النساء البدينات في مصر مرفوضات وظيفياً – تقرير مثير
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
جلب تحرك الحكومة المصرية لاستبعاد أصحاب الوزن الزائد من العمل في الوظائف الحكومية غضبا مجتمعيا وبرلمانيا بعد أن رُفض قبول توظيف فتيات خريجات وخريجين من الرجال يعانون من السمنة في وظائف مدنية بوزارتي التربية التعليم، والنقل، بذريعة أن شرط القوام والجسد المناسب ضمن إجراءات التعيين في العمل الحكومي.
وانتفض أعضاء في مجلس النواب (البرلمان) لمساندة المستبعدات والمستبعدين بسبب الوزن الزائد من التعيين بالحكومة إثر رفض عدد كبير من المتقدمين للعمل في مهنة التدريس عقب اختبارات رياضية وصحية خضعوا لها في الأكاديمية العسكرية التي باتت معنية بإجراء الفحوصات والاختبارات الخاصة بكثير من الموظفين الجدد.
وتقدم قرابة عشرة نواب بأسئلة برلمانية لرئيس الحكومة ووزير التربية والتعليم قبل أيام حول مصير الناجحين في مسابقة توظيف 30 ألف معلم وأسباب استبعاد أصحاب الوزن الزائد مع أن ذلك يخالف الدستور، لكن الحكومة لم تعلق على الأسئلة البرلمانية، وبدت متمسكة بموقفها.
وقال بعض النواب إن استبعاد البدناء من الوظائف الحكومية إهدار لآدميتهم وإخلال بمبدأ المساواة والعدالة، ويحمل تمييزا ضدهم، وطالبوا الحكومة بالتراجع عن موقفها، لأن إقصاء المصابات والمصابين بالسمنة من الوظيفة العمومية مقابل اختيار أصحاب القوام الجسدي الرشيق يخل بمعايير الكفاءة.
ويحظر قانون العمل المصري كل عمل أو سلوك أو إجراء من أفراد أو مؤسسات يحدث تفرقة بين العاملين في شروط وظروف العمل والحقوق بسبب الدين أو العقيدة أو الجنس أو الأصل أو العرق أو اللون أو الإعاقة أو المستوى الاجتماعي أو الانتماء السياسي أو الجغرافي، أو أي سبب يترتب عليه الإخلال بالمساواة وتكافؤ الفرص.
ارتبط الغضب المجتمعي ضد الحكومة بأنها فاجأت المتقدمين إلى الوظائف من الجنسين بشروط من بينها القوام الجسدي، ولم تعلن عن ذلك وقت طلب موظفين جدد بحيث يكون أمام كل متقدم إلى الوظيفة وقت كاف لعلاج السمنة أو التقليل من الوزن، في حين اختصرت الشروط للوظيفة على حسن السيرة والسمعة والتخصص الأكاديمي وتجاوز الاختبارات التربوية فقط.
ومنذ استبعادها من وظيفة معلم بسبب وزنها تعيش فريدة محمود حالة نفسية بالغة الصعوبة، بعد أن أصبحت تتعرض للتنمر والسخرية من الأقارب والأصدقاء، وتتعرض لعبارات جارحة، على الرغم من أنها حصلت على
تقدير امتياز في كلية التربية، ونجحت في كل الاختبارات المؤهلة إلى الوظيفة حتى صُدمت باستبعادها بسبب المظهر.
وأكدت لـ”العرب” أن الحكومة لم تمنحها فرصة ثانية كي تعالج وزنها الزائد لتعود إلى الاختبار مرة أخرى، وهذا تصرف بالغ القسوة وكان يفترض على المؤسسات العمومية أن تفصح عن نواياها مبكرا بدلا من اللجوء إلى سلاح الصدمة النفسية، وكأن هناك توجها لإجبار الناس على مسار حكومي، طالما لا يسمعون إلى النصيحة.
ولم تمانع فريدة من أن تكون هناك اختبارات صحية لأي وظيفة، لكن يفترض وجود عدالة في الاختيار وتوضيح إذا كان القوام الجسدي يؤثر على الأداء الوظيفي أم لا، لكن المشكلة أن الحكومة تريد موظفين بمواصفات مثالية مع استمرار البيروقراطية.
