عمود : محور اللقيا
السريالية هي مذهب فني ثقافي ظهر في العقد الثاني من القرن الماضي في فرنسا ثم إنتشر منها، وتعني"فوق الواقعية" في اللغة الفرنسية، وبذلك صارت أسلوباً لكل معنىً فانتازي عجائبي يوحي به العقل الباطن من الخيال، ويحتار في تفسيره المتلقي! السريالية ظهرت أولاً في الفن التشكيلي ثم تمددت إلى الشعر ومن ثم إلى التعبير القصصي.

..
لقد إطلعت على كل الروايات والقصص القصيرة التي قام بتأليفها القاص عبد العزيز بركة ساكن، بدءاً بروايته (الجنقو مسامير الأرض) التي نالت جوائز عالمية والتي قمت بمقاربتها مع رواية غابرييل غارسيا ماركيز (مئة عام من العزلة) في مقالة بعنوان: (الملامح المشتركة ين روايتي "الجنقو مسامير الأرض" و "مئة عام من العزلة" ) وقمت بنشرها في عام 2016 في الصحف والمواقع الإلكترونية السودانية, وقد وجدت تلك المقالة رواجاً وقبولاً في عدة منتديات. قصص بركة ساكن مشحونة بالواقعية، وأعتبرها واقعية إشتراكية إلى حد بعيد، ولكنها ممزوجة بما فوق الواقعية من سريالية تتغلغل إلى العقل الباطن لتعبر عما يُرغب أن يكون لا عمّا هو كائن، حتى تختلط الأوراق أحياناً بين الوعي واللاوعي. لقد تراءى لي ذلك في الآتي:
إزدواج البعد المكاني خارج الزمان - لكل قاص بُعد مكاني يستسيغه ربما بحكم تعوده عليه، ولذلك تأتي رواياته محصورة في سردها داخل ذلك البعد المكاني ولا تغادره إلا إذا تطلب الأمر ذلك، ولنا في ذلك أمثلة عدة ... القاص الطيب صالح بُعده المكاني في بيئة شمال السودان حيث عاش طفولته وشبابه ويتجلّى ذلك في رواياته الخمس (موسم الهجرة إلى الشمال) و(عرس الزين) و(ضو البيت) و(مريود) و(منسي) وله قصص قصيرة ومقالات عدة، وللقاص إبراهيم إسحق بُعده المكاني في إقليم دارفور حيث عاش فيها ويتجلى ذلك في رواياته الست (حدث في القرية) و(أعمال الليل والبلدة) و(مهرجان المدرسة القديمة)و(أخبار البنت مياكايا) و(وبال في كليموندو) و(فضيحة آل نورين)، كما له مؤلفات في القصة القصيرة وفي الدراسات، وللقاص حمور زيادة بُعده المكاني في بيئة شمال السودان أيضا حيث نشأ فيها ويتجلى ذلك في رواياته الثلاث (الكونج) و(شوق الدرويش) و(الغرق) وله قصص قصيرة عدة.
للقاص عبد العزيز بركة ساكن بُعده المكاني وهو منطقة جنوب شرق السودان في أعالي نهر العطبراوي وتضم مدن خشم القربة و ود الحليو و القضارف و القلابات وإلى جنوب النيل الأزرق، و تنحصر معظم قصصه فيها اللهم إلا بعض الروايات ذهبت به لدارفور و للجنوب وللشمال وللعاصمة الخرطوم التي إختار فيها غابة الخرطوم مسرحا لسرده وبعد ذلك إنتقل لمصر و لأوروبا، و يتجلى ذلك في رواياته الثمان (الجنقو مسامير الأرض) و(زوج إمراة الرصاص وإبنته الجميلة) و(الرجل الخراب) و(الطواحين) و(العاشق البدوي) و(مخيلة الخندريس) و(مسيح دارفور) و(مانفستو الديك النوبي)، وفي مجموعاته للقصص القصيرة (إمرأة من كمبو كديس) و(علي هامش الأرصفة) و(ما يتبقى كل ليلة من الليل) و (موسيقى العظم).
