إبراهيم نوار يكتب: الاقتصاد والعلم والمجتمع.. قمة الأمم المتحدة وأجندة التنمية المستدامة.. والرد على تحديات «توطين التنمية»
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
تعقد الأمم المتحدة فى الشهر القادم قمة عالمية لمراجعة تنفيذ أهداف التنمية المستدامة لعام ٢٠٣٠. وسوف تتركز أعمال تلك القمة على إعادة توجيه سياسات التنمية الاقتصادية فى العالم، لتحقيق الأهداف التى كان قد تم تحديدها عام ٢٠١٥. ويظهر التقرير الأولى عن المراجعة، أن دول العالم لم تحقق إلا النذر القليل من التقدم لتحقيق تلك الأهداف، على الرغم من أنها قطعت نصف الطريق زمنيا للوصول إليها، فقد وجد تقرير المراجعة أن ١٢٪ فقط من الأهداف المحددة تسير على المسار السليم لتحقيقها فى عام ٢٠٣٠.
ويعود الفضل إلى صديقى العزيز الدكتور محمود محيى الدين، مبعوث الأمم المتحدة المسؤول عن أجندة تمويل التنمية المستدامة ٢٠٣٠، النائب السابق لرئيس البنك الدولي، فى إثارة نقاش حول السياسة الاقتصادية وأهداف التنمية المستدامة وتحديات "توطين التنمية" وهو المصطلح الذى صاغه واستخدمه فى عناوين مقالاته المهمة فى هذا الموضوع، من موقعه الذى يرى منه العالم كما هو بالفعل وكما يعرفه عن قرب. وأظن أن إثارة نقاش جاد فى هذا الموضوع مسألة ضرورية ومستحقة، إذا كنا ننظر إلى مستقبلنا بالقدر الكافى من المسئولية.
الدولة والسوق
السوق هى جوهر الاقتصاد، وما يحدث فى السوق يقرر تخصيص الموارد بين أغراض الاستخدامات المختلفة، بما يقيم العلاقة بين العرض والطلب على أسس التوازن. كما أن السوق هى التى تقرر أنصبة عوامل الإنتاج، مثل الأرباح والأجور والريع طبقا لتقسيم العمل السائد. وقد تعمل السوق على أساس قوانين حرية المنافسة، أو قد تديرها الحكومة (أو الدولة مجازا) بقرارات إدارية. وفى أحوال متطرفة تعتبر الدولة نفسها بديلا للسوق. من الناحية العملية تعتبر قوانين المنافسة الكاملة والشفافية المطلقة مجرد أدوات نظرية لغرض القياس والتحليل والتقييم. وتوجد المنافسة فى الواقع فى شكل تطبيقات نسبية. وكان من المعتقد، كما علمنا آدم سميث، أن قوانين المنافسة الكاملة كافية لخلق وضع توازن اقتصادى دائم. وأطلق سميث تعبير "اليد الخفية" على القوة التى تتكفل بضمان هذا التوازن. ويعتبر ألان جرينسبان، رئيس مجلس الاحتياط الفيدرالى الأمريكى الأسبق آخر الاقتصاديين الكبار الذين حافظوا على عقيدة "اليد الخفية"، حتى جاءت الأزمة المالية عام ٢٠٠٨، وتحملت سياسته نصيبا من المسؤولية عنها، فأعلن خروجه عن "مِلّة اليد الخفية" فى شهادة أمام الكونجرس، اعترف فيها بأن النظام المصرفى والمالى فشل فى تنظيم نفسه بنفسه، وأنه من الضرورى تدخل الحكومة بشكل من الأشكال لتحقيق التوازن فى السوق. هذه المهمة تولاها عنه لورانس سمرز وزير الخزانة فى عهد أوباما. لكن الجدل بشأن الحدود بين المنافسة الكاملة والتدخل الحكومى ما تزال غامضة ومطاطة، إلى الحد الذى قد تعتبر فيه الحكومة نفسها بديلا عن السوق بزعم حماية المنافسة!