ويشارك الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في الاختبارات التي تعقد للمتقدمين للالتحاق بالوظائف الحكومية، ودائما ما يشدد على حرص الحكومة على اتباع أعلى المعايير لانتقاء أفضل الكوادر المؤهلة علميا وفنيا وشخصيا وفقا لأحدث وسائل وبرامج التدريب والتأهيل الشخصي التي تتناسب مع طبيعة عملهم وتؤهلهم لأداء مهامهم وتحمل مسؤولياتهم بكفاءة.
وانتقد السيسي وجود أعداد كبيرة من المصريين الذين يعانون من زيادة مفرطة في الوزن، وخلال إحدى المناسبات الرسمية قال موجها حديثه للمواطنين “لماذا تفعلون هكذا في أنفسكم، أنا أرى أحيانا أشخاصا بدناء وأسأل نفسي لماذا لا يراعي الناس صحتهم ليستطيعوا التحرك والعمل بسهولة بدلا من الوصول إلى مرحلة البدانة، المفترض أن يكون القوام الرشيق ثقافة شعب”.
أظهر المسح السكاني الذي أجرته الحملة الرئاسية المعروفة باسم “100 مليون صحة”، وصدر العام الماضي، أن قرابة 40 في المئة من المصريين البالغين يعانون من السمنة، وأنها أكثر انتشارا بين النساء بنسبة 49.5 في المئة مقابل 29.5 في المئة عند الرجال، لكن لم ينص أي قانون مصري مدني على أن يكون من شروط التعيين بأي وظيفة وجود وزن مثالي للشاب أو الفتاة.
ويبدو الإجراء الحكومي ظالما للنساء على وجه الخصوص لأنه وفق الأعراف المجتمعية والثقافات العائلية في المدينة والريف عندما تنتهي الفتاة من دراستها تدخل مرحلة البقاء في المنزل طوال الوقت، لا تستطيع الخروج أو التنزه والتحرك بأريحية بحجة الحفاظ على السمعة والخوف عليها من نظرات الناس، بالتالي من الطبيعي أن يزيد وزنها على وقع الثقافة المجتمعية.
وترفض الكثير من العائلات ممارسة النساء للرياضة بحكم أن ذلك من الأمور المعيبة، ما يؤثر على القوام الجسدي ويدفع غالبية الفتيات وهن في سن صغيرة إلى زيادة الوزن، أي أن المرأة في مجتمع شرقي مثل مصر مظلومة وضحية عادات بالية وتعقيدات حكومية صعبة، بين إجبارها على نمط حياة يدفعها إلى السمنة وبين إجراءات تمييزية تقصيها من الوظيفة بسبب الوزن الزائد.
ويتحمل الإعلام بعضا من أزمة المجتمع مع المرأة البدينة، لأنه يقدم الرشيقة على أنها صاحبة الجمال الاستثنائي أو يقدم السمينة في صورة ساخرة تثير ضحكات الجمهور لزيادة وزنها وخفة ظلها، وهناك منابر تتجاهل زرع ثقافة التحفيز والدعم النفسي كوسيلة لتحدي البدانة وتحقيق الرشاقة.
ولا تقتنع الحكومة بأنها أيضا جزء من أزمة البدانة التي ضربت قطاعات واسعة من المجتمع، لأن البسطاء، مثلا، يلجأون إلى إسكات المعدة بوجبات فقيرة غذائيا لمجرد إطعام الجسد من دون تغذيته، كونهم لا يمتلكون الوفرة المالية التي تساعدهم على اقتناء الأطعمة الصحية، وهي الظاهرة التي ترفض المؤسسات الرسمية تحمل مسؤوليتها وترى أن ثقافة المجتمع سبب البدانة.
وأمام التمييز الفج تجاه النساء البدينات، من الحكومة والمجتمع، يظل الرجل البدين خارج حسابات النقد والتجريح وبعيدا عن بنود مقاييس الجمال، إذ يعطيه البعض الحق في زيادة الوزن تحت مبررات ذكورية، مفادها أن الرجل ليس بالشكل أو المظهر، بل بقوة الشخصية وتحمل المسؤولية وهناك من يعتبر سمنة بطن الرجل من شيم الرجولة.
وقد لا يجلب ترهيب الحكومة للمواطنين برفضها إنصاف البدناء وظيفيا التجاوب معها بانتباه الناس إلى أوزانهم أو ممارسة الرياضة، سواء أكان ذلك استجابة لنداءات أطلقها الرئيس السيسي أو بغرض تحقيق حلم الوظيفة، فالمعضلة برمتها تقف خلفها أسباب ثقافية وأخرى تتعلق بنواح سياسية واقتصادية ونفسية ومجتمعية.
