة النووية فى فرنسا، لتمويل وبناء مفاعل نووى صغير فلن ترفض الحكومة النيجيرية ذلك. وداعا يا أفريقيا؟ بتعبير أدق، وداعًا للغطرسة الفرنسية والغربية فى أفريقيا.
معلومات عن الكاتب:
أندريه بوير.. أستاذ جامعى، مهتم بقضايا التنمية البشرية والصحة العامة. يكتب، فى مقاله، عن أفول النفوذ الفرنسى والغربى بشكل عام فى أفريقيا من واقع أحداث متتالية، منها الانقلاب فى النيجر.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: الانقلاب قمة سان بطرسبرج أفريقيا فى أفریقیا فى النیجر
إقرأ أيضاً:
سوريا.. هل سيتعلّم الغرب من الدروس المستفادة هذه المرّة؟
في ديسمبر الماضي، نجحت المعارضة السورية المسلّحة في الإطاحة بنظام الأسد بعد صراع دام لأكثر من 13 سنة. ويجمع كثير من الخبراء والمراقبين على أنّ هذه اللحظة التاريخية تعدّ علامة فارقة في تاريخ المنطقة، وقد تفتح الباب واسعاً أمام تحوّلات جيو ـ سياسية وتغيير في موازن القوى الإقليمية، وتدشّن مرحلة جديدة من التفاعلات الإقليمية.
المفارقة أنّ التحوّل الذي حصل في سوريا يعطي الغرب فرصة تاريخية لتغيير صورته السيئة ودوره المشؤوم ليعيد ترتيب حساباته وعلاقاته مع العالم العربي والإسلامي على أرضية مناسبة تحقق مصالح الطرفين. لكن ما نسمعه الآن من تصريحات من بعض المسؤولين الأمريكيين والأوربيين وما يتم تداوله من شروط وضغوط لا يتناسب مع مثل هذا التصوّر المتفائل.
النقاشات الحقيقية في الأوساط الغربية لا يدور حول أهمّية إعادة بناء سوريا أو رفع العقوبات لتمكينها من تحقيق الاستقرار وإطلاق عملية إعادة اعمار البلاد، وإنما حول أشياء أخرى أقل أهمّية بالنسبة للشعب السوري والمنطقة، وتتعلّق بصراع الهويات والأيديولوجيات والأقليات وإسرائيل. أولى المقابلات الإعلامية الغربية على سبيل المثال مع الرئيس أحمد الشرع ركّزت على موضوع ما إذا كان سيتم السماح ببيع المشروبات الكحولية في سوريا، أخرى ركّزت على موضوع الحجاب..
التحوّل الذي حصل في سوريا يعطي الغرب فرصة تاريخية لتغيير صورته السيئة ودوره المشؤوم ليعيد ترتيب حساباته وعلاقاته مع العالم العربي والإسلامي على أرضية مناسبة تحقق مصالح الطرفين. لكن ما نسمعه الآن من تصريحات من بعض المسؤولين الأمريكيين والأوربيين وما يتم تداوله من شروط وضغوط لا يتناسب مع مثل هذا التصوّر المتفائل.وبالمثل، فإنّ أولى الزوبعات الإعلامية المصاحبة للزيارات الرسمية الغربية إلى الإدارة السورية الجديدة كانت ترتبط بزيارة وزيرة خارجية ألمانيا إلى دمشق. كان التركيز حينها داخل ألمانيا وخارجها على طريقة مصافحة أو عدم مصافحة الرئيس الشرع لها. وبالمثل، فإنّ انشغال المسؤولين الغربيين هو عمّا إذا كان الشرع قد تحوّل بالفعل، وكيف بإمكانهم أن يدفعوا التغيير باتجاه يتناسب معهم بدلا من أن يتناسب مع السوريين!
الأوروبيون على سبيل المثال يسوّقون لضرورة أن يقوم النظام الجديد بتنفيذ لائحة من الشروط قبل أن يحاولوا اقناع دوائر صنع القرار في أوروبا بضرورة رفع العقوبات عن سوريا. أهم ما تضمّه هذه اللائحة من الشروط هو تشكيل حكومة جامعة قد تنتهي إلى ما نعرفه باسم المحاصصة، وأن يكون للميليشيات الكردية المسلّحة وضعها الخاص (يسمّونهم تعميماً الأكراد وذلك لإعطائهم الشرعية وحصرية تمثيل الأكراد، وهو مسمى غير صحيح ومضلّل)، بالإضافة إلى قضايا أخرى تتعلّق بالمعايير الأوروبيّة غير المتّفق عليها حتى غربيّاً!
