حقيبة الفن وتخيل الأمة: مقدمتي لكتاب “هوية السودان من خلال نصوص الحقيبة” لعفاف عبد الحفيظ (2/2)
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
الأصل لهذا الكتاب رسالة للدكتوراة من جامعة الخرطوم في 2015 عنوانها "حقيبة الفن والحركة الوطنية". وكان لي شرف الإشراف عليها حتى دافعت عنها عفاف عبد الحفيظ بنجاح في 2015.
مبحث الكتاب عن كيف تخيلت أغنية الحقيبة في عشرينات القرن الماضي وثلاثينياته لشعراء وغاوين ومغنيين الوطن المأمول بعد جلاء الاستعمار في مصطلح عربي إسلامي خالص.
واستعرضنا في الحلقة الماضية من المقدمة فصلي الكتاب الأول والثاني. ونختمه فصولاً في الحلقة الثانية والأخيرة:
أما فصل الكتب الثالث فهو متعة فكرية خالصة. درست فيه نشأة الحقيبة من شتات أدبها المتداول المكتوب منه والشفوي فأعطته عظم ظهر أكاديمي سيبني عليه من يجيء بعدها لتصير دراسة هذا الفن العريق ذلولاً للناظرين بعد السامعين. وأميز ما جاءت به في دراسة الحقيبة هو إعادة تعريفنا بأم درمان كحاضنة حضرية تغلغلت المهدية، التي سيعاد إنتاجها في أغنية الحقيبة، في مسامها. كما أزهرت فيها بواكير الحركة الوطنية. فردت المؤلفة الحقيبة إلى تقاليد الدوبيت ونماته، والمديح وآلاته، والسيرة والدلوكة. ثم كمشت زاوية النظر لتحلل لنا "بيت اللعب" الذي هو النبع الدقيق لأغنية الحقيبة. ونظرت في الهوية العربية الإسلامية التي ستسفر عنها أغنية الحقيبة صوراً ولغة وبلاغة وردتها إلى تعليم "مجتمع الحقيبة" من مغنيين وشعراء وغاوين في الخلوة وحلقات العلم لنقف على قوة عارضتهم الإبداعية. وقدمت ود الفكي، مخترع أغنية الحقيبة، بصورة سيحتل بها مقاماً عليا في سير السودانيين المحسنين.
ونجح الفصل الرابع فيما اتفق له نجاحاً مشرفاً. فقد اتجه لبيان كيف كانت الحقيبة مسرحاً تجلت من فوقه أمة السودانيين المستقبلية. فكشف كيف أخذت الحقيبة السودانيين (أو من بلغتهم منا) بالخيال هرولة لتلك الأمة. فبدأ الفصل بعرض تعليم مجتمعها من الشعراء والمغنيين في الخلاوي وحلقات درس العلماء ليرينا كيف استثمروا مفردات تعليمهم العربي الإسلامي استثماراً طروباً كوحدات لبناء الوطن القادم. ونهلوا من أفانين صناعة الشعر العربي كلها نحو تلك الغاية. فطوعوا في إبداعهم عروض الخليل وفنون البلاغة العربية من جناس وطباق ومجاز وتشبيه ولزوم ما لا يلزم وبلغوا بها ذرى في المتعة الروحية. وعاجوا على قصص العرب مثل قيس وليلي و"قصر الرشيد الشائد" و"بدائع طرفة ومغاني زهير". كما استحضروا بلاغة القرآن بمهارة لاستنفار نازعات الروح والفؤاد. فضمنوا شعرهم آياته الكريمة، ومصطلحه، وعقائده مثل الإيمان بالقدر خيره وشره، وتعاليمه الاجتماعية مثل فضل السلام وحسن الجيرة. كما استعانوا بقصص القرآن.
فتشت المؤلفة هذا الجنس الغنائي الشعري ووجدته صناعة عربية إسلامية كبيرة. وربما أجاب هذا الفصل، متى بدأ منه باحث آخر، على سر تعلقنا بالحقيبة هذا العلوق حتى كادت تَجُب ما بعدها من غناء. فطرب جماعة منا بها طرب بأنفسهم فوق منصة التأسيس.
وأظهرت المؤلفة في فصلها الخامس حرفية بحثية في الحفر في إجراءات الحقيبة الإبداعية لتخيل الوطن. فوجدتها أعطتنا، على بينة الإبداع والغناء الجميل، سبباً قوياً لحب الوطن كما يقول الباحثون في الخيال والسياسة.