وأوضحت الباحثة في علم الاجتماع هدى زكريا أن زيادة الوزن عند شريحة كبيرة من المصريين تشي بأن شراهة تناول الطعام صارت وسيلة عند البعض، شبابا وفتيات، كبارا ومراهقين، للهروب من مشكلات وأوجاع نفسية ووجدانية.
ولفتت لـ”العرب” إلى أن السمنة نتيجة طبيعية في بعض المجتمعات التي تعاني من ثقافة محدودة مرتبطة بالصحة الغذائية وارتفاع منسوب الفقر، وزيادة الضغوطات الاقتصادية، ولا تعني زيادة وزن الجسد أن الناس يعيشون في رفاهية أو أن ذلك يعبر عن الثراء كما يعتقد البعض، لكنها نتيجة لمرض مجتمعي.
وحسب خبراء في التغذية تتطلب مكافحة السمنة في مصر وضع خطة واضحة مع خطاب إعلامي مستنير يقنع الناس ويغير من قناعاتهم، وتقتنع المؤسسات الرسمية بأن السمنة قد لا تعبر عن إفراط في تناول الطعام وقد تكون نتاج فقر وسوء تغذية.
وثمة أصوات تلتمس للحكومة الأعذار المنطقية في رفضها توظيف أصحاب الوزن الزائد لأسباب مرتبطة بصميم العمل، فوظيفة المعلم أو المعلمة لها متطلبات خاصة، وتحتاج من المدرس أن يتحرك بسهولة ويساعد الطلاب على تنفيذ الأنشطة المختلفة، لأن نشاطه (نشاطها) ينتقل إلى التلاميذ، وهذا يحتاج إلى جسد مثالي.
تلقي هذه الأصوات بالمسؤولية الكاملة على المجتمع نفسه، لأنه يتعامل مع مسألة زيادة الأوزان باستخفاف بسبب غياب الثقافة العامة في كيفية اتباع أنماط صحية من الحمية الغذائية، وغياب ثقافة الرياضة عند الغالبية، حتى أصبح غالبية الناس كسالى ويقضون أوقات الفراغ في جلسات فضفضة.
على الجهة المقابلة، قد يكون من الصعب، وربما المستحيل، أن يكون للتريّض وجود في حياة مجتمع في بلد يتجاوز عدد الفقراء فيه نصف عدد السكان ولا يملكون رفاهية الفراغ ويركزون على سد جوعهم بالطعام الرخيص المليء بالسعرات الحرارية.
من الطبيعي أن تظل مشكلة البدانة في مصر حاضرة بقوة، خاصة أن الحكومة تكتفي بحث المواطنين على تقليل كميات الطعام دون تقديم حلول تحثهم تلقائيا على التخلص من أوزانهم الزائدة وتوفر لهم غذاء جيدا، وتلجأ إلى الترهيب بالاستبعاد الوظيفي.
ولا تنكر المصرية أميرة إبراهيم التي تقدمت إلى وظيفة مدنية بوزارة النقل أنها على وشك الاستبعاد بسبب وزنها الزائد، لكنها تنتمي إلى أسرة بسيطة لا تؤمن بفكرة المتابعة مع أطباء تخسيس، ومع ذلك لجأت قبل شهور للعلاج بالأعشاب الطبيعية كوسيلة شعبية للتخلص من الأوزان الزائدة أمام انخفاض سعرها.
وقالت لـ”العرب” إن السمنة ليست خيارا للفقراء في مصر بقدر ما تنتج عن واقع مؤلم، معيشيا وغذائيا وماديا، فهي على وشك الاستبعاد الوظيفي، لكنها لم تختر لنفسها هذا المسار، ومهما حاولت إقناع والديها بالعلاج الطبي من السمنة لن يكون حديثها مقنعا لهما، لأن الأزمة لها أبعاد ثقافية وأسرية معقدة ولا تحترم الحكومة ضحاياها.
وبغض النظر عن مبررات الحكومة، فالمشكلة الأكبر تتعلق بأن التفرقة بين المجتهد والضعيف على حسب قوام الجسد أو المظهر تعكس خللا في كيفية انتقاء الكفاءات، فقد يكون هناك شخص يتمتع بجسد مثالي ويمارس الرياضة ولا يمتلك مهارات.