العلاقة بين الحكومة العامة والسوق هى موضوع السياسة الاقتصادية. وتتولى الحكومة العامة وضع السياسة الاقتصادية والإشراف على تنفيذها. وتتضمن الحكومة العامة السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. ومع أنه لا يمكن اختزال الحكومة العامة فى شخص فرد، ولا فى نفوذ سلطة من السلطات الثلاث، فإن هذه الظاهرة، أى اختزال الحكومة العامة فى شخص واحد، أو فى سلطة دون بقية السلطات، توجد فى البلدان الأدنى سياسيا، والنظم الفاسدة، التى تأتى بالسلطات الثلاث على مقاس شخص واحد أو هوية واحدة. وفى هذه الحالة تفسد العلاقة بين الحكومة والسوق، وتنشأ فى داخل السوق نفسها فئة تدخل فى علاقة تحالف وتربح مع الحكومة. ويقدم التاريخ الاقتصادى أمثلة كثيرة لإخفاقات الحكومة العامة، التى قد نطلق عليها مجازا "الدولة"، الأمر الذى يستدعى إطلاق قوى المنافسة فى السوق لإصلاح هذه الإخفاقات. كما يمكن أيضا فى الحالات العكسية أن تخفق السوق وقوانين المنافسة فى تحقيق وضع التوازن. وفى تاريخ مصر الاقتصادى أمثلة كثيرة لإخفاقات الدولة، منها الأزمات الاقتصادية المتكررة، وشحة السلع الأساسية فى الأسواق، ونقص العملات الأجنبية فى خمسينات وستينات القرن الماضي، التى وصلت إلى اختفاء سلع أساسية مثل الزيت والسكر والصابون والقمح والذرة حتى "ورق البافرة"، وهو ورق لف السجائر. كما يقدم التاريخ الاقتصادى كذلك أمثلة لإخفاقات السوق، تتمثل فى الظواهر الكثيرة التى ترافقت مع سياسة الانفتاح الاقتصادي، التى وصلت إلى حد إدارة المشروعات بدوافع وأساليب تحقيق الربح السريع بطرق النصب والاحتيال والسرقة، وتقسيم السوق بواسطة اتفاقات احتكارية غير معلنة، وانتشار الأعمال الطفيلية وخلق الأزمات، ثم تحويلها إلى فرص لتحقيق أرباح لجماعات المصالح. ولذلك فقد أصبح من الضرورى فى عصر الاضطراب العالمى الذى نعيشه أن نعيد فحص العلاقة بين الحكومة والسوق، من خلال رصد الملاحظات، وتحليلها، واختبار السياسات التى أنتجتها، وإعادة تركيبها، على أساس فروض علمية قابلة للتقييم والاختبار. وتدخل هذه العملية المنهجية فى إطار دراسات تقييم السياسة الاقتصادية، وهى عملية من عمليات إخضاع السياسة للاختبار العلمي، والعمل على تصويبها طبقا للنتائج.
معايير تقييم السياسة الاقتصادية
مسألة تقيبم السياسة الاقتصادية فى الوقت الحاضر ليست سهلة أو بسيطة. لأننا قبل أن نقوم بذلك يتعين علينا تحديد المعايير التى سوف نستخدمها فى التقييم. وقد عرفنا أن موضوع السياسة الاقتصادية هو العلاقة بين الحكومة العامة والسوق. ومن الضرورى تقييم السياسة الاقتصادية أولا على أساس الفروض التى انطلقت منها، والأهداف التى حددتها بنفسها لكى تحققها. لكن هذا لا يعنى استبعاد مدى ملاءمة الأهداف والأولويات لمقتضيات الواقع، لأن التاريخ الاقتصادى يعلمنا أيضا أن أول الفشل فى سياسة اقتصادية معينة يكون هو الفشل فى تحديد الأولويات والأهداف الملائمة لمقتضى احتياجات الواقع. ومن الضرورى فى الوقت نفسه ترجيح الأهداف المعلنة بالنتائج المحققة فعلا، لكشف مدى نجاح أو فشل السياسة الاقتصادية. ويتضمن فحص وتقييم أداء السياسة الاقتصادية أربعة مجالات رئيسية هى السياسة المالية، والنقدية، والتجارية، وسياسة تنظيم سوق العمل. ونحن نضيف سوق العمل هنا إلى المجالات الرئيسية للسياسة الاقتصادية نظرا لأهمية تلك السوق فى مراحل التنمية الأولى، ومراحل التحول والانتقال.