الحبو علاني وسماهو ظلاني
الطلو بلاني والاسمو سلاني
الذكرو في لساني
والحبو في دمي بريدو
فوجدنا الحقيبة عرّفت "السوداني" بمصطلح قومي جديد، وطبعت في الفؤاد منا سوح الوطن وأفناءه حتى صار شوفنا ل"الشدر الكبار . . طشاش". ووثقت دراما العواصم، أم درمان والخرطوم، واستردت أم درمان نفسها عاصمة لوطن متخيل نلوذ به مثل الرحم حتى يوم قريب:
حيث سابق
كنا فوق أعراف السوابق
الضريح الفاح طيبو عابق
السلام يا المهدي الإمام
وتوسعت الحقيبة كجنس غنائي غزلي في عوالم شقائق الرحمن، المرأة. فبوبت معايير جمالها شغفاً بها على المثالات العربية. فراوحت بين حشمتها كذخيرة وطنية وبين طلاقتها لتلحق بعصرها. ثم ألحت الحقيبة على العلاقة بمصر ورابط النيل بقرينة أن الحركة الوطنية في شقها المثابر كانت مصرية الهوى نعت حتى "الطير الرحل" وهو الجيش المصري المحتل في 1924. ولم تطرب الحقيبة للوطن خيالاً بل كانت في معمعة ميلاده في ثورة 1924 وفي خضم المشروعات الأهلية للوطنيين.
قلّ أن دُرست الحركة الوطنية في أحسن الكتابات بهذا النفاذ إلى وجدان مدينة، وإبداع، ووطن. وتمكنت المؤلفة من هذا التاريخ المختلف لخلفيتها في علمه وتدريبها فيه. فأسرت المؤلفة عن مثابرة في طلب المعرفة بعوالم الحقيبة بصبر على وكد الدرس فلا تململ. وأرى فيها عن كثب مولد أكاديمي سوداني على موعد مع الإحسان.
سيغير الكتاب غير المسبوق قواعد مناقشة الهوية للسودانيين التي طالت وأسقمت. فقد صار فينا تبخيس عروبة من قال بعروبته منا ونسبناه إلى الانتحال، أو الاستهبال. والسبب في ذلك أن كثيراً منا نظروا إلى هيئة هؤلاء الزاعمين العروبة نظراً خلا من اعتبار الثقافة، موئل الهوية، كما فعل هذا الكتاب الذي بدا لي منه أن وزر هذه القومية الشمالية (وهي قوميات كثيرة غلبت فيه نسخة الخريجين) ربما لم يكن في جوهر خيالها الباكر الذي لم تملك له دفعا بل في تغاضيها اللاحق عن أصوات قوميات أخرى سودانية توافدت للساحة السياسة كل في توقيتها الخاص. فجريرة هذه القومية أنها استمرأت خيالها بأن السودان "أمة أصلها في العرب" وصار ذلك عندها عقيدة مكلفة. فقد تخيلت الوطن عربياً محضاً ومسلماً لا غير وغيرها في غفلة. وهذا نقص في الفراسة. أما بؤس الكياسة والسياسة فهو في تغافلها عن أصوات الجماعات القومية غير العربية أو غير الإسلامية التي توافدت إلى الساحة السياسية فيما بعد بإرث مختلف وخيال آخر.
أسعدني أن المؤلفة عربت الرسالة الجامعية وحررتها لهذا الكتاب فوفرت بحثها المبتكر بين يدي الجمهرة القارئة. فالمسائل التي أثارها الكتاب، والمناهج التي نهجها، ستتنزل برداً وسلاماً على خطاب الهوية بالغ التسيس عندنا لا يلطفه شعواءه نظر علمي محيط يحتكم إليه أهل النقاش أو الحجاج.
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
“الأغذية العالمي”: نحو 2 مليون شخص على شفا المجاعة خاصة في السودان وغزة
قال برنامج الأغذية العالمي في تقرير نشره، الجمعة، إنه سيحتاج إلى 16.9 مليار دولار لتمويل عملياته في عام 2025، من أجل تقديم المساعدة إلى 123 مليون شخص على مستوى العالم، محذراً من أنه سيكون عاماً مليئاً بالأزمات الشديدة، وقدّر البرنامج التابع للأمم المتحدة أن هناك ما يصل إلى 1.9 مليون شخص صاروا على شفا المجاعة في 2024، لا سيما في قطاع غزة والسودان، وفق البيان. كما وصلت مستويات الجوع في أجزاء من جنوب السودان وهايتي ومالي، إلى مستويات مثيرة للقلق.
وأضاف التقرير: "من دون الوسائل الضرورية لتلبية الاحتياجات، سيتفاقم مستوى انعدام الأمن الغذائي الحاد".