ويعج الجهاز الإداري للدولة بالكثير من أصحاب الوزن الزائد ولا تلزمهم الحكومة بالقوام الجسدي المناسب، وصار هؤلاء عبئا على الدولة وطالبي الخدمة من المواطنين، ما جعل الحكومة متهمة بأنها تكيل بمكيالين، حيث تتحرك لإنشاء مفوضية ضد التمييز والعنصرية والتنمر، وتمارس التصرف نفسه من دون أن تبحث عن أسباب السمنة وتكتفي باختيار الطريق السهل من خلال الإقصاء الوظيفي.
أحمد حافظ – صحيفة العرب
المصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: فی مصر
إقرأ أيضاً:
على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (11 – 20)
"لنْ يستطيعَ أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لمْ تكُنْ مُنحنياً"
مارتن لوثر كينج
النور حمد
مقاومة القوى العربية للديمقراطية
لم ترحب الدول العربية القريبة من السودان، كعادتها، بالثورة السودانية التي نادت بالتحول الديمقراطي. ولا غرابة، فهي إما أنظمةٌ ملكيةٌ وإما أنظمة عسكرية ديكتاتورية. فأنظمة دول الخليج أنظمةٌ أخرجها سياقٌ تاريخيٌّ خاصٌّ جدا. هذا السياق التاريخي الخاص هو الذي قفز بها في بضعة عقود، قفزةً كبيرةً، من حالةٍ أقرب إلى البداوة وأدخلها من حيث المظهرُ الخارجيُّ البراق، في حقبة الحداثة. وقد لعب النفط والاقتصاد الريعي الذي ساد فيها، إلى جانب العلائق الاقتصادية والاجتماعية السائدة منذ القدم في مجتمعاتها، دورًا كبيرًا في جعل الحكم الملكي النموذج الأكثر مناسبةً لأوضاعها. فهي تُعدُّ اليوم، بحكم العوامل التي ذكرناها، إضافةً إلى قلة عدد السكان مع ضخامة الثروة، من أكثر المجتمعات العربية استقرارًا وأمنًا وثراءً على مستوى دخل الفرد، على تفاوتٍ في ذلك بينها. غير أن محاولاتها المستمرة لتعويق التحول الديمقراطي في السودان، خوفًا على نفسها من مطالبة شعوبها بالديمقراطية، أو خوفًا على حظها من موارد السودان الثرة التي ترى أنها في غاية الأهمية لأمنها الغذائي، فهو اتجاهٌ غير سليم، بل ومضرٌّ بها وبالسودان. وقد أدى هذا التوجه الخاطئ في التعاطي مع الثورة السودانية، في نهاية الأمر، إلى إشتعال هذه الحرب الضروس التي أحرقت الأخضر واليابس. وهي حربٌ لا تزال تنذر بحدوث ما هو أسوأ. فالنظام الديمقراطي الوليد الذي أطاح به انقلابٌ عسكريٌّ عليه بعد سنتين فقط من الاستقلال، أخذت الانقلابات العسكرية تطيح به كلما أعادته ثورةٌ من الثورات السودانية وقد حدث ذلك ثلاث مرات كان آخرها انقلاب البرهان وحربه المدمرة. ولقد ظلت الأنظمة العربية ترحِّب على الدوام بالانقلابات العسكرية في السودان. وقد ظلت تفعل هذا رغم أن أكثرية السودانيين ترى أن النظام الديمقراطي هو الأصلح للسودان، وهو الأكثر خدمةً لنموه واستقراره. وكذلك، هو الأكثر خدمةً، لمصالح الدول العربية الخليجية ولمصر، من حيث الاستقرار وأمن الإقليم، ومن حيث الفرص الاستثمارية والتعاون الاقتصادي.