الملاحظ في روايات عبد العزيز بركة ساكن إكثاره من السرد المزدوج تقديما وتأخيرا في أماكن محددة وفي أزمان متباعدة، مثلا إيتائه عرضاً بذكر حدث ما ثم يعود بعد إستمراره في سرد روايته راجعا إلى ذلك الحدث ليتطرق إليه بالتفصيل. في ذلك يزيد بركة ساكن إمعاناً فيذكر في بداية روايته (مخيلة الخندريس): ( إن أحداث هذه الرواية جرت في دولة شديدة الشبه بجمهورية السودان، قد تتطابق أسماء المدن، القرى، الأشخاص، الوزارات والصحف. قد تتطابق الأحداث السياسية والأزمنة والأزمات أيضاً. لكن تظل أحداث الرواية تجري في دولة خيالية لا وجود لها في الواقع. هي شطحات الخيال المريض لكاتبها بركة ساكن، بالتالي الأفكار التي تطرحها هذه الرواية لا تعبّر بأي حال من الأحوال عن رأي المؤلف، بل تعبر عن أفكار القارئ وهو من يتحمل مسؤوليتها و الدفاع عنها)!
تضمين أحداث رواية واحدة في كتابين مختلفين – لقد حدث هذا في روايتي عبد العزيز بركة ساكن (الطواحين) و(العاشق البدوي)، فإن الأشخاص هم أنفسهم و بنفس أسمائهم والأماكن هي نفس الأماكن ولكنها مختلفة بإختلاف زمانها. رواية (الطواحين) بها 251 صفحة، بينما رواية (العاشق البدوي) بها 132 صفحة، و ربما كانت ضخامة عدد الصفحات مجتمعة هو السبب في وضعها في كتابين، لكن كان من الممكن جعلهما في كتابين بإسم واحد وبجزئين أولٍ وثانٍ.
إيحاء الشيطان لقصصه – لقد أهدى القاص عبد العزيز بركة ساكن روايته (الرجل الخراب) إلى الشيطان الذي كان يشاطرهم بيتهم في القضارف ، وكان يملي عليه معظم ما يكتب ويقول له ما لا يُقال! و أيضاً أتى بركة ساكن على ذكر شيطانه هذا و أفعاله في كتابه (ما يتبقى كل ليلة من الليل). لم أسمع قبلا عن شيطان القصص ولكنني سمعت عن شيطان الشعر، وكان للشعراء القدامى في الجزيرة العربية شياطين يوحون لهم أشعارهم وكانت لهم أسماء، فشيطان إمرؤ القيس هو لافظ بن لاحظ وشيطان الأعشى هو مسحل بن جندل وشيطان النابغة الذبياني هو هادر وهكذا.. ولكن لم يذكر لنا القاص عبد العزيز بركة ساكن إسم شيطان قصصه!
السرد على لسان أكثر من راوِ – في رواية (الجنقو مسامير الأرض) يلتبس أمر الراوي على القارئ هل هو المؤلف بركة ساكن نفسه أم هو صديقه الذي زامله في كل مراحل حياته، وفي روايتيْ (الطواحين) و(العاشق البدوي) يختلف الرواة بإختلاف فصول الروايتين. كذلك في رواية ( الرجل الخراب) يذكر المؤلف أثناء سرده : (أشعر الآن برغبة الراوي في التوقف عن السرد قليلا، وهذه مشكلة الرواية في هذا العصر بعدما إستطاع الرواة الذين كانوا في الماضي شخصيات ورقية هلامية من صنع مخيلة الكتّاب أن يسيطروا على مصائر الأعمال السردية، وتكون لهم كلمتهم و وجهة نظرهم، بل حكت لي كلتوم فضل الله - إحدى صديقاتي الكاتبات – أن راوياً خبيثا في روايتها الجديدة قد تحرّش بها )! يستمر المؤلف ويذكر: (لقد أصبح الرواة – خاصة الراوي العليم و الراوي من الخلف وضمير المتكلم – سلطة فوق سلطة الكاتب الذي كان يظن نفسه ، قديما جدا، الخالق الفعلي للنص و المتحكم المطلق في مصائر شخصياته وأدوات سرده التي في مقدمتها الراوي نفسه، مما أفقد الكتّاب كثيرا من حيلهم الموروثة، بل ماء وجههم في بعض الأحيان، ومقدرتهم على الخلق و الإبداع).
الزج بأسماء لكتاب وشعراء كمشاركين في القصص – أثناء الوصف لمناسبات الإحتفالات و اللقاءات التي يجتمع فيها المشاهير يورد القاص عبد العزيز بركة ساكن أسماء كتّاب وشعراء معروفين قد كانوا مشاركين فيها، وفي ذلك واقعية للحدث الذي هو في حقيقته فوق واقعي أو سريالي.
