الحرب والهوية والمفارقة: كيف أرجع العدوان الروسي أوروبا الوسطى إلى الخريطة؟
تاريخ النشر: 26th, August 2023 GMT
جاك روبنيك
ترجمة : أحمد شافعي
«هل أنت منشق؟» كذلك سأل أحد الصحفيين ميلان كونديرا وقد أصبح منفيا في فرنسا من وطنه تشيكوسلوفاكيا في منتصف السبعينات من القرن الماضي. فرد صاحب رواية (الوجود الذي لا تحتمل خفته) قائلا: «لا، إنما أنا كاتب». ولم تكن تلك الإجابة عدم اكتراث منه بمحنة من كانوا يعارضون النظام الحاكم في بلده من الداخل، ولكنه كان يخشى أن تلتصق لافتة سياسية برواية، وبصفة أعم بأدب ذي رسالة، وبفن في خدمة فكرة سياسية.
غير أن كونديرا، الذي توفي الشهر الماضي، كان صاحب أفكار، وكان يستكشفها بصفة خاصة في مقالاته، وأكثرها تأثيرا هي (الغرب المخطوف: مأساة أوروبا الوسطى) المنشورة في باريس سنة 1983 والمعاد نشرها بالإنجليزية في وقت سابق من العام الحالي. ذهب كونديرا إلى أن أوروبا الوسطى تنتمي «ثقافيا إلى الغرب، وسياسيا إلى الشرق، وجغرافيًّا إلى الوسط». ولقد كان مأزق البلاد الصغيرة الواقعة بين روسيا وألمانيا هو أن وجودها لم يكن «واضحا بذاته»، لكنه بقي مرتبطا بحيوية ثقافتها، ومتضافرا تاريخيًّا مع تاريخ الغرب الذي «تم اختطافه» منه في عام 1945.
تحدى كونديرا، بوضعه أوروبا الوسطى مرة أخرى على الخريطة، ما كان سائدا آنذاك من مفاهيم خاطئة عن المنطقة التي لم تكن تُرى إلا من خلال منظور سيادة الانقسام الأيديولوجي الشرقي-الغربي. أثارت تلك المقالة التأسيسية جدالا عمَّ أوروبا كلها في الثمانينات وأسهم بتغير لم يقتصر على مفهوم المنطقة لنفسها بل امتد ليشمل الخريطة الذهنية للقارة في أوروبا الغربية.
وكان من العناصر الرئيسية في هذا التغير إعادة اكتشاف التركات الثقافية المتنوعة لأوروبا الوسطى. لكن القضية الأكثر خلافية في جدال الثمانينات تعلقت بعلاقة المنطقة بروسيا التي كانت ـ وتبقى ـ بالنسبة لها «الآخر التأسيسي» (في مقابل الآخر الثاني وهو ألمانيا) الذي تتحدد بالمقابلة معه الهويات والحدود في أوروبا الوسطى.
ومن أدل ما يوضح تضافر الهويات الثقافية مع الهويات السياسية (بما له من أصداء مع النقاشات الراهنة لما بعد الكولونيالية) ما يمكننا العثور عليه في جدال لا ينسى جرى في لشبونة سنة 1988 وشارك فيه كتاب من أوروبا الوسطى (منهم تشيسلاف ميلوش وجيورجي كونراد) ومن روسيا. وبرغم غياب كونديرا فيزيقيا عن ذلك النقاش، فإن مقالته كانت جزءا كبيرا منه. انتقد جوزيف برودسكي ـ الشاعر المنفي من لينينجراد ـ مفهوم كونديرا لأوروبا الوسطى واعتبره مجتمعا متخيَّلا عديم الجوهر:
«باسم الأدب، ما من شيء اسمه ’أوروبا الوسطى’. ثمة أدب بولندي، وأدب تشيكي، وأدب سلوفاكي، وأدب صرب كرواتي، وأدب مجري، وهلم جرا. ومن المستحيل أن نتكلم عن هذا المفهوم حتى باسم الأدب. فهو منطو على تناقض لفظي».
ميلوش: Divide et impera [فرِّق تسد]. هذا مبدأ استعماري، وأنت تناصره.
برودسكي: فرِّق تسد، من أي وجه يا تشيسلاف؟ أنا لا أفهمك...هل يمكن أن تكون أكثر تحديدا؟
ميلوش: مفهوم أوروبا الوسطى ليس اختراعا من كونديرا. يسيطر عليك هاجس بأنه اختراع من كونديرا. إطلاقا. أوروبا الوسطى مفهوم مناهض للسوفييت مستلهم من احتلال هذه البلاد...وإنني أخشى أن في الأدب الروسي بلا شك تابو وذلك التابو هو الإمبراطورية.