أما النظام المصري، فقد ظل نظامًا شموليًا واكتسب طبيعةً أوليغاركية في عهدي أنور السادات وحسني مبارك. وعمومًا، فقد تحدَّر نظام الحكم في مصر من النظام الخديوي الإمبراطوري التوسعي. فعلى الرغم إعلان مصر جمهورية عقب ثورة يوليو 1952، إلا أن النظرة الخديوية الاستعمارية الخديوية، خاصةً تجاه السودان قد ظلت كما هي. وقد جعلته هذه الخصائص، إلى جانب فقر مصر من الموارد وضيق الأرض والتزايد المتسارع في عدد السكان، يعمل على الدوام على الهيمنة على سلطة القرار في السودان. بل، ولا يفكر قط في أي أسلوبٍ آخر للتعاطي مع السودان غير أسلوب الهيمنة، واحتكار مياه السودان وموارده. والسودان، كما سبق أن ذكرنا هو الفضاء الوحيد الذي يملك إمكانيات الحلول النهائية لحالة الاختناق المصرية المركبة، غير أن مصر لم تعرف قط كيف تتعامل مع ملفه بصورةٍ سليمة. ظل هم مصر الأوحد أن يتولى السلطة في السودان حاكمٌ عسكريٌّ يكون خاضعًا لإرادتها خضوعًا مطلقًا، فيخرس لها أصوات السودانيين المحبين للديمقراطية، الذين يريدون استقلاليةً كاملةً للقرار السوداني، ويريدون الخروج من حالة الاضطراب السياسي والعجز التنموي المزمن. في حين ترى مصر أن فرص نمائها واستقرارها ، رهينةٌ بوجود نظامٍ عسكريٍّ في السودان، تقوم هي بحمايته نظير تمكينه لها من نهب موارد السودان. ثم الاصطفاف وراءها فيما تراه حقًّا مطلقًا لها في مياه النيل. بل، واتخاذ أراضيه منصَّةً عسكريةً متقدمة تتموضع فيها الجيوش المصرية لتهديد دول حوض النيل.
السعودية ومصر والإمارات والثورة السودانية
منذ اندلاع الثورة وازدياد التدافع بين قواها وبين قوى النظام القديم وعلى رأسها المؤسسة العسكرية والمؤسسة الأمنية التي صنعها الإسلامويون ورعوها على مدى ثلاثين عامًا، تنامى انشغال بعض الدول العربية بما يجري في السودان. ومن ثم، جرى الانخراط وبسرعةٍ شديدة في محاولات التأثير على ما يجري فيه. وقد تبدى ذلك جليًّا في النشاط المحموم لسفراء الدول العربية لدى السودان؛ خاصةً مصر والسعودية والإمارات، وانخراطهم في العمل وسط القوى السياسية السودانية طيلة فترة الصراع بين عسكر نظام البشير وبين القوى المدنية التي سبقت التوقيع على الوثيقة الدستورية التي تولت بموجبها حكومة الدكتور عبد الله حمدوك السلطة. كما انخرطت أيضًا، قيادات هذه الدول مع القيادة العسكرية في السودان، فقدمت لهم العون المالي لتثبيت قبضتهم على السلطة، وخنق السعي المُطالب بالتحول الديمقراطي وبالحكم المدني وبخروج العسكر عن السياسة.
قامت هذه الدول بهذه الجهود لتجيير الحراك الجاري في السودان ليصب في خدمة مصالح كل واحدةٍ منها، وفقًا للزاوية التي ترى منها مصالحها في السودان. وعلى الرغم من أن مجموعة مصر والسعودية والإمارات تُعد أقرب إلى التناغم، فيما بينها، من حيث النظرة المشتركة المتعلقة بالتعاطي مع قضايا الإقليم، إلا إن بينها أيضًا تنافسًا وصراعًا خفيا. كما أن هناك صراعًا بين معسكر السعودية والإمارات ومصر ومعسكر قطر وتركيا، الذي تدخل فيه، أيضًا، في السودان إيران. ولا يقتصر هذا الصراع بطبيعة الحال على السودان وحده، وإنما يجري هذا الصراع في دول أخرى مثال: العراق وسوريا ولبنان وليبيا واليمن، وحتى قطاع غزة. غير أن للسودان أهميةً خاصةً لدى هذه الدول، من حيث الموقع الاستراتيجي على البحر الأحمر، والموارد الثرة، وفرص الاستثمار الواسعة، خاصة الاستثمار الزراعي من أجل تحقيق الأمن الغذائي. ولذلك، لا غرابة أن أضحت أراضيه ميدانًا لحرب وكالةٍ ضروس لقوى إقليمية ودولية. وقد ساعدت رخاوة كثير من النخب السياسية السودانية وفسادها وقابليتها للعمالة في تكريس هذا الوضع المأساوي.