وكما أن العلاقة بين الدولة والسوق هى موضوع السياسة الاقتصادية، فإن السياسة الاقتصادية تتميز أيضا بعلاقتها بأساليب وأدوات وإجراءات تنظيم مجالات هذه العلاقة فى المستقبل، وهو ما يؤدى إلى الخلط بين السياسة والإدارة. وفى هذا فإننا نفرق بين "الإدارة الاقتصادية" التى موضوعها هو "الحاضر" فى علاقة الدولة بالسوق، وبين "السياسة الاقتصادية" التى موضوعها هو "المستقبل". الترجمة العملية لهذه التفرقة تعنى أن "الإدارة الإقتصادية" تعمل طبقا للقوانين واللوائح والإجراءات الموجودة بالفعل، بينما وظيفة "السياسة الاقتصادية" هى وضع قواعد عمل السوق فى المستقبل، سواء بزيادة قبضة الدولة عليها، أو بإرخائها والسماح بحرية أكبر لعمل قوانين السوق التلقائية.
وفى هذا السياق فإن تحديد الأهداف الكبرى للسياسة الاقتصادية يكون أول مسؤوليات عملية صنع السياسة. ولا يتم تحديد هذه الأهداف فى فراغ مطلق، وإنما يخضع ذلك لعدد من الشروط الحاكمة الداخلية والخارجية، والمدى الزمنى لها، وما إذا كانت تتعلق بالمحافظة على توازن الاقتصاد فى مرحلة استقرار أم إعادة توجيهه فى مرحلة من مراحل التحول والانتقال. ونظرا للظروف التى يعيشها العالم حاليا، فإن لدينا، على مستوى العالم كله، أربعة أهداف كبرى، لا يمكن للسياسات الاقتصادية المحلية أن تتجاهلها، وهى إذا فعلت تكون قد تخلفت عن قطار التحول العالمى الذى يجرى بسرعة، وليس لديه الوقت لانتظار الكسالى أو المخطئين. هذه الأهداف هى أولا، الانتقال إلى الطاقة الخضراء من الوقود الملوث للبيئة. ثانيا، بناء القدرة على تحمل الصدمات الاقتصادية والبيئية والجيوسياسية الطارئة. ثالثا، بناء القدرات التنافسية طويلة الأجل الكافية للإندماج فى سلاسل الإنتاج والإمدادات العالمية. رابعا، إقامة مجتمع تكافؤ الفرص والشفافية والمؤسسات وسيادة القانون.
فى عملية صنع السياسة فى عالم مضطرب، يضطرب أيضا مسار الجدل حول عملية صنع السياسة الاقتصادية، خصوصا مع غياب الحقائق وغياب أو ضعف معايير الشفافية والحوكمة، وتضطرب القيم، وتتقاطع المسارات وتفترق، وتختلط المصالح، وترتفع أسوار النزعات الحمائية، وتسقط جسور العولمة الليبرالية، وتعود الدولة إلى ممارسة دور كانت قد تخلت عنه من قبل، بامتلاك مقومات صنع الثروة، وتلجأ لاستخدام قوانين وإجراءات حمائية، بغرض الاستئثار بثمار السوق المحلية المغلقة، على ضآلتها، ثم وقوع الدولة نفسها فريسة لنفوذ وسلطة جماعات مصالح خاصة، حتى فى دول ليبرالية. وقد أصبح الجدل حول السياسة الاقتصادية فى كثير من بلدان العالم ضحية ما يمكن أن نطلق عليه "جعجعة التعبئة السياسية"، من خلال خطاب سياسى وإعلامى يتسم بالجهل والسطحية والغباء. ونظرا لخطورة هذا الخطاب على المستقبل، فإنه من الضرورى العمل على تصويبه، وعدم تركه يسرح ويمرح، مثل عربة طائشة محترقة، يتطاير شرر حريقها ليأكل الأخضر واليابس حولها.
