«أحسن فريق» في التجربة اليمنية مع الحرب: الرياضة في مواجهة الخذلان
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
يمن مونيتور/القدس العربي
من أبرز ما كتبته سنوات الحرب في اليمن، هي قصة «أحسن فريق» الذي التجأ للرياضة كوسيلة من وسائل الدفاع عن الجسم والعقل والنفس والحياة العامة في مواجهة ضغوط وتداعيات الحرب في مقدمتها تردي الحياة المعيشية؛ فانطلق بالفكرة قلة من الرجال كانوا يتجمعون عقب صلاة الفجر في ساحة حديقة الثورة شمال العاصمة؛ ليمارسوا تمارين سويدية وغيرها، في تحدٍ للقصف ودون خوف من سلطات الأمن، وإذا بالتجربة الجديدة على مدينة صنعاء تجذب إليها أعدادا كبيرة، وتصبح ظاهرة تتجاوز العاصمة لمحافظات أخرى.
خلال خمس سنوات، تمددت التجربة لتشمل 14 ساحة بصنعاء بذات الاسم، يخرج إليها العشرات يوميًا للالتئام في نشاط رياضي عام؛ وهو نشاط تحول إلى تظاهرة اجتماعية وثقافية يومية؛ باعتباره ملتقى للتعرف على أحوال أعضاء الفريق وتبادل الخبرات، والتوعية بأهمية الرياضة في الدفاع عن الصحة، في مرحلة تتكالب فيها الأمراض على اليمنيين، ومعظمهم عاجزون من تحمل تكاليف العلاج.
يقول أحد أعضاء الفريق (العضوية هنا لا تتطلب سوى الحضور بملابس رياضية أو غيرها للانتظام في التمارين مجانًا) إن ما قدمه «أحسن فريق» لثقافة المجتمع في علاقته بالرياضة تتجاوز ما قدمته وزارة الرياضة خلال أكثر من خمسة عقود؛ إذ كيف تنجح في الترويج للرياضة في مجتمع يعيش حربًا وانقطاع مرتبات وأوضاعًا اقتصادية صعبة للغاية؟ لكن تلك مهمة نجح فيها مؤسسو هذه التجربة، حد قوله.
نجاح التجربة جعلها تتجاوز صنعاء إلى محافظات أخرى كمحافظة حجة /شمال، والتي تشكل فيها ثلاث فرق تحمل ذات الاسم، وتعمل وفق برامجه، وهناك فرق أخرى قيد التشكل في مدينتي الحديدة ومناخة /غرب، وفق الصحافي والكاتب عبدالله الصعفاني، الذي يعد من أبرز المساهمين في تعزيز حضور التجربة من خلال تواصل النشر والتوعية بيومياتها عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهنا يؤكد أن تجربة الفريق قابلة للتمدد على مستوى اليمن كله.
يقول الصعفاني لـ« القدس العربي»: بدأت فكرة «أحس فريق» بعدد محدود جدا، وكان في مقدمتهم ناجي أو حاتم وعيدالله القيداني. كانت هذه البداية قبل نحو خمس سنوات، عندما بدأنا كانت الحرب في أوجها؛ ونتيجة لذلك توقفت كثير من المرافق الرياضية، وكنا بحاجة ماسة لممارسة الرياضة كأحد وسائل الدفاع عن النفس أو بمعنى أصح الإحساس بقيمة الحياة أمام ضغوط الحرب وأخبار الموت؛ وكانت البداية بعدد قليل، لكن سرعان ما كان ينظم جدد حتى صار عددنا حاليًا كبيرًا. أقصد بذلك الذين يمارسون الرياضة في حديقة الثورة شمال صنعاء».
ويضيف: «لقد تشكلت فرق أخرى من ذات الفريق على امتداد العاصمة صنعاء، التي صارت تشهد في صباحها المبكر من كل يوم أنشطة رياضة يمارسها عدد كبير جدا بدافع ذاتي، يقف خلفه رغبة في الحفاظ على الصحة، والتخفف من الضغوط النفسية الناجمة عن الحرب، واستعادة الثقة بالعقل والجسم باعتبارهما وسيلتك الأولى لمواجهة تداعيات الحرب على حياتك، وبالتالي كانت الرياضة حاجة ملحة في مواجهة ما تفرضه السياسة أيضا».