امتهان الإسلامويين للسودان
لم تُهنِ السودان وتحط من قدره نخبةٌ حاكمةٌ مثلما فعلت هذه النخبة الإسلاموية؛ من عسكريين ومدنيين. لقد لعب نظام الإسلامويين طيلة فترة حكمه للسودان التي بلغت حتى الآن 36 عامًا، على المتناقضات لإرباك الجميع. أتقن نظام الإسلامويين في السودان ممارسة أساليب الابتزاز عبر مد الجسور إلى القوى الإقليمية متضاربة المصالح. فهو قد كان لفترةٍ طويلةٍ حليفًا لإيران التي ترى فيها المملكة العربية السعودية خطرًا داهمًا على أمنها. ثم ما لبث أن أصبح حليفًا للملكة العربية السعودية، جاعلاً من الجنود السودانيين مرتزقةً يحاربون داخل اليمن وعلى الحدود السعودية اليمنية واقفين في مواجهة حليفته السابقة إيران، ممثلةً في الحوثيين. وقد فعل الرئيس المخلوع عمر البشير هذه الفعلة الشنعية نظير المال. وغطى ذلك بإدعاءٍ مضحكٍ خرج به علينا الناطق الرسمي باسم القوات المسلحة الصوارمي خالد سعد حين قال في خطبةٍ حماسية إن الجنود السودانيين إنما يحاربون في السعودية حمايةً للحرمين الشريفين. وأكاد أجزم أن خطبته تلك أضحكت السعوديين أنفسهم.
والآن، وللغرابة، تنهمر على هذا النظام الزئبقي اللزج، في نسخته البرهانية الأكثر قبحًا وفسادًا وعمالةً، الطائرات المُسيَّرة الإيرانية، من طراز مهاجر4 ومهاجر6، (راجع مقال أريج الحاج على موقعFikra Forum، على الرابط: https://shorturl.at/FEHP9 ). كما تتدفق عليه أيضًا، مسيَّرات بريقدار التركية، وفقًا لما كشف عنه مصدرٌ عسكريٌّ سودانيٌّ رفيع لصحيفة "سودان تربيون"، (راجع: "سودان تربيون" على الرابط:. https://shorturl.at/y2R5V). وأما دولة قطر، المعروفة بالوقوف في صف منظومة الإسلام السياسي المنتشرة في عديد الأقطار العربية، فقد تحوَّلت إلى ملجأٍ لقيادات إسلامويي السودان الذين هربوا عقب الثورة. بل وأصبحت مقرًّا للخلية الأمنية الإعلامية التي تكثر من استضافة صحفييها قناة الجزيرة مباشر. وهي خلية قام الفريق البرهان والإسلامويون بإرسالها إلى الدوحة كجزء من خطة الحرب التي أشعلوها. ويقتصر دور هذه الخلية على بلبلة الرأي العام عبر بث الأكاذيب وممارسة الديماغوغية المستندة على المغالطات. ورغم التعارض بين معسكري السعودية مصر وتركيا وقطر، نجد أن مصر والسعودية تسيران مع تركيا وقطر على نفس الخط المقاوم لإرادة القوى الحيَّة من الشعب السوداني التي تنادي بالتحول الديمقراطي وبالحكم المدني. كما تنادي، أيضًا، بخروج الجيش عن السياسة، ومن إدارة اقتصادٍ موازٍ لا يخضع لرقابة الدولة. وقد سبق أن قال رئيس وزراء الفترة الانتقالية عبد الله حمدوك إن الجيش السوداني يسيطر على حوالي 80% من موارد البلاد، ويديرها بعيدًا عن وزارة المالية. ومن يتابع "قناة الجزيرة" المملوكة لقطر، وقناة "العربية الحدث" المملوكة للسلطات السعودية، منذ اشتعال هذه الحرب المدمرة، يرى تطابق الخط التحريري للقناتين الداعم للفريق البرهان الذي يسيطر على قراراته الإسلامويون سيطرة تامة. وهذه واحدةٌ من أعاجيب السياسة في منطقتنا.
أما دولة الإمارات العربية المتحدة فقد بدأت متخوفةً عند بداية الثورة من قيام نظامٍ ديمقراطيٍّ في السودان، شأنها شأن كل الأنظمة الملكية العربية. ففي 1 مايو 2019، أشار وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش إلى تدخل بلاده في الأحداث الجارية في السودان، حيث قال في تغريدة على موقع تويتر إنه "يحق للدول العربية بشكلٍ كاملٍ دعم انتقالٍ منظَّمٍ ومستقرٍ في السودان. غير أنه أشار إلى ضرورة أن يوازن هذا الانتقال بعناية بين التطلعات الشعبية والاستقرار المؤسسي، وهذا حديثٌ لا غبار عليه. لكن الوزير الإماراتي إشار في نفس السياق إشارةً سلبيةً خفيَّةً إلى الحراك الشعبي في السودان، حين قال: "لقد عانينا من الفوضى الشاملة في المنطقة، ومن المنطقي ألا تكون لنا حاجة في المزيد منها"، (راجع الجزيرة نت على الرابط: https://shorturl.at/7phoq). لكن، مع تقدم الأحداث غيَّرت دولة الإمارات موقفها ليصبح مقاومًا للخط الذي تسير عليه مجموعتا تركيا وقطر، من جهة، والسعودية ومصر، من الجهة الأخرى. وهكذا أصبح السودان، بسبب فقدانه استقلالية القرار، ساحةً لتعاركٍ شرسٍ بين هذه القوى.