سياسة اقتصادية أساسها المعرفة
وحتى نضع الجدل بشأن السياسة الاقتصادية على المسار البناء، لمصلحة المستقبل والأجيال القادمة، فإننا يجب أن نسترشد بقائمة من المعايير المتوافقة مع محركات التغيير، التى تقود إلى مجتمع تشيع فيه قيم الحرية والعدالة وتكافؤ الفرص والسعادة للأفراد والجماعات. وحتى لا تكون هناك شائبة انحراف عن الطريق القويم، مدفوعة بمحركات أيديولوجية، أو طبقية، أو دينية، أو مذهبية، أو إثنية، أو مناطقية، فإن العلم وليس غيره، هو الحصن الحصين من خطر الوقوع فى شبهة الإنحراف. كما أن الرقابة والمحاسبة، وشفافية الحوكمة، هى الأدوات الكفيلة بالتعامل مع وقوع الانحراف فعلا وتداعياته. وقد طورت الأمم المتحدة مفهوما عبقريا لعملية صنع السياسة الاقتصادية، بوجوب أن تقوم على العلم والمعرفة والتفاعل مع المجتمع، من خلال صيغة (science - policy - society) باعتبارها منهاجا مدمجا، يربط بطرق شبكية لا خطية، بين العلم والسياسة والمجتمع.
عصر الاضطراب العالمى الذى نعيشه، يتصارع فيه القديم مع الجديد، والخبيث مع الطيب. ورغم ذلك فإن هناك إنجازات معرفية هائلة من شأنها أن تيسر انتقال العالم من عصر الاضطراب إلى عصر الاستقرار والسلام والسعادة للعالم كله، عصر يتعاون فيه الإنسان مع الطبيعة، ويكف عن اعتبار أن استنزافها والعدوان عليها هو طريق رقيه وثرائه، عصر يتعاون فيه الإنسان مع الإنسان، ويندثر فيه سعى جماعات المصالح الخاصة إلى مضاعفة ثرائها على حساب أزمات الآخرين، بل وأن تتعمد خلق الأزمات خلقا، لتتربح منها. لقد خلف الصراع بين الإنسان والطبيعة وراءه تداعيات مدمرة، ولا يجب السماح لهذا الصراع بأن يستمر إلى نقطة اللاعودة. وها نحن نرى تداعيات صراع الإنسان مع الطبيعة فى التقلبات المناخية القاسية، التى أصبحت تتواتر فى العقود والسنوات الأخيرة بمعدلات أسرع وأشد قوة، فى شكل موجات الحرائق والفيضانات والسيول، وارتفاع درجة حرارة الأرض وذوبان جبال الجليد، وارتفاع سطح البحار والمحيطات، إلى مستويات غير مسبوقة، بما يمثل تهديدا حقيقيا وليس افتراضيا، لشكل الحياة على كوكب الأرض. كما إننا فى مجالات صراع الإنسان مع الإنسان، نشهد نموا شرسا للنزعة إلى عسكرة العلاقات الدولية، حتى تجاوز الإنفاق العسكرى حاجز ٢ تريليون دولار للمرة الأولى، نصفه من نصيب الولايات المتحدة وحدها. وعلى التوازى نشهد زيادة هائلة فى ديون الدول النامية، حتى أصبحت خدمة الديون تبتلع ما يصل إلى ٢٠٪ من إنتاجها المحلى سنويا، تذهب إلى دائنيها على حساب مواطنيها. واتسع نطاق التفاوت الاجتماعى والاقتصادي، إلى مستويات تهدد السلام الاجتماعى والأمن الداخلى فى البلدان النامية، وتنتج موجات من الهجرات اليائسة إلى بلدان قد تتوفر فيها فرص العمل والحياة الكريمة. هذه التداعيات السلبية والقاسية تخبرنا أن صراع الإنسان مع الطبيعة، وصراع الإنسان مع الإنسان، قد أصبحا أخطر المحركات السلبية، التى تهدد تقدم العالم إلى مستقبل أفضل، وأن شعوب العالم يجب أن تعمل معا، من أجل وقف عمل هذه المحركات، وافساح المجال لعمل محركات جديدة إيجابية إلى مستقبل أفضل.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: أهداف التنمية المستدامة التنمية الاقتصادية السیاسة الاقتصادیة التنمیة المستدامة الحکومة العامة الأمم المتحدة الإنسان مع فى هذا