توارد أسماء عدة لأناس وأماكن يعرفهم المؤلف أثناء السرد – هؤلاء يذكرهم المؤلف عبد العزيز بركة ساكن كشريط للذكريات يستعيده لأنه في قرارة نفسه قد ربط بين تلك الأماكن وما بها من أُناس يعزهم ويحن إليهم.
التمادي في لامعقولية المعاني – للأشياء معانٍ عُرفت بها و لكن عند القاص عبد العزيز بركة ساكن مترادفات تغير من معاني الأشياء. مثال لذلك كتابه (ما يتبقى كل ليلة من الليل) لم أدر هل هو مجموعة قصص قصيرة، أم هو خواطر عصية الإدراك، أم هو قصائد نثر أم هو قصائد هايكو أو كما أسماه نثر بأدوات الشعر، أم هو يندرج تحت الإبداع الحر المتميز كما ذكر في ذات كتابه على لسان وزير الثقافة المصاب بالهذيان أو بمسٍ من الجنون.. أيضا مثال آخر ما ذكره في كتابه (موسيقى العظم) عن الفنان التشكيلي الذي صاغ في مرسمه لوحة بها مجموعة من الصقور وصار يعمل بها ليلا وفي الصباح عند فتح باب المرسم وجدوه جثة ممزقة و خرجت الصقور لتحلق في السماء.. في نفس الكتاب يروي بركة ساكن عن الصبي الذي ينمو له ذيل صغير عند ضربه على سرّته ثم يختفي الذيل عند ضربه ثانية.. أيضا كمثال آخر نقرأ ما ذكره بركة ساكن في نهاية روايته (العاشق البدوي) أنه قد ظهر ديوان شعر في المكتبات بعنوان "البلاد الكبيرة" ألفته آمنة الخير مكتوب باللغة النوبية ومترجم للعربية وللغة الفور والهوسا والدينكا، في مقدمته كتب ناقد عجوز ما يلي: (وهذا شعر ... لا تسألني عن الوزن، لا تسالني عن إنتقاء المفردة، لا تسألني عن الموسيقى الداخلية، لا تسألني عن اللغة، لا تسألني عن الأخيلة؛ لأن دا كله لا يوجد في هذا الديوان)!
المزج بين اللغة العربية الفصحى و العامية – من المعتاد أن يكون السرد باللغة العربية الفصحى، بينما تكون لغة التخاطب والحوار على ألسنة المتحدثين باللغة العامية. نجد هنا أن القاص عبد العزيز يركة ساكن قد أدخل كلمات عامية كثيرة أثناء السرد، ربما لقربها من المتلقي أو لصعوبة مترادفاتها الفصيحة، مثلا كلمات: المطاليق، الشلاليف، القدّوم، الفارة، البمبر، الكوشة، العتود، كركبة، خُرم، قدّة، تَرِك الطيور ...
وصف معاناة المعتقلات السياسيات في الزنازين – لقد أسهب القاص عبد العزيز بركة ساكن في وصف معاناة المعتقلات اللاتي جلهن من اليساريات في زنازين أجهزة الأمن، وهو وصف يثير الإدانة والشجب و التحرك لوقف الإعتداءات الجسدية خاصة الجنسية، وقد فاق وصف القاص عبده ساكن الحد حتى صار يتراءى كضرب من الخيال تعدى به المعقول إلى اللامعقول.
الوصف الحسي والجنس – في روايات القاص عبد العزيز بركة ساكن تجد الوصف الحسي متواجداً بكثرة و مزيّناً بالمحسنات البديعية من تشبيه وطباق وتورية تحلّق أحياناً بالخيال بعيداً في سوح الجمال، وغالبا ينقاد المؤلف بهذا الوصف الحسي إلى الجنس. في كل الأبعاد المكانية للقاص بركة ساكن نجد بطلاته يمارسن الجنس، وإن كان هذا الأمر مباحاً في بعض الأماكن بحكم العرف فقد جعله متاحاً في أماكن أخرى بحكم التحضّر رغماً عن القيود الدينية. الوصف الجنسي يتعدى أحياناً واقعيته و يدخل حيّز السريالية، كالذي أتى في سرد بركة ساكن عن إغتصابات المعتقلات السياسيات وتماديه في وصف سرده مما أدخله في صراع مع النقاد، ولكن له العذر لأن الجنس قد صار سمة الروايات العصرية.