الاستعداد السوداني لقبول التدخلات الخارجية
لقد وضعت في مقدمة هذه المقالات مقولة مارتن لوثر كينج الشهيرة القائلة: "لن يستطيع أحدٌ أن يركب على ظهرك ما لم تكن منحيا". والغرض من وراء وضعها هو الإشارة إلى أن سبب مهانة السودان واستباحته من قبل الآخرين، إنما يعود أولا وأخيرًا، إلى ضعف الحس الوطني وضمور الشعور بالكرامة الوطنية لدى كثيرٍ من نخبه السياسية. فما أن اشتعلت الثورة وتداعت عليها دول الجوار العربي المختلفة، كتداعي الأكلة على قصعتها، أخذت كل دولةٍ تحاول تجيير مخرجات الثورة لصالحها. وأخذت القوى السياسية السودانية في الركض إلى تلك العواصم العربية لتقديم خدماتها. فقد أورد موقع "الجزيرة نت" أن قيادات حزبية سودانية قد زارت سرًا دولة الإمارات العربية. وأن تلك الزيارات قد أزعجت الثوار المعتصمين حينها أمام مباني القيادة العامة للجيش في الخرطوم. ونسب موقع "الجزيرة نت" لصحيفة "الجماهير" الإلكترونية السودانية، أن مسؤولةً حزبيةً سودانيةً كانت آخر الزائرين سرًّا إلى أبو ظبي. ونقلت الصحيفة عن مصادر لم تسمِّها، أن تلك المسؤولة الحزبية الزائرة لم تُدْلِ بأي تصريحات لدى وصولها أبو ظبي، كما لم يُعرف جدول أعمال زيارتها أو مدتها. (راجع موقع "الجزيرة نت" على الرابط: https://shorturl.at/gD8Xv). كما ذكر موقع "الجزيرة نت" في نفس هذا التقرير أن صحيفة نيويورك تايمز الأميركية ذكرت أن خمس قوى سودانيةً معارضةً، بينها عدد من الحركات المسلحة، زارت أبو ظبي حينها لإجراء محادثات قصدت منها أبو ظبي إقناع تلك القوى بالانضمام إلى حكومة يقودها العسكريون.
كما أورد موقع "الجزيرة نت" مقالاً لأحمد فضل، تحت عنوان: "دعم السعودية والإمارات لعسكر السودان .. أسئلة تحتاج إجابات"، قال فيه أن دعاة الاحتجاجات في السودان قد قابلوا الدعم السعودي الإماراتي، للمجلس العسكري الانتقالي بريبةٍ لافتةٍ لا تخلو من اتهاماتٍ بأن أعضاء المجلس الانتقالي، الذي يدير البلاد حاليًا واقعون ضمن لعبة المحاور. (راجع أحمد فضل: دعم السعودية والإمارات لعسكر السودان.. أسئلة تحتاج إجابات على موقع الجزيرة نت على الرابط(https://shorturl.at/9DAjR :. أما صحيفة فايناشيال تايمز البريطانية، فقد أوردت في 26 أبريل 2019، أن السعودية والإمارات بدأتا تخوضان في الشأن الداخلي السوداني بدعمهما للمجلس العسكري الانتقالي بهدف عرقلة الانتقال إلى الحكم المدني. وأوضحت الصحيفة في تقرير لها من الخرطوم، أن حزمة المساعدات المالية والسلعية الجديدة من الدولتين، البالغة ثلاثة مليارات دولار، قد خففت الضغط على الوضع الاقتصادي وعلى المجلس العسكري الانتقالي. لكنها، أغضبت السودانيين المعادين لأي دعمٍ أجنبيٍّ للحكومة العسكرية المؤقتة. وأشارت الصحيفة إلى المطالبة الشعبية بالتسليم الفوري للحكم لإدارةٍ مدنيةٍ، قائلةً إن المساعدات من الدولتين الخليجيتين قد مهَّدت الطريق لمعركة ثانية بين الجيش والشعب.