خلال ثمانينات القرن الماضي انتقلت فكرة أوروبا الوسطى من الثقافة إلى السياسة، من «لحظة كونديرا» إلى «لحظة هافل» Havel، فمهدت الأرض بذلك إلى التحرر من الحظيرة السوفييتية.
وبعد مضي 40 سنة، فإن ترجمة مقالة كونديرا في غضون سنة إلى نحو عشرين لغة (أحدثها التايلندية والكورية) لظاهرة تشير إلى اكتساب المقالة أهمية جديدة في سياق مرتبط بحرب أوكرانيا وعودة «السؤال الروسي».
كانت حجة كونديرا في عام 1983 هي أن روسيا تمثل «حضارة أخرى» ترتكز تاريخيا على صعود الدولة الإمبريالية الأوتقراطية التي اندمجت فيها السلطة الدينية بالسلطة السياسية تاركة مجالا ضئيلا أو لا مجال بالمرة للمجتمع المدني والاستقلال الذاتي للمجال الثقافي، وهما شرطان من شروط الحرية مثلما فهمها الغرب.
لقد ارتبطت «أَوْرَبَة» روسيا بتوسعها غربا في أوروبا. ومن هذا المنظور كانت روسيا السوفييتية استمرارا لروسيا الإمبريالية عبر طرق أخرى (وإن تكن في بعض الأحيان طرقا مماثلة). ونسخة بوتين تقدم مركَّبا من الاثنتين.
تتعلق حرب روسيا على أوكرانيا بما لم يكتمل من الأعمال ومجالات النفوذ ما بعد الامبريالية. وتتعلق أيضا بحدود أوروبا الثقافية والسياسية الحقيقية والمتخيَّلة، ومنها النادرة القديمة عما يشكل أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية.
السبب الثاني لتجدد الاهتمام بمقالة كونديرا هو أوكرانيا ذاتها. فلقد أصبحت روسيا ـ بشنها الحرب ـ هي الآخر التأسيسي للأمة الأوكرانية التي تعيش الآن قدر «الأمم الصغيرة في أوروبا الوسطى» ـ على حد وصف كونديرا ـ التي لا يمكن اعتبار محض بقائها أمرا مسلَّما به. وهذا القلق الوجودي ليس مسألة أرقام. فلأسباب تاريخية اشترك في هذا المأزق مليونان من لاتفيا، و10 ملايين من التشيك، و40 مليونا من الأوكرانيين، بما بينهم بطبيعة الحال من اختلافات. وكانت حرب بوتين بمثابة حافز، وأوكرانيا اليوم ترى نفسها جزءا من «الغرب المخطوف».
وفيما تعيد الحرب تعيين الحدود والهويات السياسية، فإن ثمة من يذكرنا بأن لفيف كانت لفوف قبل الحرب العالمية الثانية وليمبرج قبل الحرب العالمية الأولى وأن جزءا من أوكرانيا كان جزءا من أوروبا الوسطى حسبما فهمها كونديرا. واليوم لا تنحو لفيف وحدها إلى الغرب وإنما أوكرانيا كلها، والغرب الأقرب إليها هو أوروبا الوسطى. ومن مفارقات التاريخ أن أوروبا الوسطى ـ التي وصفها كونديرا يوما بالغرب المخطوف ـ تعيد تعريف نفسها إذ تتسع لأوكرانيا، أي إذ تتوسع باتجاه الشرق.
جاك روبنيك أستاذ البحوث بمعهد العلوم السياسية في باريس.
عن صحيفة الجارديان
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی أوروبا
إقرأ أيضاً:
أوكرانيا تخسر 40% من الأراضي التي سيطرت عليها في مقاطعة كورسك الروسية
أفادت تقارير بأن أوكرانيا فقدت أكثر من 40% من الأراضي التي سيطرت عليها في مقاطعة كورسك الروسية، وفق تصريحات لمسؤول عسكري أوكراني رفيع المستوى. وتراجعت المساحة التي كانت تحت سيطرة القوات الأوكرانية من 1,376 كيلومترًا مربعًا في ذروة التوغل إلى حوالي 800 كيلومتر مربع حاليًا.
اعلانيأتي هذا التراجع بعد نشر روسيا عشرات الآلاف من الجنود في المنطقة، في استجابة سريعة لتوغل مفاجئ نفذته قوات كييف في أغسطس الماضي، مما شكل أكبر هجوم أوكراني على الأراضي الروسية منذ الحرب العالمية الثانية.
في بيان له، أكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يسعى إلى إخراج القوات الأوكرانية من المنطقة بحلول 20 يناير المقبل.
وعلّق زيلينسكي قائلاً: "كل الضربات الاستعراضية بالصواريخ الجديدة ليست مجرد استعراض، بل جزء من مهمة واضحة لتحقيق هذا الهدف".