المشاركون في هذه البرامج ينتمون لمراحل عمرية مختلفة؛ ففيهم كبار السن والشباب وغيرهم، بل تجد في الفريق الجد والابن والحفيد في صورة لافتة؛ إذ أن جميعهم يمارسون الرياضة، ويحرصون عليها بشكل يومي، كما ينتمون لمهن عديدة فمنهم الطبيب والمهندس والصحافي والمحاضر الجامعي وغيرهم ..»والجميل- الحديث للصعفاني- أنهم يمارسون الرياضة بدون أي صفات، ويتعاملون مع بعضهم بمحبة ، لدرجة تجدهم يزورون من انقطع لسبب مرضي ضمن أنشطة تعزز قيم التعاون والتكافل، بل اللافت أن الحضور لبرنامج الرياضة صار ضمن اهتمامات أعضاء الفريق بحثا عن المتعة والصحة والأجواء الجميلة التي تتشكل خلال لقاءاتنا؛ ولهذا لا تنقطع هذه اليوميات حتى في الأعياد؛ إذ نلتقي يوم العيد لنمارس الرياضة؛ ومن ثم نقيم صلاة وخطبتي العيد في الساحة».
لكل عضو في هذا الفريق قصته مع المشاركة والنجاح الذي حققه في حماية صحته وسلامة عقله واستقرار نفسيته، كقصة مُحمّد، الذي وجد في الانضمام لهذا الفريق وسيلة للتعافي؛ إذ استطاع من خلالها تجاوز آثار الجلطة الدماغية على أطرافه، واستطاع العودة للمشي بشكل طبيعي، بل إنه أوقف علاج ضغط الدم بعد استقرار حالته بإرشاد من الطبيب.
يقول الصعفاني: «تبدأ التمارين بعد صلاة فجر كل يوم، لا يمنع انتظام التمارين اليومي أي مانع، إذ نستمر في اللقاء وأداء التمارين يوميًا حتى في رمضان والأعياد، يعني 365 يومًا رياضة في العام».
التقت «القدس العربي» عددًا من المشاركين في برنامج «أحسن فريق» وجميعهم أبدوا رضا وسعادة بهذا الانضمام؛ كأنهم أرادوا القول إنهم وجدوا ضالتهم في هذا الفريق.
نجم الدين الرفاعي، مستشار في مؤسسة الاتصالات الحكومية، من المنظَميّن لإحدى مجموعات الفريق بصنعاء، يقول عن تجربته: «كان المحفز لي للانضمام للفريق هو جاري الذي كان مصابا بالسكر، واخضع نفسه لبرنامج غذائي لعدة أشهر مصحوبًا بالرياضة الصباحية ضمن الفريق من بعد صلاة الفجر حتى الساعة السابعة، ولاحظت التغيرات الكبيرة على صحته، وحين شاركت لأول مرة، وجدت الغالبية من ذوي الأعمار فوق الأربعين، وهناك مَن هو أصغر منهم أيضًا، لكني وجدت أن الجميع ممتلئين بالحيوية والنشاط والتفاؤل والحماس، ويقدمون صورة جميلة عن المجتمع في وقت نحن أحوج ما نكون للأمل وللمبادرات التي تكسر رتابة حياتنا».
وأضاف لـ«القدس العربي»: «وجدت التجربة جميلة؛ ولهذا استمريت فيها حفاظا على صحتي. وكنت أنشر صباح كل يوم على صفحتي في فيسبوك نشاطات يوميه لتحفيز الباقين؛ واللافت أن الأعداد تزداد في إطار كل فريق مع تزايد عدد الفرق؛ إذ صار هناك أحسن فريق في النادي الأهلي ونادي الوحدة وحي النهضة وغيرها بالإضافة إلى تشكله في محافظات أخرى».
علاوة على كونها خط الدفاع الأول عن الصحة تبقى الرياضة من أبرز وسائل اليمنيين لمواجهة أفق السياسة (المسدود) وتداعيات الحرب العبثية، وتحقيق نسبة معقولة من الاستقرار النفسي في مواجهة تداعيات الحياة المعيشية، لاسيما في ظل ما توفره الرياضة من تصالح مع الذات وتوازن داخلي تتعزز معها القوة في مواجهة قسوة الظروف تحت نير الصراع المستعر هناك منذ أكثر من ثماني سنوات، وكأن لسان حالهم يقول: لقد خذلنا الجميع، ولا نريد أن تخذلنا الصحة!
لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *
التعليق *
الاسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني
احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.
شاهد أيضاً إغلاق أخبار محلية
مقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...
مش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...
تحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...
[أذلة البترول العربى] . . المملكة العربية السعودية قوة عربية...
معي محل عطور. فيـ صنعاٵ...
المصدر: يمن مونيتور
كلمات دلالية: القدس العربی الریاضة فی فی مواجهة فی الیمن کل یوم
إقرأ أيضاً:
النموذج التركي بين مكافحة الانقلابات وترسيخ الاستقرار وشرق أوسط جديد
لم يكن الإعلان التاريخي "لعبد الله أوجلان" الذي دعا لحل التنظيم وإلقاء السلاح مجرد حدث عابر في المشهد السياسي التركي، بل مثّل لحظة فارقة في إعادة رسم ملامح الأمن القومي التركي والعلاقات الإقليمية، ومع التحولات الجارية في سوريا وسقوط نظام بشار الأسد، بات واضحا أن تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية تتحرك بخطى ثابتة نحو تثبيت موقعها الإقليمي، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط وفق رؤية جديدة.
على مدى أكثر من عقدين، أثبتت التجربة الإسلامية التركية قدرتها على تحقيق الاستقرار السياسي والتنمية الاقتصادية في بيئة إقليمية مضطربة، لكن أكثر ما لفت انتباهي، بعيدا عن النجاحات الاقتصادية والسياسية، هو نهج مكافحة الانقلابات العسكرية الذي أصبح جزءا من هوية الدولة الحديثة، ليس فقط من خلال إجراءات سياسية وأمنية، بل عبر ترسيخه في وجدان الأجيال الجديدة من خلال التعليم.
فأثناء متابعتي دروس ابنتي التي تدرس في المرحلة الإعدادية، شدّ انتباهي مادة "الانقلاب" التي تُدرّس كجزء من المناهج التعليمية التركية، لم يكن الأمر مجرد درس تاريخي جامد، بل منهج متكامل يعرض دراسات معمقة حول تاريخ الانقلابات في تركيا وتأثير التدخل العسكري في الحياة السياسية، ولا يقتصر على سرد الأحداث، بل يعمّق لدى الطلاب فهم آليات الديمقراطية، ومخاطر الاستبداد العسكري، وأهمية الحفاظ على النظام المدني.
وفي هذا الإطار تكون التجربة الإسلامية التركية قد اكتملت إلى حد كبير، وأصبحت نموذجا ملهما يجب دراسته، في إطار فشل العديد من التجارب الإسلامية المناظرة في منطقتنا العربية، فمنذ صعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، تبنى نهجا مختلفا في إدارة السلطة، بعيدا عن الصدامات الأيديولوجية التقليدية، حيث لم يكن مشروع الحزب قائما على فرض هوية إسلامية بقدر ما كان يسعى إلى التوفيق بين القيم المحافظة والتحديث السياسي والاقتصادي. هذه الاستراتيجية مكّنته من تجاوز العديد من الأزمات والاستمرار في الحكم لفترة طويلة، رغم كل التحديات الداخلية والخارجية.
أبرز ما يميز التجربة التركية هو النجاح في المزج بين الإصلاحات السياسية والاقتصادية، وبين تثبيت الاستقرار عبر بناء مؤسسات قوية، وبدلا من الدخول في مواجهات مبكرة مع الدولة العميقة، كما فعلت بعض التيارات في العالم العربي، اختار أردوغان استراتيجية التدرج، مستفيدا من شرعية الإنجازات الاقتصادية والاجتماعية لتعزيز موقعه السياسي.
ولا يمكن الحديث عن نجاح حزب العدالة والتنمية دون التطرق إلى الإنجازات الاقتصادية التي حققها، فقد استطاع الحزب، خلال عقدين من الزمن، أن ينقل تركيا من اقتصاد يعاني من الأزمات إلى واحد من الاقتصادات الصاعدة على مستوى العالم. ومن أبرز ملامح هذه النهضة: مضاعفة الناتج المحلي الإجمالي، وتطوير البنية التحتية عبر مشاريع ضخمة مثل الطرق السريعة والجسور والمطارات، وتقليل نسب البطالة ورفع معدلات التوظيف، ودعم قطاع الصناعة وتعزيز الصادرات التركية.
