تبسيط الاقتصاد العالمي المُعقد
تاريخ النشر: 27th, August 2023 GMT
تبسيط الاقتصاد العالمي المُعقد
خوفي يكمن في أن الأمر سيكون أكثر تعقيداً بكثير مما يتوقعه العديد من المحللين الاقتصاديين.
بعد ستة أشهر من الآن، ما هي المعلومات الأهم والأكثر قيمة المراد معرفتها بخصوص ما يحدث للاقتصاد العالمي؟
ليس واضحا إذا كان الاحتياطي الفيدرالي قد تعلم ما يكفي من أخطاء التنبؤ والتواصل لإجراء تصحيحات المسار اللازمة للهبوط.
«إدارة السياسة النقدية نحو الهبوط السلس ليست مثل قيادة الطائرة على الإطلاق»، وهذا التشبيه ينطبق بشكل خاص على الاحتياطي الفيدرالي الحالي!
كيف أدارت أمريكا ديناميات النمو والتضخم وهل حقق الاحتياطي الفيدرالي «هبوطاً ناعماً» وتراجع التضخم دون تسبب بزيادة حادة في البطالة؟
نعم، تحدى الاقتصاد الأمريكي المشككين، وحافظ على نمو قوي أعلى من الاقتصادات الرئيسية الأخرى رغم معدلات الفائدة المرتفعة والتحديات الخارجية.
يتوقف استمرار الأداء الاستثنائي على خلق الفيدرالي تضخم منخفض ومستقر دون التسبب في ركود. هذا هو التوازن الدقيق المطلوب، وكل ما يحدث يؤثر كثيرا على الاقتصاد العالمي وتعامل صناع السياسة مع عدم اليقين اليوم.
* * *
كثرت مفاجآت الاقتصاد العالمي المربكة لهذا العام. فحالياً، يتجاوز نمو الناتج المحلي الإجمالي الياباني مثيله في الصين. وفي المقلب الآخر، جاءت مبيعات التجزئة في الولايات المتحدة لشهر يوليو ضعف التوقعات، رغم تفعيل مجلس الاحتياطي الفيدرالي واحدة من أكثر دورات رفع أسعار الفائدة تركيزاً منذ عقود.
وفي المملكة المتحدة، ارتفع نمو الأجور إلى معدل سنوي قدره 7.8%، مع بقاء التضخم الأساسي جامحاً رغم 14 رفعاً متتالياً لأسعار الفائدة من قبل بنك إنجلترا، مع توقع المزيد في المستقبل.
وفي أمريكا اللاتينية، خفضت كل من البرازيل وتشيلي أسعار الفائدة، في مخالفة واضحة لتوقعات السوق بأن الاحتياطي الفيدرالي سيبقيها مرتفعة لفترة طويلة.
في الواقع، ليست هذه الأحداث الغريبة سوى غيض من فيض مما يحصل. ومما يزيد من تعقيدها الآثار غير المؤكدة للتحولات الهيكلية الكبيرة التي تلوح في الأفق، وتشمل الانتقال الضروري إلى الطاقة الخالية من الكربون، وثورة الذكاء الاصطناعي، والعديد من التغييرات الأخرى المدفوعة بالابتكار. أضف إلى ذلك التوترات الجيوسياسية والتراجع عن العولمة الاقتصادية والمالية، ومجموعة واسعة من السيناريوهات القاتمة التي تلوح في الأفق.
ووسط هذا الموقف المعقد والظروف غير التقليدية التي تفسّر الكثير من المتغيرات، فإن التنقل في هذا المشهد سيكون تحدياً لأي شخص. ولكن حتى لو لم نتمكن من توقع كل حالة طوارئ، يمكننا أن نفهم الكثير من خلال تقييم توقعات الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في ما يتعلق بهندسة هبوط اقتصادي ناعم في المدى القريب.
إنها نسخة متطرفة من «المعادلة المختصرة» التي يستخدمها الاقتصاديون للتركيز على عدد قليل من العوامل الرئيسية للتنبؤ بالنتائج. قد لا تفسر هذه العوامل ظاهرة ما بشكل كامل، لكن هذه الاستراتيجية أفضل من الاعتماد على مجموعة كبيرة وغير مفيدة من العوامل غير العملية.
في سياق ما يجري، يطرح النهج التحليلي الذي أقدمه سؤالاً بسيطاً:
بعد ستة أشهر من الآن، ما هي المعلومات الأهم والأكثر قيمة المراد معرفتها بخصوص ما يحدث للاقتصاد العالمي؟
بالنظر إلى الوضع الحالي، أود في المقام الأول أن أعرف كيف أدارت الولايات المتحدة ديناميكيات النمو والتضخم. أو، أكثر من ذلك، أود أن أعرف ما إذا كان الاحتياطي الفيدرالي قد حقق «هبوطاً ناعماً» ساهم بتراجع التضخم نحو هدفه دون التسبب في زيادة حادة في البطالة.
