سليمان المجيني
tafaseel@gmail.com
هكذا كان يُطلق عليها، أما شوّاخ (بتشديد الواو) فهي شيخة بنت علي الصالحية، وهي جدتي من والدي. والجدّة شوّاخ عمياء لكنها تجيد صنع كل ما يلزم المنزل خصوصًا القهوة، تصنع القهوة بكل حب وبراعة ثم تُفرِغُها في الدلّة، وتُقدمها لأهل القرية.
الإقبال المُتزايد على شرب القهوة في المقاهي المختصة حديثًا جعلني أستذكر واقعة القهوة لدى هذه الجدة الطيبة؛ فتوافد أعداد كبيرة لهذه المقاهي أصبح مُلاحظًا، وهو نبض المراكز التجارية والأسواق عمومًا، ومزاجها أصبح عاليًا بين مجموعة من مرتادي هذا النوع من المقاهي، ورائحتها، وطريقة التقديم، والديكور، وحتى صوت الآلة التي تصنع القهوة؛ كلها عوامل ارتياح ومسرّة ونشوة وبشاشة.
عرفت قهوة شوّاخ في كافة أنحاء المكان؛ بل أصبح لها مرتادوها من زوايا القرية بسبب قوامها المتزن وطعمها الذي لا يختلف فيه اثنان، وكذلك بسبب دلّة القهوة نفسها المصنوعة من الفخار، وهي مادة طينية تخضع لعمليات صنع يدوية، وبعض المُعالجات التي تجعلها صلبة ومتماسكة، تعارف الناس على وقت العصر لشرب قهوة شوّاخ كاستراحة بعد عمل اليوم، يفرش البساط/ الحصير خارج المنزل ويتوافد الجيران وبعض المارة المتقصدين لارتشاف قطرات منها.
انتشار المقاهي المختصة في المجتمع أصبح أمرًا متعاظمًا وكثير البروز حتى في القرى البعيدة، وتفنن بعضهم في تحويل البيوت الطينية المهجورة إلى مقاهٍ في غاية الروعة، هذه المقاهي أصبحت أيقونة وشكل ثقافي متفرد ينقصها تقديم القهوة في أوانٍ فخارية تحاكي المبنى، ويستشعر مستخدم هذا المكان بعبق الماضي الجميل بقهوة حديثة مثل: الكابتشينو والأمريكانو واللاتيه والاسبريسو، وڨي سكستي، وكمكس، وسايفون وفلات وايت، وغيرها الفرنسية والصينية والأمريكية والإيطالية والبريطانية والتركية...إلخ.
ليس غريبًا امتهان بعض أبناء المجتمع هذا النوع من العمل، فهو أمان مالي وممارسة راقية وقضاء وقت ممتع في مكان أثيري تستشعره النفس وتهواه، وتعشقه الأيادي الماهرة للذوق والنمنمة، خصوصا إذا وجد الاهتمام الكافي والاعتناء المليء بالمحبة.
لا نحتاج هنا إلى مكان أو طريقة اكتشافها وإلى أعداد معتنقيها وأعداد المستهلكين، وإلى مقدار الكافيين وأهميته للنشاط والتركيز، ولا عن معرفة أثرها في تغير نمط بعض المجتمعات الغربية بعد انتشارها واضمحلال الحانات، ولا عن استخدامها الطبي وعن استهجان رجال الدين لها في بادئ الأمر، ولا نحتاج إلى التذكير بخطر ارتفاع ضغط الدم وسرعة نبضات القلب والتوتر والصداع والأرق جراء استهلاكها الكبير؛ بل نحتاج إلى حشد مفعولها الذي يعدل المزاج حبًا وتفانيًا، يوثق الاهتمام بالآخرين ويوطّد الحالة النفسية ويساند أصحاب العقول الراقية.
كل شيء يحتاج إلى تطوير وتحسين وابتكار من نوع آخر، إضافة إلى احتفاظها بالنكهة القديمة التي نعرفها، القهوة العربية الخليجية، والقهوة المصرية، والقهوة اللبنانية والسورية، والقهوة المغربية، وغيرها من الأنواع التي تحتاج إلى تجديد وابتكار، هذا التجديد والابتكار ربما يجد طريقةً له بتسجيل علامات تجارية تضاهي "ستاربكس" وغيرها تصدر إلى الخارج؛ فحب التغيير قد يصيب الغرب أيضا كما أصابنا، وتجد قهوتنا لها طريقًا إلى مزاجهم وقلوبهم، والقهوة عمومًا كانت وما زالت لاعبًا أساسيًا في السياسة والاقتصاد في دول عدة منذ زمن طويل وهي من البواعث الاقتصادية الأساسية حتى الآن على مستوى العالم في البرازيل وإندونيسيا وإثيوبيا وغيرها.
التساؤلات التي أود إثارتها في هذا الصدد، هل يرث الأبناء المزاجات كما يتوارثون الأمراض عن آبائهم وأجدادهم؟ هل يدخل المزاج في جينات البشر فيتحول إلى موروث جيني لدى الأبناء؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه أسلوبًا عصريًا، وذوقًا عامًا له زمنه وينتهي؟
تساؤلات قد تكون لها إجابة، وقد لا تكون لكنها، مع ذلك، لا بد أن تبقى موجودة في فضائنا، طرحت هذه التساؤلات عند شعوري بتمثلاتها مع أحد أبنائي حيث لا تحلو له القهوة إلا بتحضيرها يدوياً من خلال آلته التي اشتراها خصيصا لذلك.