هذه الإنجازات لم تكن مجرد تحسينات اقتصادية، بل كانت أحد أسس الاستقرار السياسي، إذ أدركت القيادة التركية أن تحقيق الرفاهية الاقتصادية للمواطن هو مفتاح أي مشروع سياسي ناجح.
كما لم يكن نجاح أردوغان في إدارة الدولة قائما على الاقتصاد فحسب، بل كان نتيجة لقدرة فائقة على المناورة السياسية، سواء داخليا أو خارجيا، فمن الناحية الداخلية، استطاع الحزب الحفاظ على علاقات متوازنة مع مؤسسات الدولة، متجنبا الصدام معها حتى تمكن تدريجيا من إعادة تشكيلها بما يخدم رؤيته السياسية.
أما على المستوى الخارجي، فقد تبنت تركيا سياسة متعددة الأبعاد، فحافظت على علاقاتها مع الغرب، وفي الوقت نفسه عمّقت شراكاتها مع روسيا والصين ودول الخليج، مما مكّنها من تعزيز نفوذها الإقليمي دون أن تصبح تابعة لأي قوة دولية.
لم يكن الطريق إلى تثبيت الحكم في تركيا سهلا، فقد واجه أردوغان تحديات كبيرة، كان أبرزها محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو 2016. تلك الليلة كانت اختبارا حقيقيا لمدى نضج التجربة الديمقراطية التركية، إذ لم تكن المواجهة بين حكومة ومعارضين سياسيين، بل بين دولة مدنية تسعى إلى تعزيز سلطتها، ومؤسسات عسكرية كانت تسعى لاستعادة نفوذها.
ما جعل هذه الليلة فارقة في التاريخ التركي هي الطريقة التي أدارت بها القيادة الأزمة، فبدلا من التعامل معها بأسلوب قمعي مباشر، لجأ أردوغان إلى الشعب، فخرج الأتراك إلى الشوارع للدفاع عن الديمقراطية، في مشهد نادر لم يتكرر في كثير من دول العالم.
إلى جانب النجاحات الاقتصادية والسياسية، كان بناء المؤسسات القوية أحد العوامل الرئيسية التي ساعدت على استقرار التجربة التركية، فمنذ وصول العدالة والتنمية إلى الحكم، بدأ في إصلاح القضاء، وتحسين النظام التعليمي، وتعزيز المؤسسات الأمنية والاقتصادية، وقد جعلت هذه الإصلاحات النظام التركي أكثر قدرة على الصمود أمام الأزمات، وأقل عرضة للاضطرابات السياسية، إضافة إلى ذلك، كان التعليم أحد أهم المجالات التي استثمر فيها الحزب، ليس فحسب لتطوير المهارات الأكاديمية، بل أيضا لبناء وعي سياسي جديد.
ومع تزايد التحديات الإقليمية والدولية، لا تزال تركيا أمام اختبارات صعبة، لكنها أثبتت أنها قادرة على التكيف مع المتغيرات، مستفيدة من نهجها البراغماتي، وإنجازاتها الاقتصادية، وقوة مؤسساتها. ومع التحولات الجارية في سوريا، وإعلان أوجلان الذي يفتح الباب لإنهاء أحد أقدم النزاعات التي واجهتها تركيا، يبدو أن أنقرة ماضية في تعزيز مكانتها الإقليمية بثبات.
إن التجربة التركية تقدم درسا مهما في كيفية تحقيق التوازن بين الديمقراطية والاستقرار، وكيف يمكن لمجتمع أن ينهض عبر الاستثمار في التعليم، والاقتصاد، وإدارة التحالفات بذكاء، ويظل من بين أهم ما لفت الانتباه هو كيف أن هذه التجربة لا تقتصر على إنجازات حكومية، بل تمتد إلى تشكيل وعي جديد للأجيال القادمة، يضمن حماية الديمقراطية من أي محاولات ارتداد إلى الوراء.