أيضًا، نقلت صحيفة فاينانشيال تايمز عن سفيرة بريطانيا في الخرطوم روزاليندا مارسدن، التي سبق أن عملت ممثلاً خاصا للاتحاد الأوروبي بالسودان وجنوب السودان بين 2010 و 2013، قولها: إن أبو ظبي والرياض أوضحتا خلال الأيام القليلة الماضية أنهما تدعمان المجلس العسكري الانتقالي. وقالت الصحيفة، إن السفيرة أعربت عن اعتقادها أن هذا الدعم كان مدفوعًا بصورةٍ أساسيةٍ بالحاجة إلى ضمان استمرار مشاركة القوات البرية السودانية في حرب اليمن. وهو أمرٌ بادر المجلس العسكري الانتقالي في السودان بضمان تأكيده بسرعةٍ منذ البداية لكلٍ من السعودية والإمارات. أي، أن السودان لن يسحب جنوده من اليمن. وعلقت السفيرة بأن جنود السودان الذين عركتهم الحروب أثبتوا أهميةً حيويَّةً للهجوم البري السعودي والإماراتي على المتمردين الحوثيين. (راجع: الجزيرة نت، على الرابط: https://shorturl.at/dWKbc) ومما يجدر ذكره هنا أن السعودية حين نادت الدول العربية إلى الوقوف إلى صفها في حرب الوكالة الإيرانية في اليمن التي استهدفت أمنها اعتذرت مصر عن إرسال جنودها إلى اليمن، في حين قبل بذلك الرئيس المخلوع عمر البشير. ومشى على نفس الدرب الفريق البرهان الذي كان أصلاً منسقًا لتفويج الجنود السودانيين إلى اليمن، قبل قيام هذه الثورة التي أطاحت بالرئيس عمر البشير.
حكامٌ مُرتشون
إن الثورة السودانية المتعثرة التي لا تزال فصولها تتوالى وكان آخرها هذه الحرب المدمرة، ليست سوى محاولةٍ لوضع الحق الأبلج مكان الباطل اللَّجلج. وهذ مسيرةٌ قد تطول وقد نتعرَّض فيها لما هو أسوأ مما نحن فيه الآن. لقد أذَّل الإسلامويون السودان والسودانيين، كما لم يفعل أحدٌ من قبل. وما الاستهانة التي تقابل بها دول الخليج ومصر الحكومات السودانية العسكرية سوى نتيجةٍ طبيعيةٍ لما رأوه من وضاعةٍ ونهمٍ وقابليةٍ للارتشاء وسط عسكريين وسياسيينا. وكلنا يذكر ما جرى في المحاكمة التي أقيمت للرئيس المخلوع عمر البشير بعد خلعه. فقد قال المحقق في القضية، إن البشير أبلغهم أنه حصل على مبلغ 25 مليون دولاراً من ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، لإنفاقها في صورة "تبرعات وهدايا للفقراء". وقال المحقق أيضًا، إن "البشير ادعى أنه تلقى قبل ذلك، 35 مليون دولاراً من العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبدالعزيز. وتلقى كذلك مليون دولاراً من ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد. (راجع موقع "سي إن إن العربية" على الرابط: https://shorturl.at/snuJw). فأي كرامةٍ وأي احترامٍ يمكن أن يلقاها السودان والسودانيون ورؤساؤهم ومسؤولوهم بمثل هذه الحِطَّة والوضاعة. رئيس يتلقى أمولاً نقدية بالملايين تأتي بها إليه طائرة خاصة إلى مطار بلده وتكون موجهةً إليه بصفته الشخصية ولا يرى بأسًا في أخذها إلى منزله ليقسم بعضها على بطانته. وما أكثر ما تردد أن المسؤولين السودانيين عادوا من عواصم الدول الخليجية، وبرفقتهم حقائب محشوة بملايين الدولارات. باختصارٍ شديد هذه الثورة جاءت لكنس هذه القذارات، ولسوف تجد مقاومةً شديدةً من جهات داخلية وخارجية عديدة، لكن انتصارها حتميٌّ، طال الزمن أم قَصُر.
(يتواصل)
elnourh@gmail.com