وأظهر التقرير أن 343 مليون شخص في 74 دولة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، بزيادة قدرها 10% عن العام الماضي، وأقل بقليل من الرقم القياسي الذي سُجّل أثناء جائحة فيروس كورونا.
وأشار التقرير إلى أن الأزمات العالمية الناجمة عن الصراعات المتصاعدة والمتداخلة والظواهر المناخية المتطرفة والصدمات الاقتصادية أدت إلى ارتفاع الجوع إلى مستويات قياسية، ما أدى إلى طلب متصاعد على المساعدات الإنسانية.
ومع ذلك، أجبر نقص التمويل في عام 2024 برنامج الأغذية العالمي على تقليص أنشطته.
وقالت المديرة التنفيذية لبرنامج الأغذية العالمي سيندي ماكين: "تتزايد الاحتياجات الإنسانية العالمية، بسبب الصراعات المدمرة، والكوارث المناخية المتكررة، والاضطرابات الاقتصادية الشاملة. ومع ذلك، فإن التمويل يفشل في مواكبة ذلك".
وأضافت: "نحن في برنامج الأغذية العالمي ملتزمون بتحقيق عالم خالٍ من الجوع. ولكن للوصول إلى هناك، نحتاج بشكل عاجل إلى الدعم المالي والدبلوماسي من المجتمع الدولي، لعكس المد المتصاعد للاحتياجات العالمية، ومساعدة المجتمعات الضعيفة على بناء القدرة على الصمود على المدى الطويل ضد انعدام الأمن الغذائي".
وذكر البيان أن مبلغ 16.9 مليار دولار الذي يحتاجه برنامج الأغذية العالمي لمساعدة 123 مليون شخص من الأكثر جوعاً في عام 2025، هو تقريباً ما ينفقه العالم على القهوة في أسبوعين فقط.
أزمات عربية
وأبرز تقرير المنظمة الأممية أزمات الأمن الغذائي في عدة دول عربية، فقد أدت الصراعات إلى انعدام الأمن الغذائي في غزة وسوريا واليمن، وتفاقم الوضع المتدهور في لبنان.
ولفت التقرير إلى أن الوضع في غزة "مروع"، حيث يعاني 91% من السكان من انعدام الأمن الغذائي الحاد، منهم 16% في ظروف كارثية.
كما يعاني 17.1 مليون شخص في اليمن و12.9 مليون شخص في سوريا من انعدام الأمن الغذائي بشكل حاد.
وفي جميع أنحاء المنطقة، يؤثر نقص التمويل بشدة على عمليات برنامج الأغذية العالمي، ويشعر الملايين بوطأة انخفاض المساعدات الغذائية، لذا يحتاج برنامج الأغذية العالمي إلى 4.9 مليار دولار لعملياته في الشرق الأوسط.
وأوضح البرنامج أن السودان تم تأكيد المجاعة فيه بمنطقة واحدة على الأقل في أغسطس الماضي، مشيراً إلى أن الصراع يدفع إلى نزوح جماعي مع انتشاره إلى البلدان المجاورة.
الاحتياجات التمويلية
وفصّل برنامج الأغذية العالمي احتياجاته في العام المقبل؛ ففي آسيا والمحيط الهادئ، حيث يكافح 88 مليون شخص تحت التأثيرات المدمرة للجوع الحاد، سيحتاج البرنامج إلى 2.5 مليار دولار للاستجابة للأزمات، وتعزيز المزيد من مبادرات الحماية الاجتماعية المستجيبة للصدمات والعمل الاستباقي.
ومع أكثر من 170 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، تُمثّل منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا 50% من احتياجات التمويل المتوقعة لبرنامج الأغذية العالمي في عام 2025.
كما يدفع الصراع الملايين إلى الجوع في الكونغو الديمقراطية، أما في منطقة الساحل الإفريقي، فقد فاقمت الأحداث المناخية المتطرفة، التي تفاقمت بسبب ظاهرة النينيو، تعميق انعدام الأمن الغذائي في جميع أنحاء منطقة جنوب إفريقيا.
ويحتاج برنامج الأغذية العالمي إلى 8.4 مليار دولار لدعم عملياته في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى.
ويعاني 40.8 مليون شخص في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي من انعدام الأمن الغذائي، حيث يتم إعطاء الأولوية لـ14.2 مليون شخص للحصول على مساعدات برنامج الأغذية العالمي.
وفي هذه المنطقة سيحتاج برنامج الأغذية العالمي إلى 1.1 مليار دولار لدعم الفئات السكانية الضعيفة، وتوسيع نطاق التدخلات لتعزيز أنظمة الغذاء والقدرة على الصمود في مواجهة تغير المناخ والحماية الاجتماعية.
دبي- الشرق