إقرأ أيضاً:
السياسة الأمريكية تجاه السودان: من صراعات الماضي إلى حسابات الجمهوريين الباردة
شهدت العلاقة بين الولايات المتحدة والسودان محطات متباينة عبر التاريخ، حيث تأرجحت بين الانخراط الدبلوماسي والعقوبات الاقتصادية، وكان السودان دائمًا في موقع حساس داخل الاستراتيجية الأمريكية تجاه إفريقيا والشرق الأوسط. منذ استقلال السودان، تعاملت واشنطن معه وفق اعتبارات الحرب الباردة، فكانت تدعمه حين يكون في المعسكر الغربي، وتضغط عليه حين يميل نحو المعسكر الشرقي أو يتبنى سياسات معادية لمصالحها. خلال السبعينيات، دعمت إدارة نيكسون والرؤساء الجمهوريون الذين جاؤوا بعده نظام جعفر نميري، خاصة بعد أن طرد الأخير الخبراء السوفييت وتحول إلى التحالف مع الغرب، لكن هذا الدعم لم يكن بلا مقابل، فقد جاء مشروطًا بفتح السودان أمام المصالح الأمريكية، سواء في ملفات الاقتصاد أو الأمن الإقليمي.
مع وصول الإسلاميين إلى السلطة عام 1989 بقيادة عمر البشير، دخل السودان في مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة، خاصة بعد استضافته لأسامة بن لادن وجماعات إسلامية أخرى، وهو ما أدى إلى تصنيفه دولة راعية للإرهاب في 1993. العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن عزلت السودان دوليًا، لكنها في ذات الوقت لم تمنع النظام من بناء تحالفات بديلة مع الصين وروسيا وإيران، ما جعل السودان يتحول إلى ساحة مواجهة غير مباشرة بين القوى الكبرى. ومع اشتداد الحرب في جنوب السودان، لعبت الولايات المتحدة دورًا غير مباشر في دعم المتمردين، وهو ما قاد إلى اتفاق السلام في 2005 الذي مهّد لانفصال الجنوب عام 2011. غير أن واشنطن، ورغم دورها الحاسم في تقسيم السودان، لم تفِ بوعودها تجاه الخرطوم، إذ استمر الحصار الاقتصادي لسنوات طويلة بعد الانفصال، ما زاد من تعقيد المشهد الداخلي وأدى إلى أزمات اقتصادية وسياسية عميقة.
خلال فترة حكم دونالد ترامب، تغيرت الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان من المواجهة المباشرة إلى نهج "المقايضة"، حيث تم ربط أي انفتاح أمريكي بمدى استعداد السودان لتقديم تنازلات سياسية وأمنية، وكان أبرز الأمثلة على ذلك اشتراط واشنطن تطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في 2020. هذا النهج عكس طبيعة السياسة الخارجية لإدارة ترامب التي قامت على البراغماتية المطلقة، بعيدًا عن أي التزامات أخلاقية أو ديمقراطية. هذه الواقعية الصارمة قد تعود مجددًا في حال وصول الجمهوريين إلى السلطة مرة أخرى، مما يعني أن تعامل الولايات المتحدة مع السودان سيكون محكومًا باعتبارات المصالح الجيوسياسية وليس بدعم التحول الديمقراطي.