هذه المعلومات مهمة، لأن الاقتصاد العالمي يفتقر حالياً إلى محركات بديلة ويعاني من تفتت تدريجي. انظر إلى تحديات النمو التي تواجه الصين والمملكة المتحدة ومنطقة اليورو، كيف أنها لا تخضع للإصلاحات السياسية السريعة وإلى النظام المالي الدولي، القائم على الاستدانة مع مستويات ديون مرتفعة، هل يستطيع أن يتحمل ارتفاعاً آخر في أسعار الفائدة الأمريكية وتقييماً قوياً للدولار؟ وهل وجدت اليابان الطريق الصحيح لمعرفة كيفية الخروج من سياسة «التحكم في منحنى العائد» بشكل سلس؟
للوهلة الأولى، تبدو احتمالات تحقيق بنك الاحتياطي الفيدرالي هبوطاً ناعماً واعدة. فقد انحسر التضخم من ذروته التي تجاوزت 9% العام الماضي إلى ما يزيد قليلاً على 3% اليوم، ما قربه أكثر نحو هدف 2% المنشود، ويستمر إنفاق الأسر في دفع عجلة النمو الاقتصادي، كما أن الميزانيات العمومية للشركات لا تزال قوية.
وتشير هذه الظروف أيضاً إلى أن الاقتصاد الأمريكي يمكن أن يمتص التأثير التراكمي لمعدلات رفع الفائدة بمقدار خمس نقاط مئوية، ويتجنب في المقابل تأثيرات النمو الصيني المتعثر، وحديث الركود المتكرر في أوروبا.
لكن.. وكما أشار المؤرخ الاقتصادي نيال فيرغسون مؤخراً، يبدو أن «إدارة السياسة النقدية نحو الهبوط السلس ليست مثل قيادة الطائرة على الإطلاق»، وهذا التشبيه ينطبق بشكل خاص على الاحتياطي الفيدرالي الحالي، ولعدة أسباب.
أولاً، «دليل عمل» بنك الاحتياطي الفيدرالي قد عفا عليه الزمن. وفي الواقع، فإن إطاره النقدي الجديد مناسب للعقد السابق من حيث عدم كفاية (الطلب) الكلي، بدلاً من العقد الحالي من عدم كفاية (العرض) الكلي.
ثانياً، إن حيز المناورة المتاح للفيدرالي من أجل تحقيق هبوط سلس مشكوك فيه، لأن هدف التضخم الذي يسعى لتحقيقه قد يكون منخفضاً جداً بالنظر إلى الحقائق الهيكلية الراهنة واتجاهات السوق على المدى البعيد.
ثالثاً، مع تركيز الاحتياطي الفيدرالي المفرط على الظروف الآنيّة، قد ينتهي به الأمر إلى إهمال العقبات التي ستواجهه في المستقبل.
رابعاً، بدء مرحلة الهبوط السلس للفيدرالي جاء متأخراً بعد فترة طويلة أخطأ فيها بتوصيف التضخم على أنه «مؤقت» قبل أن يتدارك الأمر ويسارع إلى تطبيق دورة مكثفة من زيادات الأسعار.
وأخيراً، ليس من الواضح ما إذا كان الفيدرالي قد تعلم ما يكفي من أخطاء التنبؤ والتواصل لإجراء تصحيحات المسار اللازمة للهبوط.
نعم، لقد تحدى الاقتصاد الأمريكي المشككين، وحافظ على نمو قوي أعلى من الاقتصادات الرئيسية الأخرى رغم معدلات الفائدة المرتفعة والتحديات الخارجية. لكن استمرار هذا الأداء الاستثنائي يتوقف على قدرة الفيدرالي على خلق معدل تضخم منخفض ومستقر دون التسبب في ركود. هذا هو التوازن الدقيق المطلوب، وكل ما يحدث سيؤثر بشكل كبير على بقية الاقتصاد العالمي وكيف يتعامل صانعو السياسة مع حالة عدم اليقين الاستثنائية اليوم.
آمل أن نحتفل بحلول نهاية العام بنجاح البنك المركزي الأمريكي في تحقيق هبوط سلس وناجح، وفي قدرة الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي الأوسع على إدارة التحولات الاستراتيجية المثيرة في المستقبل. لكن خوفي يكمن في أن الأمر سيكون أكثر تعقيداً بكثير مما يتوقعه العديد من المحللين الاقتصاديين.