قهوة شوّاخ كـ"اسم" يصلح لعلامة تجارية؛ فقد دخلت في مزاج الشاب وكبير السن وكان لها شهرة وتوافد جيد خصوصًا من أصحاب الذاكرة والتاريخ الحي في قريتنا، وحسب روايتهم فإن قهوة شوّاخ لا يضاف لها شيئًا يذكر كالهيل والزعفران وغيره، تبدو رائعة بدون تلك الإضافات (ربما بسبب الحالة الاقتصاية)، هي ثقافة شكلت مجتمعًا جديدًا تعزز حضورها فيه، أصبح المكان مجلسا عاما يتبادل فيه أهل القرية أخبارهم ويبثون فيه رجاءاتهم وأمنياتهم القريبة والبعيدة، الجدة لم تستغل ذلك ماديًا كـ"روزيه" البريطاني الذي لم يعجبه استضافة الناس بمنزله وقام بتقديم القهوة في ممر ضيق بجانب كنيسة "سانت مايكل" منذ زمن بعيد جدًا؛ حيث جنى منها أرباحًا كبيرة في ذلك الوقت، أفكار الجدة لم تخرج عن كونها عادةً وطبعًا عُمانيًا كريمًا.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ندى عصام تكتب: جيل ما بعد الإنترنت.. حين أصبح العالم شاشة والهوية معرفة بكلمة مرور
شهد العالم تحوّلًا غير مسبوق بفعل الثورة الرقمية التي اجتاحت كل نواحي الحياة، لكن التحوّل الأكبر لم يكن في الأدوات أو التكنولوجيا بقدر ما كان في الإنسان نفسه، وتحديدًا في الجيل الذي نشأ بعد الإنترنت ما يُطلق عليه "جيل ما بعد الإنترنت". نحن لا نتحدث عن مجرد مجموعة من الشباب يستخدمون الهواتف الذكية ويتواصلون عبر وسائل التواصل الاجتماعي، بل عن جيل تشكل وعيه وتصوراته للعالم من خلال الشاشة، جيل لا يعرف الحياة دون إنترنت، ولا يفهم العالم إلا من خلال نافذة رقمية، وهذا الجيل الذي ولد في زمن متصل دائمًا، بات يشكل تحديًا للنظريات التقليدية حول الهوية، والتواصل، والتعليم، والعمل، والعلاقات الإنسانية، ففي السابق كانت الهوية تُبنى عبر الخبرات المباشرة، العلاقات الواقعية، والانخراط في المجتمع المحيط، أما اليوم، فإن جزءًا كبيرًا من الهوية يتم تشكيله وتعديله باستمرار عبر منصات الافتراضية التي أصبحت بديلة عن الواقع أو حتى مهيمنة عليه.
الهوية لدى جيل ما بعد الإنترنت ليست مستقرة، بل مرنة وسائلة؛ إذ يمكن للفرد أن يكون شخصًا مختلفًا تمامًا على الإنترنت عما هو عليه في الحياة الواقعية، وقد يجد ذاته الحقيقية في شخصيته الرقمية أكثر من شخصيته الفعلية، ما يطرح تساؤلات فلسفية عميقة حول "من نكون" في عصر الواقع المعزز. كذلك، فإن المفاهيم التقليدية للعمل والدراسة والتعلُّم لم تعد تنطبق على هذا الجيل؛ فبدلًا من الذهاب إلى مكتب أو فصل دراسي، يستطيع شاب في السابعة عشرة من عمره أن يدير شركة إلكترونية من غرفته، أو أن يحصل على آلاف الدولارات من نشر محتوى بسيط على الإنترنت، أو أن يتعلم تخصصًا أكاديميًا بالكامل عبر كورسات مجانية من جامعات عالمية دون أن يخطو قدمًا إلى حرم جامعي.
وهنا نرى كيف تغيّرت قيم كثيرة مثل الخصوصية، التي أصبحت مرنة إلى درجة أن بعض الأفراد يعرضون تفاصيل حياتهم اليومية على العلن، أو مفهوم "الخصوصية الانتقائية"، حيث يقرر الشخص ما يُظهره وما يُخفيه عن جمهوره الافتراضي.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال التحديات النفسية والاجتماعية التي يواجهها هذا الجيل؛ فبين الإدمان على التصفح، وضغط التوقعات المجتمعية الرقمية، والتعرض المستمر للمقارنات غير الواقعية، يعاني كثير من الشباب من القلق والاكتئاب واضطرابات الهوية.
ومع كل هذه المتغيرات، يظل السؤال الأهم: هل فقد جيل ما بعد الإنترنت بوصلته الإنسانية؟ أم أنه ببساطة يُعيد اكتشافها بلغته وأدواته الخاصة؟ في الواقع، فمن الظلم محاكمة هذا الجيل بمعايير سابقة، أو تحميله مسؤولية التغيرات الكبرى التي تشهدها البشرية، لأنه في النهاية، هو نتاج منظومة كاملة فرضت عليه هذه البيئة الرقمية منذ ولادته.
لذلك فإن مسؤوليتنا كمجتمع ومؤسسات وثقافة ألا نترك هذا الجيل يواجه وحده هذا التحول الجذري، بل أن نؤهله، وندعمه، وننصت إليه، ونُعيد بناء جسور التفاهم معه بدلًا من الاكتفاء بانتقاده، لأنه في نهاية المطاف، هو نحن ولكن بشكل جديد.