من المرجح أن تعتمد الإدارة الجمهورية القادمة، سواء بقيادة ترامب أو أي بديل آخر، على سياسة المقايضة بدلًا من الدبلوماسية التقليدية. السودان قد يجد نفسه أمام معادلة واضحة: ماذا يمكنه أن يقدم مقابل الدعم الأمريكي؟ في ظل هذه البراغماتية، فإن القوى المدنية التي لا تمتلك أدوات ضغط حقيقية قد يتم تجاهلها، فيما يتم التركيز على الفاعلين العسكريين باعتبارهم الأقدر على فرض الاستقرار، حتى لو كان ذلك على حساب التحول الديمقراطي. كذلك فإن الإدارة الجمهورية قد تستخدم العقوبات بشكل انتقائي، فتضغط على قوات الدعم السريع باعتبارها مرتبطة بروسيا وفاغنر، بينما تغض الطرف عن الانتهاكات التي يرتكبها الجيش السوداني إذا كان ذلك يخدم المصالح الأمريكية في الإقليم.
التحالفات الإقليمية ستكون أيضًا محورًا أساسيًا في الاستراتيجية الأمريكية تجاه السودان، إذ من المتوقع أن تتعامل واشنطن مع الملف السوداني عبر قنوات غير مباشرة، مثل مصر والإمارات، بدلًا من التدخل المباشر. هذه المقاربة قد تؤدي إلى صفقات سرية تعيد ترتيب الأوضاع بما يخدم القوى العسكرية المدعومة من هذه الدول، وهو ما سيجعل أي حل سياسي محتمل بعيدًا عن التوافق الوطني الحقيقي. في سياق أوسع، فإن السودان قد يتحول إلى ورقة ضغط في الصراع بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث قد تسعى واشنطن إلى منع موسكو من توسيع نفوذها في البحر الأحمر عبر قاعدة بورتسودان، كما قد تستخدم الأزمة السودانية للضغط على الصين التي تمتلك استثمارات ضخمة في البلاد.
المسألة الأكثر حساسية في العلاقة بين السودان والإدارة الجمهورية القادمة ستكون ملف إسرائيل، إذ أن واشنطن قد تربط أي دعم سياسي أو اقتصادي بمزيد من التنازلات السودانية تجاه تل أبيب، سواء من حيث التعاون الأمني أو الاقتصادي. ترامب، في ولايته الأولى، استخدم سياسة فرض التطبيع كشرط مسبق للدعم، ومن المرجح أن يعود إلى نفس الأسلوب إذا فاز بولاية ثانية. هذه السياسة قد تضع السودان في مأزق داخلي، حيث أن التطبيع ما زال ملفًا خلافيًا في الساحة السودانية، ما يعني أن أي ضغط أمريكي في هذا الاتجاه قد يفاقم التوترات الداخلية.
في النهاية، فإن مستقبل العلاقة بين السودان والولايات المتحدة في ظل الجمهوريين سيتحدد وفق معادلة المصالح البحتة، بعيدًا عن أي التزام بدعم الديمقراطية أو الاستقرار طويل الأمد. واشنطن قد تدعم حلًا عسكريًا سريعًا للأزمة السودانية إذا كان ذلك يخدم مصالحها الإقليمية، لكنها لن تلتزم بمساعدة السودان على بناء نظام سياسي مستدام. كما أن السودان قد يجد نفسه في قلب صراع بين القوى الكبرى، حيث تسعى واشنطن إلى احتوائه ضمن استراتيجيتها لمواجهة النفوذ الروسي والصيني، مما قد يعقد الأزمة أكثر بدلًا من حلها. في ظل هذه التعقيدات، فإن السودان سيكون أمام خيارات صعبة، إما الخضوع للضغوط الخارجية وقبول حلول مفروضة، أو مواجهة سيناريو صراع طويل الأمد يعمّق أزماته السياسية والاقتصادية.
zuhair.osman@aol.com