أخيرا، قبل أن أبعث بهذه المقالة النقدية للنشر في الصحف والمواقع الإلكترونية، وأنا الآن في منتصف عام الحرب الدائرة بين الجنراليْن في السودان، حاولت أن أراسل الكاتب القاص عبد العزيز بركة ساكن على عنوان بريده الإلكتروني الذي كنت أراسله عليه قبل سنوات مضت، لكي يطلعني على رأيه في مقالتي هذه قبل نشرها، حتى أنال رضا أبطال رواياته و منهم قائد الجنجويد جوربيقا جلباق في روايته (مسيح دارفور) كيلا ينالني منه سؤ !!


badayomar@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

الصورة الشعريّة الحديثة

آخر تحديث: 27 يونيو 2024 - 10:45 صأحمد الشطري تعد الصورة الشعريّة واحدة من أهم البنيات التي يرتكز عليها البناء الفني للنص الشعري، ومن دون صورة شعرية ذات قيمة جمالية جاذبة لا يمكن أن يعد النص الشعري – أيّا كان شكله- نصا إبداعيا، فالعملية الإبداعية تحتاج إلى قدرة على الابتكار والخلق الذي يمنح النص قوة الجذب والادهاش والقيمة الفنية.ثمة اشكالية تكمن في طبيعة الصورة ومكوناتها وآليات خلقها والمساحة التي تشغلها، وقد نجازف إذا ما قلنا أن هذه الاشكالية لم يكن تحديدها، أو بيان مكوناتها يتسم بصعوبة كبيرة في النقد القديم، باعتبار أن المحدد الأساس لها في الغالب يكمن في الأساليب البلاغية المعروفة، كالتشبيه، والكناية، والاستعارة، والمجاز وغير ذلك من أساليب البلاغة.أما في النقد الحديث فقد باتت عملية تحديد الصورة الشعرية تختلف ليس من حيث الآليات، أو المكونات، بل من حيث المساحة التي تشغلها، والأسلوب الذي يتم فيه تشكليها، باعتبار أن الاساليب البلاغية القديمة لم تعد في الغالب هي التقنية المهيمنة على بنية النص الفنية والجمالية، بل إن ثمة تقنيات حديثة هي التي باتت  تضفي على النص بعدا جماليا ودلاليا، إذا ما تم استغلال ثرائها الإبداعي بالشكل المطلوب، وبواسطة هذه التقنيات أصبحت الصورة الشعرية ذات مواصفات وتشكلات مختلفة عن محدداتها السابقة، إذ لم يعد البيت في النص الشعري ذا وحدة مستقلة، بل هو جزء من البناء الكلي للنص، وقد يشكل جزءا من أحدى صور النص ومن ثم يسهم مع غيره في تشكيل الصورة الكلية للنص.في النص الحديث بغض النظر عن الشكل والمسمى ثمة أنواع متعددة للصورة الشعرية، فقد تتشكل الصورة الشعرية بواسطة ثيمة سردية، أو مقطوعة درامية، أو قناع رمزي، أو حوار ديالوجي أو مونولوجي، وليس معنى ذلك التخلي التام عن الأساليب البلاغية القديمة، كما أننا لا ننفي وجود مثل هذه التقنيات في مورثنا الشعري القديم، ولكن الاختلاف في العملية القصدية أولا، وفي عملية الكشف والنظرة الاعتبارية لذلك ثانيا. ومن ذلك على سبيل المثال قول طرفة بن العبد في معلقته: “ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشةِ الفتى/ وجدِّكَ لم أحفلْ متى قام عُوَّدي/ فمنهنَّ سَبقي العاذلاتِ بشَربةٍ/ كُمَيتٍ متى ما تُعلَ بالماءِ تُزبدِ/ وكَرّي إذا نادى المُضافُ مُحنَّبًا/ كسِيدِ الغَضا نبَهتَهُ المُتورِّدِ/ وتقصيرُ يوم الدَّجن، والدَّجن مُعجِبٌ/ ببَهكَنةٍ تحت الطِّرافِ المُعمَّدِ”. فالشاعر هنا قد شكل صورته الشعرية عبر أربعة أبيات، وهي صورة بانورامية تجتمع تحت مجموعة من الصور المستقلة، المتشكلة عبر الوسائط البلاغية المعروفة.أما الصورة السردية فيمكن ملاحظتها في الكثير من قصائد الشعراء الأوائل، ومنها على سبيل المثال: “ولما قضينا من منى كل حاجة.. ومسَّح بالأركان من هو  ماسحُ/ وشُدّت على حُدب المهاري رحالنا.. ولم ينظر الغادي الذي هو رائح/ أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا.. وسالت بأعناق المطي الأباطح”.