الأمريكيون يريدون كذلك أن يدفعوا التغيير باتجاههم، فتارةً يعطون قطعة من الأرض السورية إلى إسرائيل، وطوراً يضعون شرطاً مبطّناً حول التطبيع، وبين هذا وذلك الدعم الكامل لإسرائيل ومساعي تفجير الملف الفلسطيني مجدداً، مع التلويح بورقة العقوبات والإرهاب للسوريين. وبالرغم من تفاؤل البعض بالرفع الجزئي للعقوبات، إلا أنّ ذلك لا يعكس بالضرورة الخطوات القادمة، ولا يمكنه في جميع الأحوال تحسين الوضع في سوريا.
ما يجب قوله للأمريكيين والأوروبيين هو أنّهم قبضوا الثمن مقدّماً، فلا مخدرات تغرق أسواقهم اليوم، ولا ملايين اللاجئين والنازحين الهاربين إليهم، ولا إيران وروسيا في دمشق. هذه كلّها مكاسب استفادوا ويستفيدون منها، وعليهم أن يعووا أنّ الكرة في ملعبهم اليوم، فإذا أرادوا الحفاظ على المكتسبات سيكون هناك حاجة لاتخاذ الخطوات الأولى برفع العقوبات بدلاً من الإنخراط في لعبة البيضة والدجاجة، ولعبة "لا رفع للعقوبات قبل أن تنفذ الإدارة الجديدة ما نريد من لائحة الشروط الطويلة".
سوريا تحتاج اليوم كل الدعم التي تستطيع أن تقدّمه كل الدول، كما تحتاج من كل الدول الامتناع عن التدخل في الشأن الداخلي. الإخلال بأي منهما، سيؤدي إلى الفشل الذي ستكون تداعياته أكبر من أن يتحمّلها أي لاعب إقليمي أو دولي. رفع العقوبات هو المدخل الأساسي، وتقديم الدعم لتحقيق الاستقرار سيعود بالنفع على الجميع. هل سيعي الغربيون الدرس هذه المرّة؟إذا ما فشلت الإدارة الجديدة في تحقيق الاستقرار والأمن وبسط السيطرة على كامل الأراضي السورية وإطلاق عملية إعادة إعمار البلاد بسبب العقوبات المفروضة على البلاد ومحاولة الدول الغربية ابتزاز الوضع السوري لغايات ليس لها علاقة بسوريا أو حتى بمصالحهم المباشرة فيها، فإنّ تداعيات هذا الأمر ستكون كارثية. صحيح أنّ سوريا ستكون أولى المتضرّرين ومن ثمّ لبنان والأردن وتركيا والعراق، لكن الأمر سيمتد سريعا ليشمل هذه الدول الغربية ومصالحها في المنطقة.
هل ستتعلّم الدول الغربية من أخطائها السابقة وتتدارك هذا الأمر؟ التجربة تقول إنّهم إذا ما عبثوا بقضيّة ما فستنتهي إلى الأسوء. بعض التصريحات الصادرة مؤخراً عن مسؤولين أمريكيين وأوروبيين لا توحي بالخير. وضعهم لقوائم طويلة من المطالب والشروط، وربطهم هذه الشروط بأجنداتهم الخاصة مقابل تخفيف العقوبات سيقوّض من الوضع في سوريا لاحقاً، وقد يخسر الجميع كل المكتسبات التي تمّ تحقيقها مع الإطاحة بنظام الأسد.
سوريا تحتاج اليوم كل الدعم التي تستطيع أن تقدّمه كل الدول، كما تحتاج من كل الدول الامتناع عن التدخل في الشأن الداخلي. الإخلال بأي منهما، سيؤدي إلى الفشل الذي ستكون تداعياته أكبر من أن يتحمّلها أي لاعب إقليمي أو دولي. رفع العقوبات هو المدخل الأساسي، وتقديم الدعم لتحقيق الاستقرار سيعود بالنفع على الجميع. هل سيعي الغربيون الدرس هذه المرّة؟