Relatedماذا قدمت روسيا لكوريا الشمالية مقابل انخراطها في القتال ضد أوكرانيا؟زيلينسكي: تدمير قدرة أوكرانيا على تصدير الحبوب يهدد الأمن الغذائي في دول مثل مصر وليبيا ونيجيرياروسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ بداية الحرب.. وبوتين يحذر الغرببايدن يأذن بتزويد أوكرانيا بسلاح ألغام جديد تحرّمه 160 دولة من أجل صدّ التوغل الروسيودعا زيلينسكي جنرالات الجيش الأوكراني إلى الانضمام للجنود في الخنادق لتعزيز الروح المعنوية، مشددًا: "الجنرال الذي لم يكن في خندق ليس جنرالاً حقيقيًا، مهما كانت خبرته".
جندي أوكراني يودّع رفيقه الذي قُتل خلال القتال مع القوات الروسية في إقليم كورسك في إيربين، منطقة كييف، أوكرانيا، 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024.Evgeniy Maloletka/APمن جهتها، أعلنت السلطات الروسية أنها أجلت أكثر من 120,000 مدني من المناطق المتضررة نتيجة التوغل الأوكراني. وشهدت العملية استيلاء قوات كييف على عدد من القرى وأسر مئات الجنود الروس.
تصاعد التوتر في الحرب الأوكرانية الروسية الأسبوع الماضي بعد سماح واشنطن لكييف باستخدام صواريخ بعيدة المدى داخل الأراضي الروسية، في خطوة تمثل تحولًا ملحوظًا في الموقف الأمريكي. وردت موسكو على هذه الخطوة بتجربة صاروخ باليستي جديد، ما أثار مخاوف دولية من احتمال تحوّل خطير في الصراع المستمر منذ قرابة ثلاث سنوات.
Go to accessibility shortcutsشارك هذا المقالمحادثة مواضيع إضافية روسيا تطلق صاروخاً عابراً للقارات وتُعدل عقيدتها العسكرية.. ما الذي نعرفه عن ترسانتها النووية؟ زيلينسكي يقرّر سحب الأوسمة الوطنية من داعمي روسيا ويكشف تفاصيل جديدة عن التصعيد حين يجتمع الأضداد ولا يلتقيان.. مظاهرتان في شوارع بورتو: واحدة مناهضة الهجرة وأخرى ضد الفاشية الغزو الروسي لأوكرانيافولوديمير زيلينسكيفلاديمير بوتينصاروخجو بايدنالحرب في أوكرانيا اعلاناخترنا لك يعرض الآن Next مباشر. الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة وصواريخ حزب الله تنهمر على تل أبيب يعرض الآن Next حزب الله يمطر بتاح تكفا الإسرائيلية ب 160 صاروخا ردّاً على قصف بيروت يعرض الآن Next صحيفة عبرية اعتبرته "فصلاً عنصرياً".. ماذا يعني إلغاء الاعتقال الإداري للمستوطنين بالضفة المحتلة؟ يعرض الآن Next من بينهم مشاهير وصحف عالمية.. نزوح جماعي عن منصة "إكس" لكن إلى أين يذهبون؟ يعرض الآن Next حين يجتمع الأضداد ولا يلتقيان.. مظاهرتان في شوارع بورتو: واحدة مناهضة الهجرة وأخرى ضد الفاشية اعلانالاكثر قراءة 2,700 يورو لكل شخص.. إقليم سويسري يوزع فائض الميزانية على السكان "في وقت قياسي".. الإمارات تعلن القبض على المشتبه بهم في حادثة قتل الحاخام تسفي كوغان جرائم حرب وإبادة: قادة صدرت بحقهم مذكرات اعتقال من الجنائية الدولية.. تعرف عليهم؟ تحذير أوروبي شديد اللهجة لأوربان: دعوة نتنياهو انتهاك للالتزامات الدولية حب وجنس في فيلم" لوف" اعلانLoaderSearchابحث مفاتيح اليومكوب 29ضحاياالصراع الإسرائيلي الفلسطيني تدمرقصفالاتحاد الأوروبيجنوب لبناناعتداء إسرائيلاحتجاجاتأزمة المناخحزب اللهعاصفةالموضوعاتأوروباالعالمالأعمالGreenNextالصحةالسفرالثقافةفيديوبرامجخدماتمباشرنشرة الأخبارالطقسآخر الأخبارتابعوناتطبيقاتتطبيقات التواصلWidgets & ServicesJob offers from AmplyAfricanewsعرض المزيدAbout EuronewsCommercial ServicesTerms and ConditionsCookie Policyسياسة الخصوصيةContactPress officeWork at Euronewsتعديل خيارات ملفات الارتباطتابعوناالنشرة الإخباريةCopyright © euronews 2024