ففي هذه الأبيات الثلاثة نجد أن ثمة ثيمة سردية تشكلت عبرها صورة شعرية مبهرة، رغم أن عجز البيت الثالث بحد ذاته يمثل صورة بالغة الجمال، وهو بهذا يمكن أن يشكل ذروة الحدث السردي.  اتساع المساحة التي تشغلها الصورة الشعرية وإن كان من أهم تقنيات النص الشعري الحديث إلا أن تمثلاته في موروثنا الشعري لا شك حاضرة وإن كانت بشكل أقل عناية وأهمية. إن اتساع مساحة الصورة الشعرية في النص رغم أهميتها وقيمتها الفنية والجمالية، إلا أنها ساهمت بشكل كبير في القطيعة بين “الذاكرة الاستعادية”، إن جازت التسمية، وبين النصوص الشعرية الحديثة، وهو ما يعتبره بعض المتشبثين بالقديم مأخذا على الشعر الحديث، إذ يعتبرون حفظ واستعادة الأبيات الشعرية دلالة على جودتها، ومن ثم فإن هذه الجودة هي ما تجعلها تعلق في الذاكرة، وهو أمر يرجع في حقيقته إلى الذائقة الشفاهية التي لا تزال تهيمن على وعي هؤلاء، رغم أن كثيرا من الأبيات التي يرددونها لم تكن تعلق بذاكرتهم لجمال صورتها، وإنما لما تتضمنه من حكمة أو مفارقة، وقد تكون في بعض الأحيان لا تعدو أن تكون تشكيلا وزنيا لمقولة بديهية. من مثل: “كأننا والماء من حولنا.. قوم جلوس حولهم ماء”. إن تشكلات الصورة الشعرية في النص الحديث قد تستغرق نصا كاملا، ومن ثم يصبح من الصعب أن يعلق في الذكرة بصورته الكلية، ولكن ملامح تلك الصورة وأثرها الإداهشي قد يبقى محفورا في الذاكرة.وبما أن النص الحديث هو نص رؤيوي، وليس نصا تطريبيا، فهو أبعد ما يكون عن الذائقة أو الذكرة الشفاهية على حد سواء، إنه نص يمتد من البصر إلى البصيرة، وليس من السمع إلى الإسماع، والصورة فيه هي صورة تأملية تسعى إلى الاهتزاز الذهني، ولكنها قد لا تخلو من الاهتزاز العاطفي، أو هو ليس مبتغاها الرئيس، بينما الصورة في النص الشفاهي غالبا ما تمنح الاهتزاز العاطفي قبل الاهتزاز الذهني، ولكننا لا ننفي عنها الأثر الذهني بكل تأكيد.ويمكن أن نمثل للصورة الشعرية الحديثة بهذا النص للشاعر عبد الزهرة زكي: “الورقة التي مازالت على الشجرةِ/ تقول لأخرى سقطت: يا لسعادتك! حرة تمضين مع الهواء/ الورقةُ الميتة على الأرض/ لا تقوى على القول لأخرى ما زالت خضراء على الشجرة: يا للحياة”.ففي هذا النص صورة متكاملة تنطوي على السردية والمفارقة والاقتصاد والفكرة الفلسفية العميقة. إن الصورة الحديثة، كما أشرنا، صورة ذات مساحة واسعة، وذات تقنيات لا تعتمد على المحسنات البديعية أو الأساليب البيانية بشكل أساس، بل تعتمد على تشكل فني ودلالي خارج اللغة وداخلها، تشكل يرتسم في البصر والذهن وليس في السمع والنطق. 

مقالات مشابهة

  • طه العامري: وداعا.. صوت الثورة والجمهورية والمحبة
  • تعرف على موعد طرح ألبوم محمد حماقي الجديد
  • الندرة والترجمة وموت المؤلف.. كتّاب ونقاد يحللون إشكالية النص المسرحي
  • حماقي في ليالي مصر| ألبوم جديد وحضور كامل العدد مع حالة من الانسجام الجماهيري..صور
  • عمل غنائي بعنوان «أولالا» يعكس معاناة اللآجئين السودانيين العالقين بأثيوبيا
  • تقرير أسود حول استغلال المقالع يكشف حجم الفوضى و نهب الثروات
  • بعد «كيرة والجن».. «عز» و«كريم» في عمل فني جديد
  • تعاون جديد يجمع كريم عبدالعزيز وأحمد عز.. إليكم التفاصيل
  • تعاون جديد يجمع كريم عبدالعزيز وأحمد عز في السينما (ما القصة)
  • الصورة الشعريّة الحديثة