*د. محمد العريان خبير اقتصادي وكبير المستشارين الاقتصاديين لشركة أليانز Allianz
المصدر | بروجيكت سيندكيتالمصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: تضخم البطالة نمو أمريكا الاحتياطي الفيدرالي عدم اليقين الاقتصاد العالمي أسعار الفائدة الاحتیاطی الفیدرالی الاقتصاد العالمی الفیدرالی قد ما یحدث
إقرأ أيضاً:
الذهب يقفز لأعلى مستوى في شهر مع تزايد رهانات خفض الفائدة الأمريكية
ارتفعت أسعار الذهب إلى أعلى مستوى في أكثر من شهر بعدما أثرت أحدث البيانات الاقتصادية الأمريكية على عوائد سندات الخزانة، وذلك في أعقاب القراءة الضعيفة للتضخم الأساسي هذا الأسبوع والتي زادت الرهانات على سياسة اتباع مجلس الاحتياطي الاتحادي (البنك المركزي الأمريكي) سياسة نقدية أكثر تيسيرا.
وارتفع سعر الذهب في المعاملات الفورية 0.8 بالمئة إلى 2716.91 دولار للأوقية (الأونصة) بحلول الساعة 01:40 مساء بتوقيت شرق الولايات المتحدة (1840 بتوقيت جرينتش)، مسجلا أعلى مستوياته منذ 12 ديسمبر كانون الأول. وبلغت الأسعار أعلى مستوى لها على الإطلاق عند 2790.15 دولار في 31 أكتوبر تشرين الأول 2024.
واستقرت العقود الآجلة للذهب في الولايات المتحدة عند 2750.90 دولار بارتفاع بلغ 1.2 بالمئة.
وقالت وزارة العمل الأمريكية الخميس إن طلبات إعانة البطالة لأول مرة ارتفعت إلى 217 ألف طلب بعد التعديل في ضوء العوامل الموسمية في الأسبوع المنتهي في 11 يناير كانون الثاني. وكان استطلاع أجرته رويترز توقع تقديم 210 آلاف طلب.
وقال أليكس إبكاريان الرئيس التنفيذي للعمليات في أليجيانس جولد "كانت طلبات البطالة لأول مرة أكثر من المتوقع، لذا يشير ذلك إلى بعض الضعف في سوق العمل".
وأضاف "شهدنا أيضا انخفاض عائدات سندات الخزانة الأمريكية، لذا نرى أن جاذبية الذهب تستعيد قوتها".
وقلصت عائدات سندات الخزانة القياسية لأجل عشر سنوات مكاسبها وجرى تداولها عند أدنى مستوى في أكثر من أسبوع بعد بيانات مبيعات التجزئة وطلبات البطالة وأسعار الواردات.
وواصلت أسعار الذهب مكاسبها أمس الأربعاء بعد أن أظهرت بيانات ارتفاع التضخم الأساسي في الولايات المتحدة 0.2 بالمئة في ديسمبر كانون الأول بعد ارتفاعه بواقع 0.3 لأربعة أشهر متتالية، وهو ما أعطى أيضا آمالا باتباع سياسة نقدية أكثر تيسيرا.
وتتوقع الأسواق الآن أن يقدم البنك المركزي الأمريكي على خفض أسعار الفائدة بمقدار 37 نقطة أساس بحلول نهاية العام، مقارنة بنحو 31 نقطة أساس قبل صدور بيانات التضخم.
وقال هان تان كبير محللي السوق في مجموعة إكزينيتي "من المتوقع أن يجد الذهب نفسه وسط بيئة داعمة، طالما ظل بإمكان المتعاملين في السوق التمسك بتوقعات خفض أسعار الفائدة من جانب مجلس الاحتياطي الاتحادي في عام 2025".
وعلى الصعيد الجيوسياسي، أسفرت غارات جوية إسرائيلية عن مقتل 77 شخصا على الأقل في قطاع غزة، وذلك بعد ساعات من الإعلان عن التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار لإنهاء 15 شهرا من الحرب في القطاع الفلسطيني.
ويُنظر إلى الذهب باعتباره وسيلة للتحوط من التضخم والغموض الجيوسياسي، لكن أسعار الفائدة المرتفعة تؤثر سلبا على جاذبية المعدن الأصفر الذي لا يدر عائدا.
وبالنسبة للمعادن النفيسة الأخرى، ارتفعت الفضة في المعاملات الفورية 0.5 بالمئة إلى 30.80 دولار للأوقية، وزاد البلاتين 0.4 بالمئة إلى 934.20 دولار، في حين انخفض البلاديوم 2.1 بالمئة إلى 940.60 دولار.